Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 65-67)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه - تعالى - قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم ، وتارةً من تحت أرجلهم ، فقيل : هذا حقيقة . فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح ، والصَّاعقةِ ، والرِّيحِ ، والصَّيْحةِ ، ورَمْي أصحاب الفيل . وأما الذي من تحت أرجلهم : كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ ، وقيل : حبس المطر والنبات . وقيل : هذا مجاز . قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة : " مِنْ فَوْقِكُمْ " أي : من الأمراء ، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ . قوله : { عَذَاباً مِنْ فَوقكُم } يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً بـ " نبعث " وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ لـ " عذاباً " أي : عذاباً كائناً من هاتين الجِهَتين . قوله : { أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } عطف على " يبعث " . والجمهور على فتح الياء من " يَلْبِسَكُمْ " وفيه وجهان : أحدهما : أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام ، ومعنى خَلْطِهِم : إنْشابُ القتالِ بينهم ، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي : [ الكامل ] @ 2190 - وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يِدِي فَتَرَكْتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُمْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرٍ وَآخَرَ مُسْنَدِ @@ وهذه عبارة الزمخشري : فجعله من اللَّبْسِ الذي هو الخَلْطُ ، وبهذا التفسير الحسن ظهر تعدِّي " يلبس " إلى المفعول ، و " شِيَعاً " نصب على الحال ، وهي جمع " شِيْعة " كـ " سِدْرَة " و " سِدَر " . وقيل : " شِيعاً " منصوب على المصدر من معنى الفعل الأول , أي : إنه مصدر على غير الصدر كقعدت جلوساً . قال أبو حيَّان : " ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة " . ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً كـ " أتَيْتُهُ رَكْضاً " أي : راكضاً ، أو ذا ركض . وقال أبو البقاء : والجمهور على فتح الياء ، أي : يَلْبِسُ عليكم أموركم ، فحذف حرف الجر والمفعول ، والأجود أن يكون التقدير : أو يَلْبِسُ أموركم ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه . فصل في معنى الآية قال المُفَسِّرُونَ : معناه : أن يجعلكم فرقاً ، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة . وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ ، قال : " لما نزلت هذه الآية { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعُوذُ بِوَجْهِكَ " قال : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : " أعُوذُ بِوَجْهِكَ " . قال : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم : " هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ " وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ ، عن أبيه قال : " أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ ، فدخل وصلَّى ركعتين ، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً ، ثم قال : " سَألْتُ ربِّي ثلاثاً : ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها ، وسَألْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها ، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا " وعن ابن عُمَرَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد ، فسأله الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين ، ومنعه واحدة ، سأله ألاَّ يُسَلِّطَ على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألا يهلكهم بالسِّنين ، فأعطاه ذلك ، وسأله ألاَّ يجعل بَأسَ بعضهم على بَعْضٍ فمنعه ذلك . فصل في مزيد بيان عن الآية ظاهر قوله تعالى : { أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا } أنه يجعلهم على الأهْوَاءِ المختلفة ، والمذاهب المُتنافيةِ ، والحق منها ليس إلا لواحدٍ ، وما سواه فهو باطل ، وهذا يقتضي أنه - تعالى - قد يحمل المُكَلَّف على اعتقاد الباطِلِ . وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض } لا شَكَّ أن أكثرها ظُلم ومعصية ، وهذا يدل على كونه - تعالى - خالقاً للخير والشر . وأجاب الخَصْمُ عنه بأن الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قادر عليه ، وعندنا أن الله - تعالى - قَادِرُ على القُبْحِ ، إنما النزاع في أنه - تعالى - هل يفعل ذلك أم لا ؟ وأجيب بأن وَجْهَ التَّمَسُّكِ بالآية شيء آخر ، فإنه قال : " هُوَ القادرُ " على ذلك ، وهذا يفيد الحَصْرَ ، فوجب أن يكون غَيْرُ الله غَيْرَ قادر على ذلك ، وقد حصل الاختلافُ بين الناس ، فثبت بِمُقْتَضَى الحَصْرِ المذكور ألاَّ يكون ذلك صَادِراً عن غير الله ، فوجب أن يكون صادراً عن الله ، وهو المطلوب . فصل في إثبات النظر والاستدلال قالت المعتزلة والحَشَويَّة : هذه الآية من أدَلِّ الدلائل على المَنْعِ من النظر والاستدلال ؛ لأن فَتْحَ تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف ، والمُنازعة في الأديان ، وتفريق الخلائقِ إلى هذه المذاهبِ والأديان ، وذلك مَذْمُومٌ بهذه الآية ، والمُفْضِي إلى المذموم مَذْمُومٌ ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مَذْمُوماً . وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النَّظَرِ والاستدلال كما تقدَّم مِرَاراً . فصل في قراءة " يلبسكم " قرأ أبو عبد الله المدني : " يُلْبِسَكُمْ " بضم الياء من " ألْبَسَ " رباعياً ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون المفعول الثَّاني مَحْذُوفاً ، تقديره أو يُلْبِسكم الفِتْنَةَ ، و " شيعاً " على هذا حالٌ ، أي : يلبسكم الفِتْنَةَ في حال تفرُّقِكُمْ وشَتَاتِكُمْ . الثاني : أن يكون " شيعاً " هو المفعول الثاني ، كأنه جعل النَّاس يلبسون بعضهم مجازاً كقوله : [ المتقارب ] @ 2191 - لَبِسْتُ أنَاساً فَأفْنَيْتُهُمْ وأفْنَيْتُ بَعْدَ أنَاسٍ أنَاسَا @@ والشِّيعَةُ : من يَتَقوَّى بهم الإنسان ، والجمع : " شِيع " كما تقدم ، و " أشْيَاع " ، كذا قاله الراغب ، والظاهر أن " أشْيَاعاً " جمع " شِيعَ " كـ " عنب " و " أعْنَاب " ، و " ضِلَع " و " أضْلاع " و " شيع " جمع " شِيْعَة " فهو جمع الجمع . قوله : " ويُذيْقَ " نَسَقٌ على " يَبْعَث " ، والإذاقَةُ اسْتِعَارةٌ ، وهي فاشية : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَر } [ القمر : 48 ] { ذُقْ إِنَّكَ } [ الدخان : 49 ] ، { فَذُوقُواْ ٱلعَذَابَ } [ الأنعام : 30 ] . وقال : [ الوافر ] @ 2192 - أذَقْنَاهُمْ كُئُوسَ المَوْتِ صِرْفاً وَذَاقُوا مِنْ أسِنَّتِنَا كُئُوسَا @@ وقرأ الأعمش : " ونُذِيِقَ " بنون العظمة ، وهو الْتِفَاتٌ ، فائدته تعظيم الأمر ، والتحذير من سطوَتِهِ . قوله : { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون } . قال القاضي : هذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد بتصريف الآيات ، وتقرير هذه البيِّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل ، ويفقه الكل تلك البيِّنات . وأجيب بأن ظاهِرَ الآية يَدُلُّ على أنه - تعالى - ما صرَّف هذه الآيات إلا لمن فقه وفهم ، فأما من أعْرَضَ وتمرَّدَ فهو تعالى ما صرَّف هذه الآيات لهم . قوله تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } قوله : " وكذَّبَ بِهِ " " الهاء " في " به " تعود على العذاب المُتقدِّمِ في قوله : { عذاباً مِنْ فَوقِكُمْ } قاله الزمخشري . وقيل : تعود على القُرْآنِ . وقيل : تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة . وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بعيد ؛ لأنه خُوطبَ بالكاف عقِيبَهُ ، فلو كان كذلك لقال : وكذب به قومك ، وادِّعاءُ الالتفات فيه أبْعَدُ . وقيل : لا بد من حَذْفِ صِفَةٍ هنا ، أي : وكذب به قومك المُعَانِدُونَ ، أو الكافرون ؛ لأن قومه كلهم لم يُكَذِّبُوهُ ، كقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [ هود : 46 ] أي الناجين ، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جداً ، بخلاف العكس . وقرأ ابن أبي عبلة : " وكذَّبت " بتاء التأنيث ، كقوله تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ } [ الشعراء : 160 ] باعتبار الجماعة . قوله : { وهُوَ الحقُّ } في هذه الجملة وجهان : الظاهر منهما : أنها استئناف . والثاني : أنها حالٌ من " الهاء " في " به " ، أي : كذبوا به في حالِ كونه حقَّا ، وهو أعظم في القبح . والمعنى أن الضمير في " به " للعذاب ، فمعنى كونه حقَّا لا بد أن ينزل بهم ، وإن عاد إلى القرآن ، فمعنى كونه حقّاً ، أي : كتاب منزل من عند الله ، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي : أنهم كذَّبوا كون هذه الأشياءِ دلالاتٍ ، وهو حق . قوله : " عَلَيْكُمْ " مُتعلِّقٌ بما بعده ، وهو توكيد ، وقدم لأجل الفواصِلِ ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله : " بِوَكِيلٍ " ؛ لأنه لو تَأخَّرَ لجاز أن يكون صفة له ، وهذا عند من يُجِيزُ تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ، وهو اختيار جماعةٍ ، وأنشدوا عليه : [ الخفيف ] @ 2193 - غَافِلاً تَعْرُضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْ ءِ فَيُدْعَى وَلاتَ حينَ إبَاءُ @@ فقدم " غافلاً " على صاحبها ، وهو " المرء " ، وعلى عاملها وهو " تَعْرُضُ " فهذا أوْلَى . ومنه [ الطويل ] @ 2194 - لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً إليَّ حَبِيباً إنَّهَا لَحَبِيبُ @@ أي : إليَّ هيمان صادِياً ، ومثله : [ الطويل ] @ 2195 - فَإن يَكُ أذْوَادٌ أصِبْنَ ونِسْوَةٌ فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ @@ " فَرْغاً " حال من " يقتل " ، و " حبال " بالمهملة اسم رَجُلٍ مع أن حرف الجر هنا زائد ، فجوازه أوْلَى مما ذكرناه . فصل في المراد بالآية معنى الآية : قل لهم يا محمد : لست عليكم برَقيبٍ , وقيل : بمُسَلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم ، وأجازيكُمْ على تَكْذِيبكُمْ ، وإعراضكم عن قَبُولِ الدلائل ، إنما أنا رسول ومُنْذِرٌ ، والله المُجَازِي لكم بأعمالكم . قال ابن عبَّاس والمفسرون : نسختها آية القتال ، وهو بعيد . قوله : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } [ الأنعام : 67 ] يجوز رفع " نبأ " بالابتدائية ، وخبره الجَارُّ قَبلهُ ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله ، ويجوز أن يكون " مستقر " اسم مصدر أي : استقرار [ مكان ، أو زمان ؛ ] لأن ما زاد على الثُّلاثيَّ كان المصدر منه على زنةِ اسم المفعول ؛ نحو : " المدخل " و " المخرج " بمعنى " الإدخال " و " الإخراج " ، والمعنى أن لك وعْد ووعيد من الله استقرار ، ولا بد وأن يعلموا [ أن الأمر كما أخبر الله تعالى ] ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [ وأن ] لكل خبر يخبره الله وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير ، وهذا الذي خَوَّفَ الكفار به يجوز أن يكون المُرَادُ به عذابَ الآخرة ، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحَرْبِ والقَتْلِ في الدُّنيا .