Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 141-143)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم } . قرأ العامة مسنداً إلى المُعَظِّم ، وابْنُ عامر أنْجَاكُمْ مسنداً . إلى ضمير اللَّهِ تعالى جرياً على قوله : " وَهُوَ فَضَّلَكُمْ " ، وقرىء : " نَجَّيْنَاكُمْ " مُشَدّداً ، و [ قد ] تقدَّم الخلافُ في تشديد " يقتلون " وتخفيفها قبل هذه الآية ، وتقدَّم في البقرةِ إعراب هذه الآية وتفسيرها . فصل والفائدةُ في ذكرها ههنا : أنَّهُ تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة ، فكيف يليقُ الاشتغالُ بعبادة غير اللَّهِ تعالى . قوله : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ } تقدَّم الخلافُ في " وَعَدْنَا " و " وَاعَدْنَا " وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا ، أي : وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين ، أو إتيانها ، أو مناجاتها . قوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } في هذا الضمير قولان : أحدهما : أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي : وأتممنا مواعدته بعشر . الثاني : أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي . قال أبُو حيَّان : ولا يظهر ؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر ، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي : وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف ، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ . قوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ } الفَرْقُ بين الميقاتِ ، والوَقْتِ ، أن الميقاتَ : ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال ، والوقت : وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ ، أو تقريره . وفي نصب " أرْبَعِينَ " أربعةُ أوجُهٍ : أحدها : أنَّهُ حال . قال الزَّمخشريُّ : " وأربَعِينَ " نصب على الحَالِ : أي تَمَّ بالغاً هذا العدد . قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال " أربعين " ، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله . قال شهابُ الدِّين : لا تنافي فيه ، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه ، وله شواهد منها : زيد في الدَّارِ ، أو عندك . فيقولون : الجارُّ والظَّرْفُ خبر ، والخبرُ في الحقيقة : إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما ، وكذا يقولون : جاء زيدٌ بثيابه ، فـ " بثيابه " حال ، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي بـ : معدوداً . قال : كقولك : تَمَّ القوم عشرين رجلاً ، أي : معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ . الثاني : أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به . قال أبُو البقاءِ : " لأنَّ معناه بلغ ، فهو كقولهم : بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين " أي : بتضمين " تَمَّ " معنى " بَلَغَ " . الثالث : أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف . قال ابْنُ عطيَّة : " ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة " ، وفي هذا نظرٌ ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام ، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة ؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد ، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ . الرابع : أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز قال أبُو حيَّان : والأصل : فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه ، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز . فهو منقولٌ من الفاعليَّة ، يعني فيكون كقوله : { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ ؛ حيثُ قال هناك " إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً ، فَتتمَّ " لذلك ينبغي أن يقال هنا : إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر : فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه . وقوله : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } في هذه الجملة قولان : أظهرهما : أنَّهَا للتأكيد ، لأنَّ قوله قبل ذلك : " وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ " فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً . وقيل : بل هي للتَّأسيس ، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات ، أو غير ذلك ، وهو بعيدٌ . وقوله رَبِّهِ ولم يقل : مِيَقاتُنَا جَرْياً على " واعَدْنَا " لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له . فصل روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك اللَّه عدوَّهم ؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ . فصل فإن قيل : " الأربعون " المذكورة في البقرة : هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا ، فما فائدة التَّفصيلِ ؟ فالجوابُ من وجوه : الأول : أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً ، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ : كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك ، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح المِسْكِ ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ . الثاني : أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً ، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى ، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ ، وإلى العشرةِ . قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد : الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله ، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ . وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صلى الله عليه وسلم . الثالث : قال أبُو مسلمٍ في سورة طه : إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَٰمُوسَىٰ قَالَ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي } [ طه : 83 ، 84 ] . فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين ، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين ، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده ، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً . الرابع : قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عليه الصلاة والسلام وحده ، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين . قوله : { وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي } . الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ . الثاني : أنَّه عطفُ بيان له . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، وقُرِىء شاذاً بالضَّمِّ ، وفيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ ، أي : يا هارونُ كقوله : { يُوسُفُ } [ يوسف : 29 ] . والثاني : أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف ، أي : هُو هارونُ . وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار : أعني ، فإنَّ كليهما قطع . وقال أبُو البقاء : " ولو قُرِىءَ بالرَّفْعِ " وذكرهما ، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة . قال : " ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ ؛ فلا تتبعه ، ولا تطعه " وقال اخْلُفْني أي : كن خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً ، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل . { وَقَالَ مُوسَىٰ } عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ . فإن قيل : إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ ، فكيف جعله خليفة لنفسه ؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له . فالجوابُ : أن الأمْرَ ، وإن كان كما ذكرتم ، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ . فإن قيل : لما كان هارُون نبيّاً ، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح ؟ فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ : التَّأكيدُ كقوله تعالى : { وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] . قوله : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } اللام في لِمِقَاتِنَا للاختصاص ، وكذا في قوله تعالى { لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [ الإسراء : 78 ] ، وليست بمعنى عند . قوله : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه ، أو مع أقوام آخرين . وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده ؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موسى بهذا التَّشريف . وقال القَاضِي : " بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله ؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ " . فصل دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى ؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية ، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها ، وأنكرت المعتزلةُ ذلك ، والبحثُ في هذه المسألة مذكورة في كتب أصُولِ الدِّينِ . فصل نقل عن ابن عبَّاس أنه قال : جاء موسى ومعه السَّبْعُون ، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل ، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى ، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيًّا ، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ . فقال : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } . قوله : " أرنِي " مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ ، تقديره : أرني نَفسكَ ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب ، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول ، وأصل " أرِنِي " " أرْإنِي " فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة ، وقد تقدَّم تَحْريرُه . فصل فإن قيل : النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية ، أو عن مقدِّمتها ، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته ، وعلى التَّقديرِ الأولِ : يكون المعنى : أرِنِي حَتَّى أراك ، وهذا فاسدٌ ، وعلى التقديرِ الثانِي : يكون المعنى : أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين : أحدهما : أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة . والثاني : أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية ؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد . فالجوابُ : أن معنى أرِنِي : اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ . فإن قيل : كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى ؟ قال الحسنُ : هاج به الشَّوق ؛ فسأل الرؤية . وقيل : سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا . قوله : " لَن تَرَانِي " قد تقدَّم أنَّ " لَنْ " لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك ، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال " فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً ، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ " . قال شهابُ الدِّينِ : " وعلى تقدير أنّ " لَنْ " ليست مقتضيةً للتَّأبيد ، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ : إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح ، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ ، وللبحث فيه مجال " . والدليل على أنَّ " لَنْ " لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [ البقرة : 95 ] أخبر عن اليهود ، ثم أخبر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون : { يَٰمَٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] { يَٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } [ الحاقة : 27 ] . فإن قيل : كيف قال : " لَن تَرَانِي " ولم يقل : لن تنظر إليَّ ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه . والاستدراكُ في قوله : { وَلَـٰكِنِ ٱنْظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ } واضح ، فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : { ولكن انظر إلى الجبل } فالجوابُ : المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده ؛ ألا ترى أنَّهُ لما ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ . فصل وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله : ولكِن انظرْ . قلت : اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه ، ولكن اطلب نظراً آخر ، وهو أن تنظر إلى الجبل . وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا ، والآخرة . قوله : { فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة ، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً . قوله { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } : قال الزَّجَّاجُ : " تَجَلَّى " أي : " ظهر وبان " . ومنه يقالُ : جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا ، وجلوتُ السَّيف والمرآة : إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ . وهذا الجبل أعظم جبل بمدين يقال له : زبير . قال ابن عباس : ظهر نُور ربِّهِ للجبل . قوله : " جَعَلهُ دَكّاً " قرأ الأخوان " دَكَّاءَ " بالمدِّ ، غير منوَّن ، على وزن " حمراء " والباقون بالقصر والتَّنوين ، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين : أحدهما : أنَّها مأخوذةٌ من قولهم : " ناقةٌ دَكَّاء " أي : منبسطة السَّنَام ، غير مرتفعة ، والمعنى جعله مستوياً . وإما من قولهم : أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله ، بل ذهب أعلاه . وأمَّا قراءةُ الجماعة فـ " الدَّكُّ " مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك ، أي : مَدْكوكاً ، أو من دكَّ ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ ، والمعنى : جلعه مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد ، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ . وقيل : تسويته بالأرض . في انتصابه على القراءتين وجهان ، أشهرهما : أنَّهُ مفعولٌ ثان لـ " جَعَلَ " بمعنى : صَيَّرَ . والثاني - وهو رأي الأخفش - : أنَّهُ مصدرٌ على المعنى ، إذ التقدير : دَكَّهُ دَكًّا ، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً . وقرأ ابنُ وثَّاب دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر ، وهو جمع دَكَّاء بالمد ، كـ : حُمْر في حمراء ، وغُرّ في غَرَّاء أي : جعله قِطَعاً . قال الكلبي : كسراً جبالاً صغاراً . ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ ، ووقعت ثلاثة بالمدينة : أحد ، وودقان ، ورضوى ، ووقعت ثلاثة بمكة : ثور ، وثبير ، وحِرَاء . قوله : { وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً } . الخُرُورُ : السُّقُوطُ كذا أطلقه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ . ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ . قال اللَّيْثُ : الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي . يقال : صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ ، فهو مصعوق . قال ابنُ عبَّاس : مَغْشياً عليه . وقال قتادةُ : ميتاً . يقال : صَعِقَ إذا مات . قال تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 68 ] فسَّرُوه بالموتِ . وقال : { يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } [ الطور : 45 ] أي : يموتون . قال الزمخشريُّ : " صعق أصله من الصَّاعقة " . والقولُ الأوَّلُ أولى ؛ لقوله تعالى { فَلَمَّآ أَفَاقَ } . قال الزَّجَّاجُ : ولا يقال للميتِ : قد أفاق من موته ، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] . قوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } الإفاقة : رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض ، وهي رجوعُ قوته ، وإفاقةُ الحلب ، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع . يُقال : اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي : اتركها حتَّى يعود لَبَنُها ، والفُواق : ما بين حَلْبَتَي الحالب . وسيأتي بيانه [ ص15 ] إن شاء الله تعالى . قوله سُبْحَانَكَ أي : تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا ، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك . { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بأنك لا تُرَى في الدنيا ، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك . وقيل : أوَّلُ المؤمنين من قومي . وقيل : من بني إسرائيل في هذا العصر .