Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 199-203)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : " خُذِ العَفْوَ " . قال عبدُ الله بنُ الزُّبير : أمر اللَّهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ . قال مجاهدٌ : يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسٍ وذلك مثل قبول الاعتذار ، والعفو المتساهل ، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك . " روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : ما هذا ؟ قال : لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال : " إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك ، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ " " . قال العلماءُ : تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية ؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه ، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف ، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين . وقال ابنُ عباَّسٍ ، والسديُّ ، والضحاك ، والكلبيُّ : المعنى خُذ ما عفا لك من أموالهم وهو الفضل من العيال ، وذلك معنى قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات . قوله : { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } ، أي : بالمعروف ، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع ، وقال عطاءٌ : { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } بلا إله إلا الله " وأعرض عن الجاهلين " يعني أبا جهل وأصحابه ، نسختها آية السَّيْفِ ، وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل ، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . قال جعفرُ الصَّادق : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية . فصل اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله : " خُذِ العَفْوَ " بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل ، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك ؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي ، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية . وأمَّا قوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم ، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمر عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم ، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين ؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ . قوله تعالى : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ } الآية . قال : عبدُ الرحم بن زيد : لما نزل قوله : " خُذِ العَفْوَ " الآية : قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف يا رب بالغضب ؟ فنزل قوله : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ نَزْغٌ } الآية والنَّزْغُ : أدنى حركة تكونُ ، قاله الزَّجَّاجُ ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت : قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان ؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده . وقال الزمخشري : والنَّزغُ والنِّسْغُ : الغَرْزُ والنَّخْسُ ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل " جَدَّ جَدُّه " يعني : قصد بذلك المبالغة . وقيل : النَّزغ : الإزعاجُ ، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ ، وتقريره : أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال : " فاستَعِذْ باللَّهِ " وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لجميع المكلفين . وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة ؛ وقوله : { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة ، فكأنَّه تعالى يقول : اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك ، فإني سميع ، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك ، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك . قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } الآية . بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُ على حال الرسُول في هذا الباب ؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائيُّ : طَيْفٌ ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل . فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه : أحدها : أنَّهُ مصدر من : طَافَ يَطِيفُ كـ : بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة : [ الكامل ] @ 2660 - أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ @@ والثاني : أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل : طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة ، كقولهم في : مَيِّت مَيْت ، وفي : لَيِّن لَيْن ، وفي : هَيِّن هَيْن . ثم " طَيِّف " الذي هو الأصل يَحْتَمِلُ أن يكون من : طافَ يطيف ، أو من : طَافَ يَطُوفُ والأصل : طَيْوِف فقلب وأدغم . وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء . والثالث : أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ ، فقلبت الواو ياءً . قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ . قال شهابُ الدينِ : وقد قالُوا أيضاً في : حَوْل حَيْل ، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه . وقوله : وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء ، بل كان ينبغي أن يقال : وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ . وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من : طاف يطُوف ، فيكون كـ : قائم وقائلٍ . وأن يكون من : طاف يطيفُ ، فيكون كـ : بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ : طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً لـ : طَيْف فيجعلهما مصدرين ، وقد جاء فاعل مصدراً ، كقولهم : أقائماً وقد قعد النَّاسُ ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً لـ : طائف أي : فيجعله وصْفاً على فَعْل . وقال الفارسي : الطَّيْف كالخَطْرة ، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما ، وقال الكسائيُّ الطَّيف : اللَّمَم ، والطَّائف : ما طاف حول الإنسان . قال ابنُ عطيَّة : وكيف هذا ؛ وقد قال الأعشى : [ الطويل ] @ 2661 - وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ @@ ولا أدري ما تَعَجُّبُه ؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة ، وهي سَقْطة ؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً . وقال أبُو زيدٍ الأنصاريُّ : طَافَ : أقبل وأدبر ، يَطُوف طَوْفاً ، وطَوَافاً ، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً : استدار القومُ من نواحيهم ، وطافَ الخيالُ : أمَّ يطيف طَيْفاً . فقد فرَّق بين ذي الواو ، وذي الياء ، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى ، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت . وزعم السُّهَيْليُّ : أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل ، قال : " لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له " قال : فأما قوله تعالى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقالُ فيه " طَيف " ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة ؛ وقال حسان : [ السريع ] @ 2662 - جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ @@ وقال السديُّ : الطَّيْفُ الجنون ، والطائِفُ : الغضب ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - هو بمعنى واحد ، وهو النَّزغُ . فصل قال المفسرون : الطَّيفُ اللمة والوسوسة . وقيل : الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان ، والطيف اللمم والمسُّ وقال سعيدُ بن جبير : هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى ، فيكظم الغيظ . وقال مجاهدٌ : هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه . { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } هذه " إذَا " الفُجائيَّة كقولك : خرجتُ فإذا زيد ، والمعنى : يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر ، وقال السديُّ : إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ : إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله . واعلم أنَّ إذَا في قوله : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ } تستدعي جزاءً . قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ } . في هذه الآيةِ أوجهٌ : أحدها : أنَّ الضمير في : " إخوانهم " يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم ، أو على الشَّيطان نفسه ؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ ، بل الجِنْسُ . والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم ، والتقديرُ : وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان ، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى ، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله : [ البسيط ] @ 2663 - قَوْمٌ إذا الخَيْلُ جَالُوا في كَواثبِهَا … @@ وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له ، ولم يَبْرُزْ ضمير . وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ : هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين . قال الزمخشريُّ : هو أوجهُ ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة : " الَّذينَ اتَّقَوا " . الثاني : أنَّ المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضَّمير المضاف إليه : الجاهلُون ، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله ، والواو تعودُ على الإخوان ، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين ، أو غير المتَّقين ؛ والمعنى : والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ ، والخبرُ في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى ، وهذا تفسير قتادة . الثالث : أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين ، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارُ . قال ابنُ عطيَّة : ويكون المعنى : وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي : بطاعتهم لهم وقبولهم منهم ، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين ، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ ، أي : وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف ، والأحسنُ أن يتعلَّق بما تضمنه إخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة ، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان . قال أبُو حيَّان : ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل بـ : يمدُّونهم على جهة السببية ، أي : يمدُّونهم بسبب غوايتهم ، نحو : دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ ، أي : بسبب هرَّةٍ ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً ، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي : كائنين في الغيّ ، فيكون في الغيِّ في موضعه ، ولا يتعلَّق بـ : إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية . وعندي في ذلك نظرٌ . فلو قلت : مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً ، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر ، لكان في جوازه نظر ، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاً ، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ . قال شهاب الدين : ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون : بفتح الياء وضم الميم ، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [ البقرة : 155 ] . فقيل : أمَدَّ ومَدَّ لغتان . وقيل : مَدَّ معناه : جذب ، وأمَدَّ معناه من : الإمداد . قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويستحب أمددتُ على أفعلتُ ، كقوله { أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [ المؤمنون : 55 ] وقوله { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ } [ الطور : 22 ] { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } [ النمل : 36 ] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على : مددت ؛ قال تعالى : { وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ البقرة : 15 ] فالوجه ههنا قراءة العامة ، ومن ضمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقرأ الجحدريُّ : يُمَادُّونهُم من : مادَّهُ بزنة : فاعله ، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من : أقْصَرَ ، قال الشاعر : [ الطويل ] @ 2664 - لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ @@ وقال امرؤُ القيس : [ الطويل ] @ 2665 - سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا @@ أي : ولا نازع ممَّا هو فيه ، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع ، وقرأ عيسى ابن عمر ، وابن أبي عبلة " ثُمَّ لا يَقصُرون " بفتح الياء مِن : قَصرَ ، أي : لا يَنْقُصُونَ من إمدادهم وهذه الجملة أعني : " وإخوانهم يمُدُّونهم " زعم الزجاج : أنها متصلة بالجملة من قوله { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } [ الأعراف : 192 ] وهو تكلف بعيد . وقوله " فِي الغيِّ " قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل ، أو بـ " إخوانهم " أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من " إخوانهم " وإمَّا من واو " يَمُدُّونهُم " وإمَّا من مفعوله . فصل قال اللَّيث : الإقصارُ : الكَفُّ عن الشَّيء ، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى . قال ابنُ عبَّاسٍ : ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال ، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال ، وأمَّا المغوي ففي الإضلال . قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي : يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه . وقيل : يزيدونهم في الضَّلالة . قوله { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ } يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ { قَالُواْ لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا } أي : هلاَّ افتعلْتَهَا ، وأنشأتها من قبل نفسك ، والاجتباء : افتعال من : جباهُ يَجْبيه ، أي : يجمعه مختاراً له ، ولهذا يقال : اجْتَبَيْتُ الشيء ، أي : اخترته . وقال الزمخشريُّ : اجْتَبَى الشيء ، بمعنى جباهُ لنفسه ، أي جمعه ، كقولك : اجتمعه أو جُبِيَ إليه ، فاجتباه : أي أخذهُ ، كقولك : جليْتُ له العروس فاجتلاها ، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك . قال الفراء : تقول العرب : اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك ؛ لأنهم كانوا يقولون : { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ إِفْكٌ ٱفْتَرَاهُ } [ الفرقان : 4 ] أو يقال : هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً ، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التماسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] . وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُِوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي . ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدحُ في الغرض ؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة ، فهي كافية في تصحيح النبوة ، فطلب الزيادة تعنت ؛ فلا جرم قال : قل هذا يعني : القرآن بَصائرُ حجج ، وبيان ، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد ، والنبوة ، والمعاد ، والبصائرُ : جمع بصيرة ، وأصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به ، أي : هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب . قال أبُو حيَّان : وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً ؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذو بصائر ثم قال : وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها أنَّ النَّاس في معارف التوحيد ، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام : إحداها : الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها ، وهم أصحاب عين اليقين . والثاني : الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين ، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر ، وفي حق القسم الثاني هُدًى ، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة ، ولمَّا كانت الفرق الثلاث من المؤمنين قال : " قَوْمٍ يُؤمنُونَ " .