Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 80-80)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أورد إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الحُجَّة عليهم المذكورة ، أورد القوم عليه حُجَجاً على صحة أقوالهم : منها : أنهم تَمَسَّكُوا بالتقليد ، كقولهم : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] وكقولهم للرسول عليه الصلاة والسلام : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] وكقول قوم هود : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } [ هود : 54 ] فذكروا من جِنْس هذا الكلام ، وإلا فالله - تعالى - لم يَحْكِ محاجتهم . فأجاب الله - تعالى - عن حُجَّتِهِمْ بقوله تعالى : { قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ } . قرأ نافع ، وابن ذكوان ، وهشام بخلاف عنه بنون خفيفة ، والباقون بنون ثقيلة ، والتثقيل هو الأصل ؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة ، والثانية نون الوقاية ، فاستثقل اجتماعهما ، وفيهما لغات ثلاث : الفَكُّ وتركهما على حالهما ، والإدغام ، والحذف ، وقد قرئ بهذه اللغات كلها في قوله تعالى : { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] وهنام لم تقرأ إلا بالحذف أو الإدغام ، ونافع بالحذف ، والباقون يفتحون النون ، لأنها عندهم نون رفع , وفي سورة النحل : { تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } [ آية : 27 ] بفتح النون عند الجمهور ، لأنها نون رفع ، ويقرؤه نافع بنون مكسورة خفيفة على الحذف ، فنافع حذف إحدى النونين في جميع المواضع المذكورة فإنه يقرأ في الزُّمر أيضاً بحذف أحدهما . وقوله تعالى : { أَتَعِدَانِنِيۤ } في الأحقاف [ آية : 17 ] قرأه هشام بالإدغام ، والباقون بالإظهار دون الحذف . واختلف النحاة في أيَّتهما المحذوفة ؛ فمذهب سيبويه ومن تبعه أن المحذوفة هي الأولى واستدلَّ سيبويه على ذلك بأن نون الرفع قد عُهِدَ حذفها دون مُلاقاةِ مِثْلٍ رفعاً ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 2220 - فإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرًّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ سَتَحْتَلِبُوهَا لاقِحاً غَيْرَ بِاهِلِ @@ أي : فَسَتَحْتَلِبُونَهَا ، لا يقال : إن النون قد حذفت جَزْماً في جواب الشرط ؛ لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاً , وإذا تقرر وجوب الفاء , وإنما حذفت ضَرُورةً ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت ، إلا أنها حذفت ضرورة ، وأنشدوا أيضاً قوله : [ الرجز ] @ 2221 - أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والْمِسْكِ الذّكِي @@ أي : تبيتين وتدلكين . وفي الحديث : " والَّذِي نَفْسِي بَيدهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤمِنُوا ولا تُؤمنُوا حتَّى تَحَابُّوا " فـ " لا " الدّاخلة على " تدخلوا " و " تؤمنوا " نافية لا ناهية لفساد المعنى عليه ، وإذا ثبت حَذْفُهَا دون مُلاقاة مِثْلٍ رفعاً فلأن تحذف مع ملاقاة مِثلٍ استثقالاً بطريق الأوْلى , وأيضاً فإن النون نائبة عن الضمة , والضمة قد عهد حذفها في فَصيحِ الكلام ؛ كقراءة أبي عمرو { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] و { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] وبابه بسكون آخر الفعل ، وقول الشاعر : [ السريع ] @ 2222 - فَاليْومَ أشْرَبْ غَيْرُ مُسْتَحْقِبٍ إثْماً مِنْ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ @@ وإذا ثَبَتَ حذف الأصْلِ ، فليثبت حذف الفَرْعِ لئلا يلزم تَفْضِيلُ فَرْعٍ على أصله ، وأيضاً فإنَّ ادِّعاءَ حذف نوع الرفع لا يُحْوِجُ إلى حَذْفٍ آخر , وحذف نون الوقاية قد يُحْوِجُ إلى ذلك , وبيانه بأنه إذا دَخَلَ نَاصِبٌ أو جازم على أحد هذه الأمثلة ، فلو كان المحذوف نُونَ الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النون ، وهي تسقط للناصب والجازم ، بخلاف ادِّعاءِ حذف نون الرفع ، فإنه لا يحوج إلى ذلك ؛ لأنه لا عمل له في الَّتِي للوقاية . ولقائل أن يقول : لا يلزم من جوازِ حذف الأصل حَذْفُ الفرع ؛ لأن في الأصل قوةً تقتضي جوازَ حذفه ، بخلاف نون الوقاية ، ودخول الجازم والناصب لم نجد له شيئاً يحذفه ؛ لأن النون حذفت لعارِضٍ آخر . واستدلُّوا لسيبويه بأن نون الوقاية مَكْسُورةٌ ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير ، بخلاف ما لو ادَّعَيْنَا حذفها ، فإنَّا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر ، وتعليل العمل أوْلى ، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها ، وإن لم تكن نون وقاية ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 2223 - كُلُّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صَاحبهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا @@ أي : وتَقْلُونَنَا ، فالمحذوف نون الرفع لا نون " نا " ؛ لأنها ضمير , وعورض هذا بأن نون الرفع أيضاً لها قوة لدلالتها على الإعراب , فحذفها أيضاً لا يجوز ، وجعل سيبويه المحذوفة من قول الشاعر : [ الوافر ] @ 2224 - تَرَاهُ كالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكاً يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي @@ نون الفاعل لا نون الوقاية ، واستدلَّ الأخفش بأن الثقل إنما حصل بالثانية ؛ ولأنه قد اسْتُغْنِيَ عنها ، فإنه إنما أتى بها لِتَقِيَ الفعل من الكسر ، وهو مَأمُونٌ لوقوع الكسْرِ على نون الرفع ، ولأنها لا تَدُلُّ على معنى ، بخلاف نون الرفع ، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو ليتني , فيقال : ليتي ؛ كقوله : [ الوافر ] @ 2225 - كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إذْ قَالَ : لَيْتِي أصَادِفُهُ وأتْلِفُ بَعْضَ مَالِي @@ واعلم أن حَذْفَ النون في هذا النحو جائز فصيح ، ولا يلتفت إلى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ من ذلك إلاَّ في ضرورة أو قليل من الكلام ، ولهذا عيبَ على مكي بن ابي طالب حيث قال : " الحذف بِعِيدٌ في العربية قبيح مكروه ، وإنما يجوز في الشعر لِلْوزْنِ ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيه ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه " . وتَجَاسَرَ بعضهم فقال : " هذه القراءة - أعني تخفيف النون - لَحْنٌ " . وهذان القولان مَرْدُودَانِ عليهما ؛ لتواتر ذلك ، وقد تقدم الدليل على صِحَّته لغة . وأيضاً فإن الثِّقات نقلوا أنها لغة ثابتة للعرب , وهم " غطفان " فلا معنى لإنكارها . و " في الله " متعلِّقٌ بـ " أتُحَاجُّونِّي " لا بـ " حَاجَّهُ " ، والمسألة من باب التَّنَازُعِ ، وأعْمِلَ الثاني ؛ لأنه لمَّا أضمر في الأول حذف ، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حَذْفٍ ، ومثله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ } [ النساء : 176 ] كذا قال أبو حيَّان ، وفيه نظر من حيث إن المعنى ليس على تَسَلُّطِ " وَحَاجَّهُ " على قوله : " في اللَّه " ؛ إذ الظاهر انْقِطَاعُ الجملة القولية عما قبلها . وقوله : " في اللَّهِ " أي : في شأنه ، ووحدانيته . قوله " وَقَدْ هَدَانِي " أي : للتوحيد والحق , وهذه الجملة في مَحَلِّ نصب على الحال ، وفي صاحبها وجهان : أظهرهما : أنَّهُ الياء في " أتحاجونني " ، أي : أتجادلونني فيه حال كوني مهديّاً من عنده . والثاني : أنَّهُ حالٌ من " الله " أي : أتخاصمون فيه حال كونه هادياً لي ، فحجتكم لا تُجْدِي شيئاً ؛ لأنها دَاحِضَةٌ . قوله : " ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ " هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً ، أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه لا يخاف ما يشركون به ، وإنما ثِقتُهُ برَبِّه ، وكانوا قد خَوَّفُوهُ من ضَرَر يحل لَهُ بسبب سَبِّ آلهتهم . ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصبٍ على الحال باعتبارين : أحدهما : أن تكون ثانيةً عَطْفاً على الأولى , فتكون الحالان من الياء في " أتُحَاجُّونِّي " . والثاني : أنها حالٌ من " الياء " في " هداني " ، فتكون جملةً حاليةً من بعض جملة حاليةٍ ، فهي قريبة من الحال المتداخلة ، إلاَّ أنه لا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع ، لما تقدَّم من أنَّ الفعل المضارع المنفي بت " لا " حُكْمُهُ حُكْمُ المثبت من حيث إنه لآ تُبَاشِرُهُ الواو . و " ما " يجوز فيها الأوجه الثلاثة : أن تكون مصدريَّة ، وعلى هذا فالهاء في " به " لا تعود على " ما " عند الجمهور ، بل تَعُودُ على اللَّهِ تعالى ، والتقديرُ : ولا أخَافُ إشراككم باللَّهِ ، والمفعول محذوف ؛ أي : ما تشركون غير اللَّهِ به ، وأن تكون بمعنى " الذي " ، وأن تكون نَكِرَةً موصوفةً ، والهاء في " به " على هَذيْنِ الوجهين تعود على " ما " ، والمعنى : ولا أخاف الذين تشركون الله به ، فحذف المفعول أيضاً ، كما حذفه في الوجه الأوَّلِ . وقدَّرَ أبو البقاءِ قبل الضمير مُضَافاً ، فقال : ويجوز أن تكون الهاء عائدة على " ما " ؛ أي : ولا أخافُ الذي تشركون به ، ولا حاجةَ إلى ذلك . قوله : " إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً " في هذا الاستثناء قولان : أظهرهما : أنه متَّصِلٌ . والثاني : أنه منقطع ، والقائلون بالاتِّصالِ اختلفوا في المستثنى منه ، فجعله الزمخشري زماناً ، فقال : " إلاَّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً يخاف ، فحذف الوقت ، يعني : لا أخافُ معبوداتكم في وقتٍ قَطُّ ؛ لأنها لا تَقْدِرُ على منفعة ولا مضرَّة ، إلاَّ إذا شاء رَبِّي " . وجعله أبو البقاء حالاً ، فقال : تقديره إلاَّ في حال مشيئة ربِّي , أيْ : لا أخافها في كُلِّ حالٍ إلاَّ في هذه الحالِ . وممن ذهب إلى انْقِطَاعِهِ ابن عطية ، والحوفي ، وأبو البقاء في أحَدِ الوجهين . فقال الحوفي : تقديره : " ولكنْ مشيئة اللَّهِ أيَّاي بضُرٍّ أخاف " . وقال غيره : معناه : ولكن إن شاء ربِّي شيئاً ، أي سواء فيكون ما شاء . وقال ابن عطية : استثناءً ليس من الأوَّلِ ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضُرّاً ، استثنى مشيئة ربِّه في أن يريده بِضُرٍّ . قوله : " شيئاً " يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه مَنْصُوبٌ على المصدر تقديره : إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً من المَشِيئةِ . والثاني : أنَّهُ مفعول به لـ " شيئاً " ، وإنما كان الأوَّلُ أظْهَرَ لوجهين : أحدهما : أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النَّفْس من غير المؤكّد . والثاني : أنَّهُ قد تقدَّمَ أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلاَّ إذا كان فيهما غرابة كقوله : [ الطويل ] @ 2226 - وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ … @@ فصل في بيان معنى الاستثناء إنما ذكر عليه الصَّلاة والسَّلام هذا الاستثناء ؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المَكَارِهِ ، والحَمْقَى من الناس يحملون ذلك على أنَّهُ إنما حَدَثَ ذلك المكروه بسبب أن طَعَنَ في إلهية الأصنام ، فذكر إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك حتى إنَّهُ لو حَدَثَ به شيء من المَكَارِهِ لم يحمل على هذا السبب . وقوله : { وسِعَ ربِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْماً } يعني : أنه عالم الغيوب ، فلا يفعل إلاَّ الخير والصلاح والحكمة ، فبتقدير أن يحدث من مَكَارِهِ الدنيا شيءٌ ، فذلك ؛ لأنه - تعالى - عرف وَجْهَ الصَّلاحِ والخير فيه ، لا لأجل أنه عقوبة على الطَّعْنِ في إلهية الأصْنَام . قوله : " علماً " فيه وجهان : أظهرهما : أنه منصوب على التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ ، تقديره : " وسع علم ربّي كُلَّ شيء " كقوله : { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : شيب الرأس . والثاني : أنه مَنصُوبٌ على المفعولِ المطلق ، لأن معنى وَسِعَ : عَلِمَ . قال أبو البقاء : " لأنَّ ما يَسَعُ الشَّيْءَ فَقَدْ أحَاطَ به ، والعالم بالشيء مُحيطٌ بعلمه " . قال شهابُ الدِّين : وهذا الَّذِي ادَّعَاهُ من المجاز بعيدٌ . و " كل شيء " مفعول لت " وسع " على التقديرين . و " أفَلا تَتَذَكَّرُونَ " جملة تقرير وتوبيخ ، ولا مَحَلَّ لها لاستئنافها ، والمعنى : أفلا تتذكرون أن نَفْيَ الشركاء والأضداد والأنداد عن اللَّهِ لا يوجبُ حلول العذاب ونزول العقاب ، والسَّعْي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب .