Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 189-193)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } الآية . اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ ، وإبطال الشرك . قال ابنُ عبَّاسٍ : المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عليه الصلاة والسلام - { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عليه الصلاة والسلام - من غير أذَى ليسكن إليها أي : ليأنس بها ويأوي إليها قالوا : والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم : أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ . قال ابنُ الخطيبِ : وهذا مشكل ؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم ؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء ؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء ؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد ، على خلاف الحسن والتَّشريح . وإذا عرف ذلك فنقول : المرادُ من كلمة مِنْ في قوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه ، وتارة بحسب نوعه . قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ . والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين ، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون والمُرادُ : نوعه . وقال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [ البقرة : 35 ] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا . { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : وخلق من نوع الإنسان زوج آدم ، أي : جعل زوج آدم إنساناً مثله ، " فلمَّا تَغشَّاهَا " أي واقعها وجامعها : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها : " فَمَرَّتْ بِهِ " أي : استمرَّت به ، وقامت وقعدت به لم يثقلها . قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة ، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة . وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ : حَمْل وحِمْل . وحكى يعقوبُ في حمل النَّخْلةِ : الكسر ، والحمل في الآية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين ، وهو الظَّاهِرُ ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به ، كقولك : حَمَلْتُ زيداً . قوله : " فَمَرَّتْ " الجمهور على تشديد الراء ، أي : استمرت به ، أي : قامت وقعدت . وقيل : هو على القلب أي : فمَرَّ بها أي : استمرَّ ودام . وقرأ ابنُ عبَّاسٍ : وأبو العالية ويحيى بن يعمر ، وأيوب : فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ ، وفيها تخريجان : أحدهما : أنَّ أصلها التشديد ، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه ، وهذه كقراءة : { وَقَرْنَ } [ الأحزاب : 33 ] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ . والثاني : أنه من المرية وهو الشَّكُ ، أي : فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض ؟ وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص ، والجحدريُّ : فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ ، وفيها أيضاً وجهان ، أحدهما : أنَّها من : " مَارَ ، يمُورُ " إذا جاء وذهب ، ومَارتِ الرِّيحُ ، أي : جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ ، ووزنه حينئذٍ " فَعَلَتْ " والأصلُ " مَوَرَتْ " ثم قلبت الواو ألفاً فهو كـ : طَافَتْ ، تَطُوفُ . والثاني : أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ ، وعلى هذا فوزنه " فَاعلَتْ " . والأصْلُ " مَارَيتْ " كـ " ضَارَبَتْ " فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً ، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين ، فهو كـ : بَارَتْ ، ورَامَتْ . وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ : فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة . وقرأ أبيّ فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في " فَمَارَتْ " أي : أنَّهُ يجوز أن يكون من " المِرْيَة " ، والأصلُ : اسْتَمْريَتْ وأن يكون من " المَوْرِ " ، والأصلُ : اسْتَمْورَتْ . قوله : " فَلمَّا أثقَلَتْ " أي : صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ ، وأتْمَرَ أي : صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ . وقيل : دخلت في الثقل ؛ كقولهم : أصبح وأمسى ، أي : دخل في الصَّباح والمساءِ ، وقرىء أثْقِلَتْ مبنيًّا للمفعُولِ . قوله : " دَعَوا اللَّهَ " متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه ، أي : دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً . قوله : " لَئِنْ آتيْتَنَا " هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل : فما كان دعاؤهما ؟ فقيل : كان دعاؤهما كيت وكيت ؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ . والثاني : أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، تقديره : فقالا لئن آتيتنا ، ولنكُوننَّ جوابُ القسم ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر . وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما : أنه مفعولٌ ثان ، أي : ولداً صالحاً . والثاني : قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف ، أي : إيتاءً صالحاً ، وهذا لا حاجة إليه ، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما . فصل قال المفسِّرون : المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويًّا مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين . وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها : ما الذي في بطنكِ ؟ قالت : ما أدْرِي ، قال : إني أخافُ أن يكُون بهيمةً ، أو كلباً ، أو خنزيراً ، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ ؟ أمن دبرك فيقتلك ، أو من فيك أو ينشق بطنك ؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم ، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك ، ثمَّ عاد إليها فقال : إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك ، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ . وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث ، فذكرت ذلك لآدم . فقال : لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت ؛ فعاودها إبليس ، فلم يزل بها حتَّى غرَّها ؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ . وروي عن ابن عباسٍ ، قال : كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله ، وعبيد الله ، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ ، فأتاهما إبليسُ ، وقال : إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث ؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش ، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض . واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه : أحدها : قوله تعالى : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ . وثانيها : قال بعدهُ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية : الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى ، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر . وثالثها : لو كان المراد إبليس لقال : أيشركُون من لا يخلُقُ ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من . ورابعها : أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس ، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث ؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم ؟ وخامسها : أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان ، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار ، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس ، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر ؟ وسادسها : أن بتقدير أن آدم عليه الصلاة والسلام ، سماه بعبد الحارث ، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له ، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة ، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك ، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عليه الصلاة والسلام - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد ، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم ، وذلك لا يقوله عاقل ؛ فثبت فساد هذا القول . وإذا عُرِفَ ذلك فنقُولُ في تأويل الآية وجوه : الأول : قال القفالُ - رحمه الله - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك ، كأنَّهُ تعالى يقولُ : هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية ، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك ، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويًّا جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما ؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون ، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين ، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام . ثم قال تعالى : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ . وهذا قول عكرمة . والثاني : أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم " وهم آل أقصى " . والمرادُ من قوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ } قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها ، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة : عبد منافٍ ، وعبد العزَّى ، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار ، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما ، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك . الثالث : إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام - . وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه : أحدها : أن المشركين كانوا يقولون : إنَّ آدم - عليه الصلاة والسلام - كان يعبد الأصنام ، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا : { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } أي : ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة . ثم قال { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } . فقوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ } ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره : فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما ؟ : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام ، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك . فيقول المُنْعِمُ : فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ، ثم يقابلني بالشَّرِّ ؟ إنه بريء عن ذلك . فقوله : يقابلني بالشَّرِّ المراد منه : النفي والتبعيد فكذا ههنا . ثانيها : إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } ، أي : جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه وكذا فيما : " آتاهُما " أي أولادهما ، كقوله : { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف 82 ] أي أهل القريةِ . فإن قيل : فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله " جَعَلا لَهُ " ؟ قلنا : لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله " جَعَلا " المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين ، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع ، وهو قوله : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وثالثها : سلَّمْنَا أن الضمير في قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ } عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل : إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق ، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك ، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها ، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته ، وهذا العملُ ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة ، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين ، فلهذا قال اللَّهُ تعالى : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى : " أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه " . التأويل الرابع : سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء ، إلاَّ أنَّا نقولُ : إنَّما سموه بعبد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث . وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ ، كما يقالُ في المثل : أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه ، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه ، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد . قوله : " جَعَلا لَهُ " قيل : ثمَّ مضاف ، أي : جعل له أولادهما شركاء ، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق ، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك ، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء ، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره . وقرأ نافع ، وأبو بكر عن عاصم شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف . والباقون بضمِّ الشين ، وفتح الرَّاء ، ومدِّ الكاف مهموزةً ، من غير تنوين ، جمع " شَريك " . فالشِّركُ مصدرٌ ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذوي شركٍ ، يعني : إشراك ، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر ، ويكون المعنى : أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد ، وقيل : المرادُ بالشِّركِ : النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما ، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما ، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ . وقيل : الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر ، وهذان الوجهان لا معنى لهما . وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما : إنَّ التقدير يجوز أن يكون : جعلا لغيره شِرْكاً . قال شهابُ الدِّين : هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن : كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى : جعلا لغيره شِرْكاً ؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره . قوله : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قيل : هذه جملةٌ استئنافيةٌ ، والضمير في : يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله ، وقيل : يعودُ على آدم وحواء وإبليس ، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث بـ " عبد الحارث " وكان أشَارَ بذلك إبليس ، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط ، وقيل : راجع إلى جميعِ المشركين من ذريَّةِ آدم ، وهو قولُ الحسنِ ، وعكرمة ، أي : جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال : { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ } [ البقرة : 51 ] { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الفعل من آبائهم . وقيل : لم يكن آدم عَلِمَ ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة السّلمي : " عَمَّا تُشرِكُون " بتاء الخطاب وكذلك " أتُشْركُونَ " بالخطابِ أيضاً ، وهو التفات . قوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } . هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى : { فَتَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة ، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان ؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً ؟ وهم يُخلقون ، يعني الأصنام . قوله : " وهُمْ يُخْلقُونَ " يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع ؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها ، ومحتملة للجمع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين ؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله : " وهُمْ يُخْلَقُونَ " للمعنى ، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم بـ " هُم " وجمعهم بالواو والنون ، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير ، أو يعودُ على الكُفَّارِ ، أي : والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله ؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها ، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً ، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً ، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول . قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } أي : أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ولا تضرُّ من عصاها ، وهو المراد بقوله : { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } . قوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ } الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار ، وضمير النَّصْبِ للأصنام ، أي : وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتابعوكم على مُرادكُم ، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين ، والمنصوب للكفَّارِ ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان ، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط ، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً ؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو ، لأجل الجازم ، ولا يجوزُ أن يقال : قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 2647 - هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُو ولمْ تَدَعِ @@ ويكون مثل قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] ، { فَلاَ تَنسَىٰ } [ الأعلى : 6 ] { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ } [ طه : 77 ] لأنَّه ضرورةٌ ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك . قوله : " لا يَتَّبِعُوكُم " قرأ نافع بالتخفيف ، وكذا في الشعراء { يَتْبَعُهم } [ 224 ] . والباقون بالتشديد ، فقيل : هما لغتان ، ولهذا جاء في قصة آدم : { فَمَن تَبِعَ } [ البقرة : 38 ] وفي موضع { فَمَنِ ٱتَّبَعَ } [ طه : 123 ] . وقيل : تَبع اقتفى أثره ، واتَّبعه بالتشديد : اقتدى به والأول أظهر . ثُمَّ أكَّد الكلام فقال : { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ } والمعنى : سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّينِ أم أنتم صامتون عن دعائهم ، لا يؤمنون ، كقوله : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] وعطف قوله : { أَمْ أنتُمْ صَامِتُونَ } وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية ؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة ، والتقدير : أمْ صَمَتُّم ؟ وقال أبُو البقاءِ : جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة ، والتقديرُ : أدعوتموهم أم صَمَتُّم ؟ وقال ابنُ عطيَّة : عطف الاسم على الفعل ؛ إذ التقدير : أمْ صَمَتُّم ؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ] @ 2648 - سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ @@ قال أبُو حيَّان : وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم ، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة ، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم ، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية ، إذ الأصل : سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية ؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة . والصَّمْتُ : السُّكوت ، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ ، في الماضي ، والضم في المضارع . ويقال : صَمِتَ ، بالكسرِ ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات ، وإصمت ، بكسر الهمزة والميم : اسمُ فلاة معروفة ، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة ، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل ، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة ، إن كان من " يَصْمُتُ " أو مفتوحة إن كان من " يَصْمَتُ " ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ ، وقد قالوا : إصْمِتَة . والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو : أسْرُب ؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة ، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى ، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ .