Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 54-54)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
" إذا " منصوب بجوابه ، أي : فقلْ ، سلامٌ عليكم وَقْتَ مجيئهم أي : أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك ، وهذا معنى واضح . وقال أبو البقاء : " والعاملُ في " إذا " معنى الجواب ، أي : إذا جاءوك سَلِّمْ عليهم " ولا حَاجَة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى ؛ لأن كونه يُبَلِّغُهُمُ السَّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرَّحْمَةَ ، وأنه من عَمِلَ سُوءاً بجَهَالَةٍ غفر له لا يقوم مقامه السَّلامُ فقط ، وتقديره يفضي إلى ذلك . وقوله : " سلامٌ " مبتدأ ، وجاز الابتداء به وإن كان نَكِرَةً ؛ لأنه دُعَاءٌ ، والدُّعَاءُ من المُسَوِّغَاتِ . وقال أبو البقاء : " لما فيه من معنى الفِعْلِ " وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين ، وإنما هو شيء نُقِلَ عن الأخفش : أنه إذا كانت النكرة في معنى الفِعْل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل ، وذلك نحو : " قائم أبواك " ونقل ابن مالك أن سيبويه أوْمَأ إلى جوازه ، واستدلال الأخفش بقوله : [ الطويل ] @ 2182 - خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِياً مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ @@ ولا دليل فيه ؛ لأنَّ " فعيلاً " يقع بلفظ واحدٍ للمفرد وغيره ، فـ " خبير " خَبَرٌ مقدَّمٌ واسْتَدَلَّ له أيضاً بقول الآخر : [ الوافر ] @ 2183 - فَخَيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ إذَا الدَّاعِي المُثَوِّبُ قَالَ : يَا لاَ @@ فـ " خير " مبتدأ ، و " نحن " [ فاعل ] سَدَّ مَسَدَّ الخبر . فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون " خير " خبراً مُقدَّماً , و " نحن " مبتدأ مؤخر ؟ قيل : لئلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بين " أفعل " و " مِنْ " بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً ، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ . و " عليكم " خَبَرُهُ ، و " سلامٌ عليكم " أبلغ من " سَلاَماً عليكم " بالنصب ، وقد تقررَّ هذا في أوَّلِ " الفاتحة " عند قراءة " الحَمْدُ " و " الحَمْدَ " . وقوله : " كَتَبَ رَبُّكُم " في مَحَلِّ نصب بالقولِ ، لأنه كالتفسير لقوله : " سلامٌ عليكم " . فصل في نزول الآية قال عكرمة : نزلت في الذين نَهَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم عن طردهم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بَدَأهُمْ بالسلام . وقال عطاء : نزلت في أبي بكرٍ ، وعُمَرَ ، وعُثمانَ ، وعلي ، وبلال ، وسالم ، وأبي عُبَيْدةَ ، ومُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ ، وحَمْزَة ، وجعفر ، وعُثْمانَ بْنِ مَظْعُون ، وعمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سَلَمَة بْنِ عَبْدِ الأسَدِ . قال ابن الخطيب : " وها هنا إشْكَالٌ ، وهو أن النَّاسَ اتفقوا على أن هذه السُّورة نزلت دفعةً واحدةً ، وإذا كان كذلك ، فكيف يمكن أن يُقَالَ في كُلِّ واحدٍ من آيات هَذِهِ السُّورة : إن سبب نزول هذه الآية الأمْرُ الفلاني بِعَيْنِهِ ، بل الأقْرَبُ أن تُحْمَلَ هذه الآية على عمومها ، فكل من آمن باللِّهِ دخل تحت هذا التشريف " . فصل فيما يطلق عليه لفظ " السلام " قال المبرِّد : السَّلامُ في اللغة على أربعة أشياء : فمنها سلمت سلاماً ، وهو معنى الدعاء . ومنها أنه اسْمٌ من أسْمَاء اللَّهِ تعالى . ومنها الإسْلام . ومنها الشَّجَرُ العظيم أحْسَبُهُ مُسَمًّى بذلك لسلامتِهِ من الآفَاتِ . ومنها أيضاً اسم للحِجَارَةِ الصَّلْبَةِ ، وذلك أيضاً لسَلامتِهَا من الرَّخَاوَةِ . ثم قال الزجَّاج : " سلام عليكم " هاهنا يحتمل أن يكون له تأويلان : أحدهما : أن يكون مَصْدر : سَلَّمت تسليماً وسلاماً ، مثل " السَّراح " من " التَّسْرِيح " ، ومعنى سلمت عليه سلاماً : دعوت بأن يَسْلَمَ من الآفات في دينِهِ ونَفْسِهِ ، والسَّلامُ بمعنى التَّسْلِيم . والثاني : أن يكون " السَّلامُ " جَمْعَ " السلامة " ، فمعنى قولك : السَّلامُ عليكم : السَّلامةُ عليكم . وقال ابن الأنباري : قال قومٌ : السلامُ هو الله تعالى ، فمعنى السَّلامُ عليكم [ يعني الله عليكم ] أي : على حفظكم ، وهذا بَعِيدٌ في هذه الآية لتنكير السَّلامِ ، ولو كان مُعَرَّفاً لصحَّ هذا الوَجْهُ . فصل في الكلام على " السلام " قال قوم : إنَّه - تعالى - لمَّا أمَرَ الرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن يقول لهم : { سلامٌ عَليْكُمْ كَتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة } كان هذا من قول الله فَيَدُلُّ على أنه - تعالى - قال لهم في الدُّنْيَا : سلامٌ عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة . ومنهم من قال : بل هذا كلامِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم . فصل في معنى " كتب " كتب كذا [ على فلان ] يفيد الإيجاب ، أي : بمعنى قَضَى ، وكلمة " على " أيضاً تُفيدُ الإيجابَ ، ومجموعهما مُبالغة في الإيجاب ، وهذا يقتضي كونه - تعالى - راحماً لِعِبَادِهِ على سبيل الوُجُوبِ ، واختلفوا في ذلك الوجوب ؟ فقال أهْلُ السُّنَّةِ : له - سُبْحَانهُ وتعالى - أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كَيْفَ شَاءَ وأراد إلاَّ أنه أوجب الرَّحْمَة على نَفْسِهِ على سبيل الفَضْلِ والكرم . وقالت المعتزلةُ : إنّ كونه عالماً بِقُبْحِ القَبَائِح ، وعالماً بكونه غنيّاً عَنْهَا يمنعه من الإقْدامِ على القَبَائِحِ ، ولو فعله كان ظَالِماً ، والظُّلْمُ قَبِيحٌ ، والقُبْحُ منه مُحَالٌ . فصل في الدلالة في الآية دلَّتْ هذه الآية على جواز تسمية ذاتِ الله - تعالى - بالنفس , أيضاً قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] يَدُلُّ عليه ، والنَّفْسُ هنا بمعنى الذَّاتِ والحقيقة ، لا بمعنى الجِسْمِ ، والدَّمِ ؛ لأنه - تعالى - مُقدَّسٌ عَنْهُ ؛ لأنه لو كان جِسْماً لكان مُرَكَّباً ، والمُرَكَّب ممكن . وأيضاً إنه أحَدٌ لا يكون مُرَكَّباً ، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً . وأيضاً الأجْسَامُ متماثلةٌ في تمام الماهية ، فلو كان جِسْماً لحصل له مِثْل ، وذلك بَاطِلٌ ؛ لقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] . فصل في دحض شبهة المعتزلة قالت المعتزلة : " كَتَبَ ربُكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ " يُنَافِي كونه تعالى يخلق الكُفْرَ في الكَافِرِ ، ثم يُعَذِّبُهُ عليه أبَد الآبَادِ ، وينافي أن يقال : إنه يمنعه من الإيمان ، ثم يأمره حال ذلك المَنْعِ بالإيمان ، ثم يعذبه على ذلك . وأجيب بأنه - تعالى - نَافِعٌ ضارُّ محيي مميت ، فهو - تعالى - فعل تلك الرَّحْمَةَ البالغة ، وفعل هذا القَهْرَ البالغ ولا مُنافَاة بين الأمرين . قوله : " أنَّهُ ، فأنَّهُ " قرأ ابن عامر ، وعاصم بالفتح فيهما ، وابن كثير وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بالكَسْرِ فيهما ، ونافعٌ بفتح الأولى ، وكسر الثانية ، وهذه القراءاتُ الثلاثُ في المُتَواتِرِ ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع ، هذه رواية الزّهراوي عنه ، وكذا الدَّاني . وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافعٍ ، فيحتمل أن يكون عنه رَوَايَتَانِ . فأمَّا القرَاءةُ الأولَى فَفَتْحُ الأولَى فيها من أربعة أوجه : أحدها : أنها بدلٌ من " الرحمة " بدل شيء من شيء ، والتقدير : " كتب على نفسه أنه من عمل " إلى آخره ، فإنَّ نفس هذه الجمل المتضمنةِ للإخبار بذلك رَحْمَة . والثاني : أنها في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : " عليه أنه من عمل " إلى آخره . والثالث : أنها [ فتحت ] على تقدير حَذْفِ حرف الجرَّ ، والتقدير : " لأنه من عمل " ، فلما حُذِفت " اللاَّمُ " جرى في مَحَلِّهَا الخلاف المشهور . الرابع : أنها مَفْعُولٌ بـ " كتب " ، و " الرحمة " مفعول من أجلِهِ ، أي : أنه كتبَ أنَّهُ من عملَ لأجل رحمته إياكم . قال أبو حيَّان : وينبغي ألاَّ يجوز ؛ لأنَّ فيه تَهْيِئَةَ العامل للعمل ، وقطعه عنه . وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه : أحدها : أنها في مَحَلِّ رفع على أنها مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فَغُفْرَانُهُ ورَحْمَتُهُ حاصلان أو كائنان ، أو فعليه غفرانه ورحمته . وقد أجمع القُرَّاءُ على فتح ما بعد " فاء " الجزاء في قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 63 ] { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } [ الحج : 4 ] كما أجمعو على كسرها في قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } [ الجن : 23 ] . الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : فأمره أو شأنه أنه غفورٌ رحيم . الثالث : أنها تكرير للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعطفت عليها بالفاء ، وهذا مَنْقُولٌ على أبي جَعْفَرٍ النحاس ، وهذا وهمٌ فاحشٌ ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أحدُ مَحْذُوريْنِ : إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خبر ، أو شرطٍ بلا جواب . وبيانُ ذلك أنَّ " مَنْ " في قوله : " أنه مَنْ عَمِلَ " لا تخلو : إمَّا أن تكون مَوْصُولَةً أو شرطية ، وعلى كلا التقديرين ، فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، فلو جعلنا " أن " الثانية مَعْطُوفَةً على الأولى لَزِمَ عدمُ خبر المبتدأ ، وجواب الشرط ، وهو لا يجوز . وقد ذكر هذا الاعتراض ، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال : " ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون } [ المؤمنون : 35 ] ودخلت " الفاء " في " فأنه غفور " على حدِّ دخولها في { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } [ آل عمران : 188 ] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُون } [ آل عمران : 188 ] إلاَّ أنه هذا ليس مثل " أيَعدكُمْ " ؛ لأن هذه لا شرط فيها ، وهذه فيها شَرْطٌ ، فيبقى بغير جواب . فقيل : الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره : غفر لهم " انتهى . وفيه بُعْدٌ ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ ، وكان ينبغي أن يجيب به هنا ، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك . الرابع : أنها بدلٌ من الأولى ، وهو قول الفرَّاء والزَّجَّاج وهذا مَرْدُودٌ بشيئين : أحدهما : أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ ، وهذا مقترن بحرف العطف ، فامتنع أن يكون بدلاً . فإن قيل : نجعل " الفاء " زائدة ، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة ، وهو شيء قال به الأخفش . وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر ، وهو خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب . والثاني من الشيئين : خُلُوُّ المبتدأ ، أو الشرط عن الخبر ، أو الجواب كما تقدَّم تقريره ، فإن قيل : نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل : هذا بعيد عن الفَهْمِ . الخامس : أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ ، تقديره : " فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ " أي : اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره : فعليه أنه غفورٌ ، لأنه يرفع به وإن لم يعتمد ، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً . وأمَّا القراءة الثانية : فكسر الأولى من ثلاثة أوجه : أحدها : أنها مُسْتَأنَفَةٌ ، وأن الكلام تامُّ قبلها ، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله : { كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ } . والثاني : أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ ، أي : قال الله ذلك ، وهذا في المعنى كالذي قبله . والثالث : أنه أجري " كتب " مُجْرَى " قال " ، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح ، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين . وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين : أحدهما : أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً لـ " من " الموصُولةِ ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً . والثاني : أنها عُطِفَتْ على الأولى ، وتكريرٌ لها ، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ ، والشرط بلا جزاءٍ ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ . وأجاب أبو البقاء عن ذلك بأن خبر " من " محذوف دلَّ عليه الكلامُ ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يجيب بهذا الجواب في المفتوحتين عند من جعل الثانية تَكْرِيراً للأولى , أو بَدَلاً منها ثم قال : ويجوز أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً ، أي : فإنه غفورٌ له . قال شهاب الدين : قوله : " ويجوز " ليس بجيِّدٍ ، بل كان ينبغي أن يقول : ويجب ؛ لأنه لا بُدَّ من ضميرٍ عائدٍ على المبتدأ من الجملة الخبرية ، أو ما يقوم مُقَامَهُ إن لم يكن نفس المبتدأ . وأمَّا القراءةُ الثالثة : فيُؤخَذُ فتْحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك , وهو ظاهر . وأمَّا القراءة الرابعة : فكذلك . وقال أبو شامة : " وأجاز الزَّجَّاج كَسْرَ الأولى ، وفَتْحَ الثانية ، وإن لم يقرأ به " . قال شهاب الدين : وقد قدَّمْتُ أنَّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدَّاني نقلاها عنه ، فكأن الشَّيْخَ لم يَطَّلِعُ عليها . وتقدَّم أن سيبويه لم يَرْو عن الأعْرَجِ إلاَّ كقراءة نافعٍ فهذا مما يصلح أن يكون عُذْراً للزَّجَّاج ، وأمَّا أبو شَامَةَ فإنه مُتَأخرٌ ، فعدم اطِّلاعِهِ عَجيبٌ . و " الهاء " في " أنه " ضمير الأمر والقِصَّةِ ، و " مَنْ " يجوز أن تكون شرطيَّة ، وأن تكون موصولة ، وعلى كل تقدير فهي مُبْتَدَأةٌ ، و " الفاءُ " ما بعدها في محلِّ جَزْم جواباً إن كانت شرطاً ، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصُولة ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : غفورٌ له . و " الهاء " في " بعده " يجوز أن تعود على " السُّوء " ، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله : { ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] والأوَّل أوْلَى ؛ لأنه أصْرَحُ ، و " منكم " مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو حالٌ من فاعل " عمل " ، ويجوز أن تكون " مِنْ " للْبَيَانِ ، فيعمل فيها " أعني " مقدراً . وقوله : " بجهالةٍ " فيه وجهان : أحدهما : أنه مُتَعلِّق بـ " عمل " على أن " الباء " للسَّبَيَّة ، أي : عمله بسبب الجَهْلِ ، وعبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضحٍ . والثاني : وهو الظَّاهِرُ أنه للحالِ ، أي : عمله مُصَاحباً للجَهَالَةِ ، " ومِنْ " في " مِنْ بعده " لابتداء الغاية . فصل في تحرير معنى الآية قال الحسنُ : كل من عمل مَعْصِيَةً فهو جَاهِلٌ ، ثُمَّ اختلفُوا ؛ قال مُجاهد : لا يعلمُ حلالاً من حرامٍ فمن جهالته ركب الأمر . وقيل : جاهلٌ بما يورثه ذلك الذَّنْبُ . وقيل : جهالتُهُ من حيث إنه آثر المَعْصِيَةَ على الطَّاعةِ ، والعاجل القليل على الآجل الكثير ، ثُمَّ تاب من بعد ورجع عن ذنْبِهِ ، وأصلح عمله . قيل : وأخْلَصَ توْبَتَهُ فإنه غفورٌ رحيمٌ .