Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 12-18)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } ، نظيره : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ ق : 33 ] وقد مضى الكلام فيه . أي : يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو " بالغَيْبِ " وهو عذاب يوم القيامة " ويَخْشَوْنَهُ " في دار التكليف ، أي : يتقون جميع المعاصي . قال ابن الخطيب : وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق ، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق ، فله الأمران ، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع ، فتعين العكس . { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنَّة . قوله : { لَهْم مَّغْفِرَةٌ } الأحسن أن يكون الخَبَرَ " لَهُمْ " و " مَغْفرةٌ " فاعل به ، لأن الخبر المفرد أصل ، والجار من قبيل المفردات ، أو أقرب إليها . قوله : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } . اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به ، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور ، يعني بما في القلوب من الخير والشر . قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ ، فنزلت : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } يعني وأسروا قولكم في أمر محمد . وقيل : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحدة في علمه تعالى بها ، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها . قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } . في " مَنْ خَلَقَ " وجهان : أحدهما : أنه فاعل " يَعْلَمُ " والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ . والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و " مَنْ " مفعول به ، أي : لا يعلم الله من خلقه . قال أبو حيَّان : والظَّاهر أن " مَنْ " مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون " مَنْ " فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم ، وجهركُم ، وهو استفهام معناه الإنكار . قال شهاب الدينِ : " وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن " مَنْ " في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق ؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت " مَا " في موضع " مَنْ " لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها ، أو أظهروها خيراً كانت ، أو شراً ، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون " مَا " في موضع نصبٍ ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت " ما " في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ ، وقوله : { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } يمنع من ذلك " انتهى . قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه . قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره : ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر " مَنْ خَلَقَ " الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون " مَنْ خَلقَ " منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في " ألاَ يَعْلَمُ " مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلاَّ جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع ؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق ؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم ؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً ؛ لأن " ألاَ يَعْلَمُ " معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء . فصل في معنى الآية معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد ؟ . قال أهل المعاني : إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه ، وما يخلقه . قال ابن المسيِّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريحُ ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق ؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } ؟ . وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم ، منها " العَلِيمُ " ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها " الخَبِيرُ " ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها " الحَكِيمُ " ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها " الشَّهِيدُ " ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر ، ومعناه : ألاَّ يغيب عنه شيء ، ومنها " الحافظ " ويختص بأنه لا ينسى شيئاً ، ومنها " المُحصِي " ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق ؟ وقد قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } . فصل لما قال تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء ، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية . قال ابن الخطيب : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة ، وسكوناً ، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلومٍ ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه ؛ ولأن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً ، وبما في الصدور . فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد ؟ . فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر . قوله : { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } . قيل : اللطيف : العالم . وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً . قوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، وكل هذا الخير الذي هيأته لك ، ولا تأمن تأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني ؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم . والذَّلُولُ : المنقاد الذي يذلّ لك ، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد ، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة . وقيل : يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا . وقيل : إشارة إلى التمكن من الزرعِ ، والغرس ، وشق العيون ، والأنهار ، وحفر الآبار ، وبناء الأبنية ، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك . وقيل : لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف ، وكانت تبرد جداً في الشتاء . قوله : { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } . هذه استعارة حسنة جداً . وقال الزمخشري : مثل لفرط التذليل ، ومجاوزته الغاية ؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه ، ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك . فصل في هذا الأمر هذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان . وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ، ونواحيها ، وآكامها وجبالها . وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب : " فِي منَاكبِهَا " في جبالها . وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة . فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حُرَّة ، فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : " دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ " . وقال مجاهد : في أطرافها ، وعنه أيضاً : في طرفها وفجاجها ، وهو قول السديِّ والحسن . وقال الكلبيُّ : في جوانبها . ومنكبا الرجل : جانباه ، وأصل الكلمة : الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء ، وتنكب فلان عن فلان . يقول : امشُوا حيث أردتم ، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع . وحكى قتادةُ عن أبي الجلد : أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألفاً ، وللروم ثمانية آلافٍ ، وللفرس ثلاثة آلافٍ ، وللعرب ألفٌ . قوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } . قال الحسن : ما أحله لكم . وقيل : مما أنبته لكم . وقيل : مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض " وإليْهِ النُّشورُ " المرجع . وقيل : معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها ، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم ، وإليه تبعثون من قبوركم . قوله : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } . تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة " البقرة " . وأن قنبلاً يقرأ هنا : بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل " وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ " ، وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين ، وعدم ألف بينهما ، وأما إذا ابتدأ ، فيحقق الأولى ، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم ، ولم تبدل الأولى واواً ، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها ، وهي مفتوحة نحو " مُوجِل ، ويُؤاخِذكُم " ، وقد مضى في سورة " الأعراف " عند قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [ الأعراف : 123 ] ، وإنما عددناه تذكيراً ، وبياناً . قوله : { مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ } . مفعول " أأمِنْتُمْ " وفي الكلام حذف مضاف ، أي : أمنتم خالق السماوات . وقيل : " فِي " بمعنى " على " ، أي : على السماء ، كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [ طه : 71 ] ، أي : على جذوع النخل . وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك ؛ لأنه اعتقد أن " مَنْ " واقعة على الباري ، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ فإن " مَنْ " هنا المراد بها : الملائكة سكان السماءِ ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة . وقيل : خوطبوا بذلك على اعتقادهم ؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة ، والذي تقدم أحسن . قال ابن الخطيب : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين ؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب ، فيكونُ أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش ، وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه قال : { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 12 ] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه ، فالمعنى : إما من في السموات عذابه ، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى : { وَهُوَ ٱللَّهُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَفِي ٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله ، وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله . قوله : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } و { أَن يُرْسِلَ } فيه وجهان : أحدهما : أنهما بدلان من { مَنْ فِي ٱلسَّمَاء } بدل اشتمال ، أي : أمنتم خسفه ، وإرساله . قاله أبو البقاء . والثاني : أن يكون على حذف " مِنْ " ، أي : أمنتم من الخسف والإرسال ، والأول أظهر . فصل قال القرطبيُّ : ويحتمل أن يكون المعنى : أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تذهب وتجيء ، والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 4801 - رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ @@ جمع " حيزوم " وهو وسط الصدر . وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض ، فهو المور . قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور ، فتقلبهم إلى أسفل السافلين . قال القرطبي : قال المحققُون : أمنتم من فوق السَّماء ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ } [ التوبة : 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيُّز ، لكن بالقهر والتدبير . وقيل : معناه : أمنتم من على السماء كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [ طه : 71 ] ، أي : عليها ، ومعناه أنه مدبرها ، ومالكها كما يقال : فلان على " العراق " ، أي : وليها وأميرها ، والأخبار في هذا صحيحة ، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد ، أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود ؛ لأنها صفات الأجسامِ ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء ؛ لأن السماء مهبط الوحْي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة ، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان . قوله { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } . قال ابن عباس : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل . وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء ، لشدتها وقوتها . وقيل : سحاب فيه حجارة . قوله { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } . قيل : هاهنا النذير : المنذر ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك ، والمعنى : فستعلمون رسولي ، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك . وقيل : إنه بمعنى الإنذار ، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، وكيف في قوله { كَيْفَ نَذِيرِ } [ ينبىء ] عن ما ذكرنا من صدق الرسول ، وعقوبة الإنذار . وقد تقدم أن " نَذِير ، ونكير " مصدران بمعنى الإنذار ؛ والإنكار . وأثبت ورش ياء " نذيري " وقفاً ، وحذفها وصلاً ، وحذفها الباقون في الحالين . قوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . يعني كفار الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي : إنكاري وتغييري : قاله الواحديُّ . وقال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر ، ثم قال : سقطت الياء من " نَذيرِي " ومن " نَكيرِي " حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها ، والمتأخرة عنها .