Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 187-188)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } الآية . في كيفية النَّظْمِ وجهان : الأول : لمَّا تكلم في التَّوحيد ، والنُّبَّوةِ ، والقضاء ، والقدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة . الثاني : لمَّا قال في الآية المتقدمة : { وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } [ الأعراف : 185 ] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ } ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات . فصل قال ابنُ عباس : إنَّ قوماً من اليهود قالوا : يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية . وقال الحسن وقتادة : إن قريشاً قالوا يا محمد : بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة ؟ قال الزمخشريُّ : السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا ، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة ؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضى فيها في ساعة واحدة ، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ . قوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } فيه وجهان : أحدهما : أنَّ أيَّانَ خبر مقدم ، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر ، والثاني : أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر ، ذلك الفعل رافع لـ " مُرْسَاهَا " بالفاعليَّةِ ، وهو مذهب أبي العباس ، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال ، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ ؛ لأنها بدل [ من ] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال : والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره : يسألونك عن زمان حلول الساعة . إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحل أنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل ، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ بـ " عَنْ " فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض ، كأنَّهُ قيل : يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب ، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه : عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو . و " أيَّانَ " ظرفُ زمانٍ مبني لتضمُّنه معنى الاستفهام ، ولا يتصرَّفُ ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي ، بخلاف " متى " فإنَّها يليها النَّوعان ، وأكثرُ ما يكون [ أيَّان ] استفهاماً ، كقول الشاعر : [ الرجز ] @ 2641 - إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا @@ وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين . قال الشاعرُ : [ البسيط ] @ 2642 - أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 2643 - إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ @@ والفَصِيحُ فتح همزتها ، وهي قراءة العامَّة . وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا ، وهي لغة سُلَيْم . فصل واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة ؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس ، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ . واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا ؟ فذهب أبُو الفتحِ إلى أنَّها مشتقةٌ من " أوَيْتُ إليه " ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل ، والمعنى : أي وقت ، وأي فعلٍ ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاً مشتقةً من : " أين " ؛ لأنَّ " أيْنَ " ظرف مكان ، وأيَّان ظرفُ زمانٍ . ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، وأن يكون اسم زمان . وقال الزمخشريُّ : مُرْسَاهَا إرساؤُهَا ، أو وقت إرسائها : أي : إثباتها وإقرارها . قال أبو حيَّان : وتقديره : وقت إرسائها ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ ، لأنه يكون التقدير : في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ . ويقال : رَسَا يَرْسُو : أي ثبت ، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل ، نحو : رَسَت السفينةُ تَرْسُو وأرْسَيْتها ، قال تعالى : { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [ النازعات : 32 ] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة ؛ لقوله { ثَقُلَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء . قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول ، والظَّرف خبره أي : أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره . وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها . والتَّجَلّي هو الظهور . وقال مجاهد : لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ نظيره قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [ لقمان : 34 ] وقوله { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } [ طه : 15 ] " ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : متى السَّاعةُ . فقال : " ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ " " . قال المحققون : والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر ، فيكون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية ؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة ، وأخرها ، وكذلك إخفاء ليلة القدر ؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة ، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ ؛ ليكون المكلف مُجِدًّا في الدُّعاءِ في كل اليوم . قوله : " فِي السَّمواتِ " يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أن تكون " في " بمعنى " على " أي : على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض ، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي ، وهو قولُ الحسنِ . والثاني : أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ ، والمعنى : حصل ثقلها ، وهو شدَّتها ، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين . قال الأصَمُّ : إن هذا اليوم ثقيل جدًّا على السمواتِ والأرض ؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب . وقيل : ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث ، والحساب ، والسُّؤال ، والخوف . وقال السُّديُّ : ثقل علمها ، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين ، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها . قوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } أي فجأة على غفلة ، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها . روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما بيْنَهُما ، فلا يتبايَعَانِه ، ولا يطْويانِهِ ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه ، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا " . قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول : " يَسْألُونكَ " وفي عَنْهَا وجهان : أحدهما : أنَّها متعلقة بـ يَسْألُونَكَ و : " كأنَّكَ حَفِيٌّ " معترض ، وصلتها محذوفةٌ تقديره : خَفِيّ بها . وقال أبُو البقاءِ : في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل ، فإنَّ قوله { كأنَّكَ حَفِيٌّ } حال كما تقدَّم . والثاني : أنَّ " عَنَ " بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى بـ " عن " بل بالباء كقوله : { كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى بـ " عن " أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها . والحَفِيُّ : المستقصي عن الشَّيء ، المهتبلُ به ، المعني بأمره ؛ قال : [ الطويل ] @ 2644 - سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 2645 - فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا @@ وقال الأعشى : [ الطويل ] @ 2646 - فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا @@ والإحْفَاءُ : الاستقصاء ؛ ومنه إحفاء الشَّوارب ، والحافي ؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر . قال الزمخشريُّ : وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ . قال أبو عبيدة : وهو من قولهم : تحفى بالمسألةِ أي : استَقْصَى ، والمعنى : فإنَّكَ أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها ، وقيل الحفاوةُ : البرُّ واللُّطْفُ . قال ابن الأعْرابِي : يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً . والتَّحفي : الكلام واللِّقاء الحسن ، قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 47 ] أي بارًّا لطيفاً يجيب دعائي . ومعنى الآية على هذا : [ يسألونك ] كأنَّك بارٌّ بهم لطيف العشرة معهم ، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره : إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - : إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة ؟ فقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } [ الأعراف : 187 ] أي : كأنك صديق لهم بارّ ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم . وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ " عَنْ " بمعنى الباء ، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى : مفعول أي : مَحْفُوٌّ . وقيل : بمعنى فاعل ، أي كأنَّك مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها . قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } . اعلم أن قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ . وقوله ثانياً : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار ، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } وأجاب عن الثَّانِي بقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللَّهِ } والفرق بين الصورتين : أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة . والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها . وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا : الله . فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة ، وهو قولنا : اللَّهُ ، ثم ختم الآية بقوله : { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يعلمون أن القيامة حقٌّ ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد . وقيل : لا يَعْلَمُونَ بأنِّي أخبرتك بأنَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ . وقيل : لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ . قوله تعالى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } الآية . وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها : أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب ، ولا أملك لنفْسِي نفعاً ، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير ، ونظيره قوله في سورة يونس : { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } [ يونس : 48 ، 49 ] . قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ أهل مكة قالوا : يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به ، ونربح فيه عند الغلاء ، وبالأرض التي تريد أن تجدب ، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية . وقيل : لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عليه الصلاة والسلام بموت رفاعة بالمدينة ، وكان فيه غيظ للمنافقين ، وقال انظروا أين ناقتي ؟ فقال عبدُ الله بن أبي : ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ، ولا يعرف أين ناقته ! فقال - عليه الصلاة والسلام - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت ، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ ، فوجدوها على ما قال ؛ فأنزل الله عز وجل { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } . قوله : " لِنَفْسِي " فيه وجهان : أحدهما : أنَّها متعلقة بـ " أمْلِكُ " . والثاني : أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً ؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر ، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً بـ " نَفْعاً " واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةً للعامل ؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ : لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا ، وهو وجهٌ حسنٌ . قوله { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } في هذا الاستثناء وجهان : أظهرهما : أنَّهُ متَّصلٌ ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه . والثاني : أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة - ، وسبقة إليه مكيٌّ ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك . فصل دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ ؛ فوجب أن لا يحصلان إلاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى ؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر ، فعلى جميع التقديرات : لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً ، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ . أجاب القاضي عنه بوجوه : أحدها : أن ظاهر الآية ، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ : " يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو " فيُحمل اللفظُ العام على سبب نزوله ، فيكُونُ المرادُ بالنفع : تملك الأموال وغيرها ، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره . وثانيها : أنَّ المُرادَ بالنَّفْعِ والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } [ الأعراف : 188 ] . وثالثها : أن التقدير : لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه ، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر ، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية . فصل احتج الرَّسولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ } واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله { وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوءُ } قال ابنُ جريجٍ : قل لا أملك لنفسي نفعاً ، ولا ضرًّا من الهدى والضلالة ، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير ، أي : من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ . وقيل : لو كنت أعلم الغيب أي : متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم . وقيل : ما مسني السُّوء ابتداء يريد : وما مسَّنيَ الجنونُ ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ ، وقال ابنُ زيدٍ : المرادُ بالسُّوءِ : الضرُّ ، والفقرُ ، والجوعُ . قوله { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } عطف على جواب " لو " وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب " لَوْ " المثبت ، وإن كان يجوزُ غيره ، كما تقدَّم ، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ ، لأنه يمتنع ذلك فيه . وقال أبُو حيَّان : ولم تصحب " مَا " النَّافية - أي : اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها ، كقوله : { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] . وفيه نظرٌ ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه . قوله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } نذير لمن لا يُصدق بما جئت به ، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون . وذكر إحدى الطائفتين ؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] . وقد يقال : إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] . واللاَّمُ في قوله [ القوم ] من باب التَّنازُعِ ، فعند البصريين تتعلقُ بـ " بَشِير " لأنه الثَّاني ، وعند الكوفيين بالأول لسبقه . ويجوز أن يكون المتعلَّق بالنذارة محذوفاً ، أي : نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم .