Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 155-156)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : واخْتَارَ مُوسَى . الآية ، " اخْتَار " يتعدَّى لاثنين ، إلى أوَّلهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ ، ويجوزُ حذفُهُ . تقول : اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف " من " فتقولُ " زَيْداً الرِّجَالَ " قال : [ البسيط ] @ 2587 - اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ @@ وقال الرَّاعي : [ الطويل ] @ 2588 - فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا @@ وقال الفرزدق : [ الطويل ] @ 2589 - مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ @@ وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ ، حصرهُ النحاة في ألفاظ ، وهي : " اختار " و " أمَرَ " . كقوله : [ البسيط ] @ 2590 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ @@ و " اسْتَغْفَرَ " ، كقوله : [ البسيط ] @ 2591 - أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ @@ و " سَمَّى " ؛ كقوله : سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ ، وإن شِئْتَ : زَيْداً ، و " دَعَا " بمعناه ؛ قال : [ الطويل ] @ 2592 - دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو ، ولمْ أكُنْ أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ @@ و " كَنَى " ؛ تقولُ : كَنَيْتُه بفلانٍ ، وإن شئت : فلاناً . و " صَدَقَ " قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } [ آل عمران : 152 ] ، و " زَوَّجَ " ؛ قال تعالى : { زَوَّجْنَاكَهَا } . ولم يزد أبُو حيَّان عليها . ومنها أيضاً : " حدَّث " و " نَبَّأ " و " أخْبَرَ " و " خَبَّرَ " إذا لم تُضَمَّنْ معنى " أعْلَمَ " . قال تعالى : { مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا } [ التحريم : 3 ] ؛ وقال : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } . وتقول حدَّثْتُكَ بكذا ، وإن شئت : كذا ؛ قال : [ الطويل ] @ 2593 - لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا @@ و " قومه " مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا ، والتقديرُ : واختار موسى سبعين رجلاً من قومه ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ " قَومَهُ " مفعول أول ، و " سَبْعِينَ " بدلٌ ، أي : بدل بعض من كل ، ثم قال : " وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ ، وأنَّ التقدير : سَبْعِينَ رجلاً منهم " . قال شهابُ الدِّين : إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً ؛ لأنَّ فيه حذف شيئين . أحدهما : المختار منه ؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ ، ومختار منه ، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه . والثاني : أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه ، وهو " مِنْهُمْ " كما قدره أبُو البقاء ، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح . قال ابْنُ الخطيبِ : وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير : واختار موسى قومه لميقاتنا ، وأراد بـ " قَوْمَهُ " السبعين المعتبرين منهم ؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه . وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات . فصل الاختيار : افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة . يقال : اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره ، وأصل اختارَ : اختير ، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو : بَاعَ : ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار ، والأصل مختيِر ومختيَر فقلبت الياء فيهما ألفاً . فصل ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة ؛ فصارُوا اثنين وسبعين . فقال : ليتخلف منكم رجلان ؛ فتشاجروا . فقال : إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج ، فقعد كالب ويوشع . وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً ، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً ، فاختارهم ، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا ، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى الميقات . واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام ، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر ؟ فقال بعضُ المُفَسِّرِينَ : إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية . قالوا : إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء ، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى ، ودخل فيه . وقال للقوم : ادنُوا ، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه . وقالوا : { يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } [ البقرة : 55 ] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا . فقال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] وهو قولهم { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] . وقيل : المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيةِ ، واختلفوا فيه . فقيل : إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة ، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ } ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه : أولها : أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل ، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل . وثانيها : أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل . وثالثها : أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا : اعْطِنَا ما لم تُعْطِه أحداً قبلنا ، ولا تعطيه أحداً بعدنا ، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة . واحتجوا لهذا القول بوجوه : أحدها : أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام ، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة ، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة ، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى ، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصَّةِ ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى ، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى ؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب ، والأولى صون كلام الله عنه . وثانيها : أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال : أتهلكنا بما يقوله السفهاء مِنَّا ؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول . وثالثها : أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجْفَةُ ، ولم يذكر أن موسى - عليه الصلاة والسلام - أخذته الرَّجفة ، وكيف يقال أخذته الرجفة ، وهو الذي قال : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } [ الأعراف : 155 ] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية . وقيل : المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال : إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله ، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون : فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ ، فأخذتهم الرَّجفة هناك . فصل اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ . فقيل : إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ . قال السُّديُّ : قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل ، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد ؟ فما أقول لبني إسرائيل ، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم ؟ فأحياهم الله . فمعنى قوله { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم ، ولم يصدقوا أنهم ماتوا . فقال لربه : لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات ، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ، ولا يتهموني . وقيل : إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً ، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة ، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم ، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى ، ودعا ؛ فكشف الله عنهم الرعدة . قوله : " لميقاتِنَا " متعلقٌ بـ " اختارَ " أي : لأجل ميقاتنا ، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي : اختارهم مخصصاً بهم الميقات ، كقولك : اختر لك كذا . قوله " لَوْ شِئْتَ " مفعولُ المشيئة محذوف ، أي : لو شئت إهلاكنا ، و " أهلكْتَهُم " جواب " لَوْ " والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله : { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُم } [ الأعراف : 100 ] وفي قوله : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] . ومعنى من قبل أي قبل الاختيار ، وأخذ الرَّجفة . وقوله : " وإيَّايَ " قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرَةِ على اتصاله ، إذ كان يمكن أن يقال : أهلكتنا . وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً ، لأنَّ مقصوده صلى الله عليه وسلم التنصيص على هلاك كُلٍّ على حدته تعظيماً للأمر ، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ ، بخلاف قومه . وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه ، فعطف ضميرَه تنبيهاً على ذلك ، وقد تقدم نظيرُ ذلك في قوله : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] . قوله : " أتُهْلِكُنَا " يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي : أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا ؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي ، أي : ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره ، قاله ابنُ الأنباري . قال وهو كقولك : " أتهينُ من يكرمك " ؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان . قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } . قال الواحديُّ : الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ : إن هو إلاَّ زيد ، وإن هي إلاَّ هند ، والمعنى : أنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتتنوا ، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق . ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى ، فقال : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } . ثم قال الواحديُّ : وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر . قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية ؛ لأنه لم يقل : تضلُّ بها من تشاء عن الدين ؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة ، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها ؛ فوجب تأويل الآية . فمعنى قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي : امتحانُك وشدة تعبدك ؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها ، وأمَّا قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ } ففيه وجوه : أحدها : تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف ، ويبقى على الإيمان ، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن ، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه ، وثانيها : أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك ، أي : تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء ، وثالثها : أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى ، وضلال من ضَلَّ ، جاز أن يُضافَ إليه . فصل واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة ، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه ، وتقريره من وجوه : الأول : أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر ، إلاَّ لداعية مرجحة ، وخالق تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى ، وعند حصول الداعية يجب الفعل ، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى . الثاني : أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان ، والحقَّ ، والصدقَ ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً ، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك ؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى . الثالث : لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل ؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق ، وأنَّ الآخر هو الباطل ، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه ، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول ، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه ، وهو محالٌ ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد ، وأمَّا إبطال تأويلاتهم ، فقد تقدَّم مراراً . قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان : أحدهما : أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها ، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي : حال كونها مُضلاًّ بها ، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف ؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ ، ومنعه أبُو البقاءِ قال : " لعدم العامل فيها " وقد قدم البحث معه مراراً . قوله : " أنْتَ وَلينَا " يفيد الحَصْرَ ، أي : لا ولي لنا ، ولا ناصر ، ولا هادي إلاَّ أنت ، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله : { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } . وقوله : { فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا } المُرادُ منه : أنَّ إقدامه على قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } جراءة عظيمة ، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها . وقوله : { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } أي : أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل ، أو للثَّواب الجزيل ، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب ، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض ، بل لمحض الفضل والكرم . قوله : { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب . ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله ، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران : أحدهما : دفع الضَّرر والثاني : تحصيل النَّفع ، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع ؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله : { فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا } [ الأعراف : 155 ] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ ، وهو قوله { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلأَخِرَةِ } والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا ، النَّعمةُ والعافيةُ ، والحسنةُ في الآخرة : المغفرة والجنة . قوله : { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } العامَّةُ على ضم الهاءِ ، من هاد يَهُود بمعنى : مال ؛ قال : [ السريع ] @ 2594 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ @@ أو " تَابَ " من قوله : [ الرجز ] @ 2595 - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ @@ ومن كلام بعضهم : المجتث ] @ 2596 - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ @@ وقرأ زيد بنُ علي ، وأبو وجزة " هِدْنَا " بكسر الهاء مِنْ " هَادَ يَهِيدُ " أي : حَرَّكَ . أجاز الزمخشريُّ في " هُدْنا " ، و " هِدْنا " - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى : مِلْنَا ، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا ، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا ، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا ، وفيه نظر ؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس . فيقال في " عقتُ " من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ : " عِقْت " بالكَسْرِ فقط ، أو الإشمامِ ، وفي : " بعت يا عبد " إذا قصد أن غيره باعه " بُعْت " بالضم فقط أو الإشمام ، ولكن سيبويه جوَّز في " قيل وبيع " ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز . و " هِيَ " ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ : إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ . وقيل يعودُ على مسألة الإرادة من قوله : { أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] أي : إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ . قوله : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ } مبتدأ وخبر . والعامَّةُ على " مَنْ أشَاءُ " بالشِّينِ المعجمةِ . وقرأ زيدُ بن علي ، وطاووس ، وعمرو بن فائد " أسَاءُ " بالمهملة . قال الدَّانِي : لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن ، ولا عن طاووس ، وعمرو بن فائد رجل سَوْء واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة ، وقرأها سفيان بْنُ عيينة ، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرىء فصاح به وأسمعه . فقال سفيانُ : " لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع " . يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك . ومعنى الآية : إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي : أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل ، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] . قال عطيَّةُ العوفي : " وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ " ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن ، لسعة رحمةِ الله للمؤمن ، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه . قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج : لما نزلت : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ وَٱلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } فتمنَّاها اليهودُ والنصارى . وقالوا : نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ } [ الأعراف : 157 ] . واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين : الأول : المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها ، وهو المُرادُ بقوله : " للَّذينَ يتَّقُونَ " . والثاني : الأفعال ، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه ، فالأول : هو الزكاة وهو المراد بقوله " ويُؤتُونَ الزَّكاةَ " والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان ، فيدخل فيه الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله : { وَٱلَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ البقرة : 2 ، 3 ] .