Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 38-43)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } . قد تقدم مثله في آخر الواقعة ، إلا أنه قيل هاهنا : إن " لا " نافية لفعل القسم ، وكأنه قيل : لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا ؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم ، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً . واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ ، وأحوال الأشقياء ، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } . وقيل : المراد : أقسم ، و " لا " صلةٌ ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون ، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول ؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين : مبْصر وغير مبصر ، فقيل : الخالقُ والخلقُ ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنُّ ، والنعم الظاهرة ، والباطنة . وإن لم تكن " لا " زائدة ، فالتقدير : لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني " جبريل " ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه . وقال مقاتل : سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنَّ محمداً ساحرٌ . وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عقبة : كاهن ، فقال الله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : أقسم . وإن قيل : " لا " نافية للقسم ، فجوابه كجواب القسم . " إنه " يعني القرآن { لقول رسول كريم } يعني جبريل . قاله الحسن والكلبي ومقاتل ، لقوله : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ } [ التكوير : 19 ، 20 ] . وقال الكلبي أيضاً والقتبي : الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } ، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك . فإن قيل : كيف يكونُ كلاماً لله تعالى ، ولجبريل ، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام ؟ فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغه للأمة . قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ } هو جوابُ القسمِ ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } معطوف على الجواب ، فهو جواب . أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت ، والآخر : منفي ، وهو من البلاغة الرائعة . قوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } . انتصب " قليلاً " في الموضعين نعتاً لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً ، والنَّاصبُ : " يؤمنون " و " تذكرون " و " ما " مزيدةٌ للتوكيدِ . وقال ابن عطية : ونصب " قليلاً " بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه : " تؤمنون " ، و " ما " يحتملُ أن تكون نافية ، فينتفى إيمانهم ألبتة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، وتتصف بالقلة ، فهو الإيمان اللغوي ؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب . قال أبو حيَّان : أما قوله : " قليلاً نصب بفعل " إلى آخره ، فلا يصح ؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه " تؤمنون " إما أن تكون " ما " نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية ، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه " تؤمنون " المنفي بـ " ما " يكون منفياً ، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون ، والفعل المَنْفِي بـ " ما " لا يجوز حذفه ، ولا حذف ما ، لا يجوز " زيداً ما أضربُه " على تقدير : " ما أضْربُ زيداً ما أضربه " ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ بـ " قليلاً " على الفاعلية ، أي : قليلاً إيمانكم ، ويبقى " قليلاً " لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء ؛ فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ . قال شهابُ الدين : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ " تؤمنون " على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال ، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر ، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية ، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله : " زيداً ما أضربه " أي : " ما أضرب زيداً ما أضربُه " وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة " الأعراف " فَليُلتَفَتْ إليه . وقال الزمخشريُّ : " والقّلةُ في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة " . قال أبو حيَّان : ولا يُرادُ بـ " قليلاً " هنا النفي المحض كما زعم ، وذلك لا يكون إلاَّ في " أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ " ، وفي " قل " نحو " قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ " وقد يستعمل في " قليلة " ، و " قليلة " إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قول الشاعر : [ الطويل ] @ 4853 - … قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا @@ أما إذا كان منصوباً نحو : " قليلاً ضربت ، أو قليلاً ما ضربت " على أن تكون " ما " مصدرية ، فإن ذلك لا يجوزُ ؛ لأنه في " قليلاً ضربت " منصوب بـ " ضربت " ، ولم تستعمل العرب " قليلاً " ، إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير ، وأما في " قليلاً ما ضربت " على أن تكون " ما " مصدريةٌ ، فتحتاج إلى رفع " قليل " ؛ لأن " ما " المصدرية في موضع رفع على الابتداء . انتهى ما رد به عليه . قال شهاب الدين : " وهذا مجرد دعوى " . وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان : " يؤمنون ، يذكرون " بالغيبة حملاً على " الخاطئون " والباقون : بالخطاب ، حملاً على " بما تبصرون " . وأبيّ : وتتذكرون " بتاءين " . فصل في القرآن الكريم قوله : { وما هو بقول شاعرٍ } ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها ، { ولا بقول كاهنٍ } ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم . وقوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله . وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ، ولا يتممون الاستدلال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } [ المدثر : 18 ] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [ المدثر : 24 ] . وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى ، والمعنى لا يؤمنون أصلاً ، والعربُ يقولون : قلّ ما تأتينا ، يريدون لا تأتينا . قوله : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، هذه قراءةُ العامة ، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو تنزيلٌ وتقدم مثله . وأبو السِّمال : " تنزيلاً " بالنصب على إضمار فعل ، أي : نزل تنزيلاً . قال القرطبي : وهو عطفٌ على قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين .