Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 149-151)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ } الجارُّ قائم مقام الفاعل . وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم ، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال : " سقط " تَتضمَّن مَفعُولاً ، وهو ههنا المصدر ، الذي هو الإسقاطُ كقولك : " ذُهِبَ بزيد " . قال : وصوابه : وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط ؛ لأنَّ " سقط " ليس مصدرُهُ الإسقاط ، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر ، لا المصدر ، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم : " سُقِط في يده " ؛ كقوله امرىء القيس : [ الطويل ] @ 2575 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ @@ في كون الفعل مُسْنداً للجار ، كأنه قيل : صَاحَ المنتهبُ في حجراته ، وكذلك المراد سُقِط في يده ، أي : سقط النَّدمُ في يده . فقوله : أي سقط النَّدم في يده ، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ ، لا ضمير المصدرِ . ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال : سقط في يده وأسقط أيضاً ، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال : سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ . وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير . وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللُّغَةِ في أصلها . فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي : " قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ " . وقال الواحِدي : قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ " سُقِطَ في يدهِ " نَدم ، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدُّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال : قوله تعالى : { سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ } بمعنى نَدمُوا ، نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن ، ولمْ تعرفهُ العرب ، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم ، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال ، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ . فقال أبو نواس : [ الرجز ] @ 2576 - ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي @@ وأبُو نواس هو العالمُ النِّحْرِيرُ ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ ، لأنَّ " فُعِلْتُ " لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ ، و " سقط " لازمٌ ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ : " سُقطت " كما لا يُقال : رُغبتُ وغُضِبت ، إنَّما يُقَال : رُغِبَ فيَّ ، وغُضِب عَلَيَّ ، وذكر أبُو حاتمٍ : " سُقِط فلان في يده " بمعنى ندم . وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس ، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم { وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ } و " سُقِطَ القومُ في أيديهم " . وقال أبُو عُبيدة : " يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه : سُقِطَ في يده " . وقال الواحِدِيُّ : " وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما : أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد : " قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ " يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرَى بالعينِ ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها . فاللائمةُ ترجع عليها ، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى ، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ ، كقوله : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد " . الوجه الثاني : أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب ، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد ؛ لأنَّ النَّادِمَ يَعَضُّ يدَهُ ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم ، وكقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ } [ الفرقان : 37 ] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُورَ معنى في القلب يسْتَشْعره الإنسانُ ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه . وقال الزمخشريُّ : { وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ } أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم ؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً ، فتصيرَ يده مَسْقُوطاً فيها ، لأنَّ فاه قد وقع فيها . وقيل : مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِىءَ رَأسَهُ ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه ، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها . ومعنى " في " " على " ، فمعنى " في أيديهم " كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ } [ طه : 71 ] . وقيل : هو مَأخُوذٌ من السِّقاط ، وهو كثرةُ الخَطَأ ، والخَاطِىءُ يَنْدَمُ على فعلهِ . قال ابنُ أبي كاهل : [ الرمل ] @ 2577 - كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ @@ وقيل : هو مأخوذٌ من السَّقيط ، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج . يقال منه : سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال : ثلجت ، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى . ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل منه على شيء فصار هذا مثلاً لكل من خسر في عاقبته ، ولمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ . واعْلَمْ أنَّ " سُقِطَ في يده " عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف كـ " نِعْمَ وبِئْسَ " . وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مُضْمَرٌ ، أي : سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ . وقال الزمخشريُّ : " سَقَطَ العَضُّ " . وقال ابنُ عطيّة : " سَقَطَ الخسران ، والخيبة " . وكل هذه أمثلةٌ . وقرأ ابنُ أبي عبلة : أسْقِط رباعياً مبنياً للمعفول ، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ . فصل قوله : ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة ، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير ، كما زعم بعضهم . قال القاضِي : يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً ؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال : ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ . ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ ؟ فقد يَنْدَمُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز . قوله : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً ، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا : { لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا } . قرأ الأخوان " تَرْحَمْنَا " و " تَغْفِر " بالخطاب ، " رَبَّنَا " بالنَّصْب ، وهي قراءةُ الشعبي وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش ، وأيُّوب ، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما ، " رَبُّنَا " رفعاً ، وهي قراءةُ الحسنِ ، ومُجاهدٍ ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ . فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى ، وناسَبهُ الخطاب ، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جميعهم على التَّعَاقُبِ ، أو هذا من طائفةٍ ، وهذا من طائفةٍ ، فمن غلب عليه الخوفُ ، وقوي على المُواجهةِ ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه ، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب ؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ . قال المُفَسِّرُونَ : وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم . قوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } : هذان حالان من " مُوسَى " عند من يُجيزُ تعدُّد الحال ، وعند من لا يُجيزه يجعل " أسِفاً " حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في " غَضْبانَ " ، فتكون حالاً مُتداخِلةً ، أو يجعلُها بدلاً من الأولى ، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ . وأقربُ ما يقال : إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس ، واختيار الزَّجَّاجِ ، واحْتَجُّوا بقوله : { فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [ الزخرف : 55 ] أي : أغْضَبُونَا ، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ . وهو قول ابن عباس والحسن ، والسُّدِّي ، ومنه قوله : [ المديد ] @ 2578 - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ @@ وقالت عائشةُ - رضي الله عنها - : إنَّ أبا بكر رَجُلٌ أسِيفٌ أي : حَزِينٌ . قال الواحديُّ : " والقولان مُتقاربانِ ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ ، والحُزْن من الغَضَبِ " ؛ قال : [ البسيط ] @ 2579 - … فَحُزنُ كُلِّ أخِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ @@ وقال الأعشى : [ الطويل ] @ 2580 - أرَى رَجُلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبَا @@ فهذا بمعنى : غَضْبَان ، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ : الحزين ، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ . ويقال : رَجُلٌ أسِفٌ : إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره ، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَاءَ على فاعل . فصل اختلفُوا في هذه الحال . فقيل : إنَّهُ عند هجومه عليهم ، عرف ذلك . وقال أبُو مسلم : بل كان عارفاً بذلك من قبل ؛ لقوله تعالى : { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } وإنَّما كان راجعاً قبل وصوله إليهم . وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } [ طه : 85 ] . قوله : قال بِئْسَمَا هذا جوابُ " لَمَّا " وتقدَّم الكلامُ على " بِئْسَمَا " ، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ " ما خَلَفْتُمُونِي " والتقديرُ : بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ . فصل فإن قيل : ما معنى قوله : " من بعدي " بعد قوله " خلفتموني " ؟ فالجواب : معناه : من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ ، ونفي الشُّركاءِ ، وإخلاص العبادةِ له ، أو من بعد ما كتب : احمل بني إسرائيل على التَّوحيد ، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا : { ٱجْعَل لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] ، ومن حقِّ الخلفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين . قوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } : في " أمْرَ " وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض ، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه ، والأصلُ : أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم . قال الزمخشريُّ : يُقال : عَجِل عن الأمرِ : إذا تركه غير تَامٍّ ، ونقيضه تَمَّ عليه ، وأعجله عنه غيره ، ويُضَمَّن معنى " سَبَقَ " فيتعدَّى تَعْديته . فيقالُ : عَجِلْتُ الأمْرَ ، والمعنى : " أعجلتم عَنْ أمر ربكم " . والثاني : أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر ، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ : اسْتَعْجَلْتُهُ ، أي : حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ . فصل قال الواحدي : " معنى العَجَلَة : التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة ، لأنَّ معناها : عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ " . ولقائلٍ أن يقُولَ : لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [ طه : 84 ] . قال ابْنُ عبَّاسٍ : معنى { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } يعني : ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ : وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين ، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين ، فقد مات . وقال عطاءٌ : يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم . وقال الكلبي : أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم . قوله : " وألْقَى الألوَاحَ " أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب . قالت الرُّواةُ : كانتِ التَّوراةُ سبعة أسباعٍ ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت ، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلال والحرام . ولقائل أن يقول : ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت ، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى ، ومثله لا يليقُ بالأنبياء ، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك : { وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } [ الأعراف : 154 ] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر ، ولا شيء منها ، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ ، ليس الأمر كذلك ، وأنَّهُ أخذها بأعيانها . قوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } بذُؤابته ولحيتِهِ ، لقوله : { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } [ طه : 94 ] . قوله : " يَجُرُّهُ إلَيْهِ " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ : أحدها : أنَّ الجُملةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَ ، أي : أخَذَهُ جَارًّا إليه . الثاني : أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط . والثالث : أنَّها حالٌ من أخِيهِ . قال أبُو البقاءِ : " وهو ضعيفٌ " يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا ، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور ، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه . فصل الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون : إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا : إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة . فإن قيل : فَلِمَ قَالَ : { ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } ؟ فالجوابُ : أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل . فقال : قد نهيتهم ، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل ؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي ، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام . قوله : ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان ، وأبو بكر ، وابن عامر هُنَا ، وفي طه ، بكسر الميم ، والباقون بفتحها . فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان . مذهبُ البصريين : أنَّهُمَا بُنيا على الفتح ، لتركيبهما تركيب " خَمْسةَ عَشَرَ " ، فعلى هذا ليس " ابْن " مضافاً لـ " أمّ " ، بل هو مركَّب معها ، فَحَركتُهَا حركةُ بناء . والثاني : مذهب الكوفيِّينَ : وهو أنَّ " ابن " مضاف لـ " أمّ " و " أمّ " مضافة لياءِ المتكلِّمِ ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً ، كما تُقْلَبُ في المُنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم ، نحو : يَا غلاماً ، ثم حُذفت الألفُ واجتزىءَ عنها بالفَتْحَةِ ، كام يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ ، فحينئذ حركة " ابْن " حركةُ إعراب ، وهو مضاف لـ " أمَّ " فهي في محلِّ خفض بالإضافة . وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم ، بمعنى : أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم ، فَكُسِرَ آخرُه ، ثم اجتُزىء عن الياء بالكسرةِ ، فهو نظير : يا أحَدَ عشرِ ، ثم : يا أحد عشر بالحذفِ ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء ؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى ، ولكنه مضاف إليه المُنادَى ، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه . وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب ، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزىء عن ألفها بالفتحَةِ ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان ، في : " ابن أمّ " ، و " ابْنَ عَمّ " ، و " ابْنَة أمّ " ، و " ابنة عمّ " . فصل فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات : فُصْحَاهُنَّ : حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة ، ثم قلبُ الياءِ ألفاً ؛ فَيَلْزَمُ قلبُ الكَسْرَةِ فَتْحَةً ، ثم حذفُ الألف مُجْتَزأ عنها بالفتحةِ ، ثمَّ إثبات الياء ساكنة أو مفتوحة ، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّمِ في النِّداء ، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ ، لأنَّه ليس منادى ، نحوُ : يا غلام أبِي ، ويا غلام أمي ، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى ؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ ، ولكثرة الاستعمالِ . وقرىء " يا ابْنَ أمِّي " بإثبات الياءِ ساكنةً ؛ ومثله قوله : [ الخفيف ] @ 2581 - يَا ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي أنْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ @@ وقول الآخر : [ الخفيف ] @ 2582 - يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي … @@ وقرىء أيضاً : " يَا ابْنَ إمِّ " بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ . ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله : [ الرجز ] @ 2583 - يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي @@ وقوله : [ الرجز ] @ 2584 - كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا @@ فصل إنَّما قال : " ابْنَ أمّ " وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه . وقيل : كان أخاه لأمِّه دون أبيه ، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين ، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى ؛ لأنه كان لين الغضب . قوله : { إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي } أي لم يلتفتوا إلى كلامي ، يعني : عبدة العجل { وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ } أي : شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم . قوله : { فَلاَ تُشْمِتْ } العَامَّةُ على ضمِّ التاء ، وسكر الميم ، وهو من " أشْمَتَ " رباعياً ، الأعداء مفعول به . وقرأ ابْنُ محيصنٍ " فلا تَشْمِتْ " بفتح التَّاءِ وكسر الميم ، ومجاهدٌ : بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم ، " الأعْدَاءَ " نصب على المفعول به ، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان : أظهرهما : أن " شَمِتَ ، أو شَمَتَ " بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه كـ : أشْمَتَ الرباعي . يقال : شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ ؛ كما يقال : أشْمَت بي العَدُوَّ . والثاني : أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي : فلا تَشْمَتْ يا رب ، وجاز هذا كما جاز : { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ ، كقراءة الجماعة ، قاله ابْنُ جنِّي . ولا حاجة إلى هذا التَّكلف ؛ لأنَّ " شَمِتَ " الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه ، والإضمار على خلاف الأًصل . وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج - : " فلا تشمت أنت " فجعل الفاعل ضمير " مُوسَى " ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى ، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } فإنَّما جاز ذلك للمقابلة في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 54 ] ولا يجُوزُ ذلك في غَيْر المقابلة . وقرأ حميد بنُ قيس " فلا تَشْمِت " كقراءة ابنِ محيصن ، ومجاهد كقراءته فيه أوَّلاً ، إلاَّ أنَّهُما رفعا " الأعْدَاء " على الفاعلية ، جعلا " شَمِتَ " لازماً فرفعا به " الأعداء " على الفاعليَّة ، فالنَّهْيُ في اللَّفْظِ للمخاطب والمُرادُ به غيره كقولهم : لا أرَيَنَّكَ ههنا ، أي : لا يكن منك ما يقتضي أن تُشْمِتَ بي الأعْدَاءَ . والإشمات والشَّماته : الفَرَحُ بِبَلِيةٍ تنالُ عَدُوَّك ؛ قال : [ الكامل ] @ 2585 - … والمَوْتُ دُونَ شَماتَةِ الأعْدَاء @@ فصل قيل : واشتقاقُها من شوامِتِ الدَّابة ، وهي قوائِمُهَا ؛ لأنَّ الشَّماتة تَقْلِبُ قلب الحاسِد في حالتي الفرَحِ والتَّرحِ كتقلُّب شوامِت الدَّابة . وتشميت العاطس وتسميته ، بالشِّين والسِّين الدعاء له بالخير . قال أبو عبيد : الشِّينُ أعْلَى اللُّغتين . وقال ثَعلبٌ : الأصْلُ فيها السِّينُ من السَّمْت ، وهو القصد والهَدْي . وقيل : معنى تشميت العاطس [ بالمعجمة ] أنْ يُثَبِّتَهُ اللَّه كما يثبت قوائم الدابة . وقيل : بل التَّفعيل للسَّلب ، أي : أزال الله الشَّماتة به وبالسِّين المهملة ، أي : رَدَّهُ اللَّهُ إلى سَمْتِهِ الأول ، أي : هيئته ، لأنَّهُ يحصل له انزعاج . وقال أبُو بَكْرٍ : " يقال : شَمَّتَه وشَمَّتَ عليه " وفي الحديث : وشَمَّت عليهما . فصل ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال : " رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت " أي : ما أقدمت عليه من الغضب ، " ولأخِي " إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل " وأدخلْنَا جَمِيعاً في رحْمَتِكَ وأنتَ أرْحَمُ الرَّاحمِينَ " .