Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 67, Ayat: 19-24)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } . لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور ، وصافاتٍ : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن . قال شهاب الدين : " صافَّاتٍ " يجوز أن يكون حالاً من " الطَّير " ، وأن يكون حالاً من " فَوقَهُمْ " إذا جعلناه حالاً ، فتكون متداخلة ، و " فَوقَهُمْ " ظرف لـ " صافَّاتٍ " أو لـ " يَرَوا " . قوله : " ويَقْبِضْنَ " عطف الفعل على الاسم ؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله : { إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك . وقول أبي البقاء : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي " صافَّاتٍ وقَابضاتٍ " لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن ؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل . قال أبو حيان : " وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3 - 4 ] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي ؛ فإنه قبيح ؛ نحو قوله : [ الرجز ] @ 4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ @@ أي : قاصد في أسواقها وجائر " . وكذا قال القرطبيُّ : هو معطوف على " صافَّاتٍ " عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : " بَاتَ يُغشِّيها " البيت . قال شهاب الدين : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية ، ومفعول " يقبِضنَ " محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن . قاله أبو البقاء ، ولم يقدر لـ " صَافَّاتٍ " مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها . ولذلك قال الزمخشري : " صافَّاتٍ " باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : " قابضات " ؟ . قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح . قوله " مَا يُمسِكُهُنَّ " . يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الضمير في " يَقْبِضنَ " قاله أبو البقاء . والأول أظهر . وقرأ الزهريُّ : بتشديد السِّين . فصل في معنى : يقبضن قوله : " ويَقْبِضْنَ " . أي : يضربن بها لجنوبهن . قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحية : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما . قال أبو خراش الشاعر : [ الطويل ] @ 4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ @@ وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران . وقوله " ما يُمسِكُهنَّ " أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } . قال ابن الخطيب : وفيه وجهان : الأول : المراد من " البصير " كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق . والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه ، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات . فصل في قوله تعالى { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن . قوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي } . قرأ العامة : بتشديد الميم على إدغام ميم " أمْ " في ميم " مَنْ " و " أمْ " بمعنى " بَلْ " لأن بعدها اسم استفهام ، وهو مبتدأ ، خبره اسم الإشارة . وقرأ طلحة : بتخفيف الأول وتثقيل الثاني . قال أبو الفضل : معناه : أهذا الذي هو جند لكم ، أم الذي يرزقكم . و " يَنْصُركُمْ " صفة لجند . فصل في لفظ جند قال ابن عباس : " جُندٌ لَكُمْ " أي : حزب ومنعه لكم { يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه . ولفظ الجند يوحد ، ولهذا قال : هذا الذي هو جند لكم ، وهو استفهام إنكاري ، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن ، أي : من سوى الرحمن { إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب ، ولا حساب . قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ، ويعاندون الرسول - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بعددهم ومالهم . والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات ، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ } الآية ، ورد عليهم الثاني بقوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ } الآية . قوله { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } شرط ، جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : أفمن يرزقكم غيره . وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله : { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } تقديره : " إن أرسل عليكم عذابه " ولا حاجة له صناعة . فصل في معنى الآية المعنى { أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُم } أي : يعطيكم منافع الدنيا . وقيل : من آلهتكم " إنْ أمسَكَ " يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل ، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر ، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى : { بَل لَّجُّواْ } ، أي : تمادوا وأصروا " فِي عُتُوٍّ " طغيان " ونُفورٍ " عن الحق ، أو تباعد أو إعراض عن الحق . قوله : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ } . " مُكِبًّا " حال من فاعل " يمشي " . قال الواحديُّ : " أكب " ، مطاوع كبه ، يقال : كببته فأكب . قال الزمخشريُّ : هو من الغرائب والشواذ ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك ولا شيء من بناء " أفعل " مطاوع ، بل قولك : أكب ، من باب " أنفض ، وألأم " ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع . ومطاوع " كب ، وقشع " انكب وانقشع . قال أبو حيان : " ومُكِباً " حال من " أكب " وهو لا يتعدى ، و " كب " متعد ، قال تعالى { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي ٱلنَّارِ } [ النمل : 90 ] والهمزة فيه للدخول في الشيء ، أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . قال الزمخشريُّ : " ولا شيء من بناء " أفعل " مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه " انتهى . وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه ، وما جهله من كتاب سيبويه . انتهى . قال شهاب الدين : انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة ، وجعل يقول : إن مطاوع " كَبَّ " " انكب " لا " أكب " وأن الهمزة للصيرورة ، أو للدخول في الشيء ، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً ، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه ، والله أعلم بصحتها : [ الوافر ] @ 4804 - وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم @@ وعلى تقدير التسليم ، فالفاضل من عدت سقطاته . قال القرطبيُّ : يقال : أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف ، فإذا تعدى قيل : كبه الله على وجهه بغير ألف ، وقوله : " أفَمنْ يَمْشي " هو المعادل لـ { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } . وقال أبو البقاء : " وأهْدَى " خبر " مَنْ يَمِشِي " وخبر " من " الثانية محذوف . يعني أن الأصل : أم من يمشي سوياً أهدى ، ولا حاجة إلى ذلك ؛ لأن قولك : أزيد قائم ، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر ، نقول : هو معطوف على " زيد " عطف المفردات ، ووحد الخبر لأن " أمْ " لأحد الشيئين . فصل قال المفسرون : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } منكساً رأسه لا ينظر أمامه ، ولا يمينه ، ولا شماله ، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه { كَمنْ يَمْشي سويّاً } مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه ، وعن يمينه وعن شماله . قال ابن عباسٍ : هذا في الدنيا ، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق ، فلا يزال ينكسه على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له . قال قتادةُ : هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا ، يحشره الله يوم القيامة على وجهه . وقال ابن عباس والكلبيُّ : عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل ، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : أبو بكر . وقيل : حمزة . وقيل : عمار بن ياسر . قال عكرمة : وقيل : هو عام في الكافر والمؤمن ، أي : إن الكافر لا يدري أعلى حق هو ، أم على باطل ، أي : هذا الكافر أهدى ، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق ، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام . قوله { قُلْ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ } . أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم { وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } يعني القلوب . قوله " قَلِيلاً " . نعت مصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و " ما " مزيدة أي : تشكرون قليلاً ، والجملة من " تَشْكُرون " إما مستأنفة ، وهو الظاهر ، وإما حال مقدرة ؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين . والمراد بالقلة العدم ، أو حقيقتها ، أي : لا تشكرون هذه النعم ، ولا توحدون الله تعالى ، تقول : قلَّما أفعلُ كذا ، أي : لا أفعله . قال ابن الخطيب : وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة ، كأنه تعالى قال : أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة ، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه ، فكأنكم ضيعتم هذه النعم ، وأفسدتم هذه المواهب ، فلهذا قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } . قوله : { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً ، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً ، وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثاً ، وهو قوله { قُلْ هُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولهذا ختم الآية بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة ، فلهذا ختمها بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . فصل في معنى " ذرأكم " قال ابن عباسٍ : خلقكم في الأرض . وقال ابن بحر : نشركم فيها ، وفرقكم فيها على ظهرها { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيجازي كلاًّ بعمله .