Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 21-30)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } " مِفْعَالاً " من الرصد ، والرصد : كل شيء كان أمامك . قرأ ابن يعمر وابن عمر والمنقري : " أنَّ جَهنَّمَ " بفتح " أن " . قال الزمخشريُّ : على تعليل قيام الساعة ، بأن جهنم كانت مرصاداً للطَّاغين ، كأنَّه قيل : كان ذلك لإقامة الجزاء ، يعني : أنه علَّة لقوله تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } إلى آخره . قال القفال : في المرصاد قولان : أحدهما : أنَّ المرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه ، كالمضمارِ اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل ، والمِنْهَاج : اسم للمكان الذي ينهج فيه ، أي : جهنم معدَّة لهم فالمرصاد بمعنى المحل ، وعلى هذا فيه احتمالان : الأول : أنَّ خزنة جهنم يرصدون الكفَّار . والثاني : أن مجاز المؤمنين ، وممرهم على جهنم ، لقوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ، فخزنة الجنة يَسْتقبلُونَ المؤمنين عند جهنم ، ويرصدونهم عندها . القول الثاني : أنَّ " المِرصَاد " " مِفْعَال " من الرصد ، وهو " الترقب " بمعنى أنَّ ذلك يكثر منه ، و " المِفْعَالُ " من أبنية المبالغة كـ " المِعطَاء ، والمِعْمَار ، والمِطْعَان " . قيل : إنَّها ترصد أعداءَ اللهِ ، وتشتد عليهم لقوله تعالى : تكاد تميَّزُ من الغيظ . وقيل : ترصدُ كُلَّ منافقٍ وكافرٍ . فصل دلت الآية على أنَّ جهنم كانت مخلوقة لقوله تعالى أن جهنم كانت مرصاداً وإذا كانت كذلك كانت الجنة لعدم الفارق . قوله : { لِّلطَّاغِينَ } يجوز أن يكون صفة لـ " مِرْصَاداً " ، وأن يكون حالاً من " مآباً " كان صفته فلما تقدَّم نصبَ على الحال ، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس " مِرْصَاداً " ، أو بنفس " مآباً " ؛ لإنه بمعنى مرجع . قال ابن الخطيب : إن قيل بأن : " مِرصَاداً " للكافرين فقط ، كان قوله : " للطَّاغين " من تمام ما قبله ، والتقدير : كانت مرصاداً للطَّاغين ، ثم قوله : " مآباً " بدل قوله : " مرصاداً " ، وإن قيل : إنَّ مرصاداً مطلقاً للكفَّار والمؤمنين كان قوله تعالى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } كلاماً تاماً وقوله تعالى : { لِّلطَّاغِينَ مَآباً } كلاماً مبتدأ ، كأنه قيل : إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً للكل ، و " مآباً " للطَّاغين خاصَّة ، فمن ذهب إلى القول الأول لم يقف على قوله : " مرصاداً " ومن ذهب إلى القول الثاني وقف عليه . قال القرطبيُّ : " للطَّاغِينَ مآباً " بدلٌ من قوله : " مِرصَاداً " ، والمَآبُ " المرجع ، أي : مرجعاً يرجعون إليه ، يقال : آب يثوب أوْبَة : إذا رجع . وقال قتادة : مأوى ومنزلاً ، والمراد بالطاغين من طغى في دينه بالكفر ودنياه بالظلم . قوله : { لاَّبِثِينَ } . منصوب على الحال من الضمير المستتر في " للطاغين " ، وفي حال مقدرة . وقرأ حمزة : " لبثين " دون ألف . والباقون : " لابثين " بألف . وضعف مكي قراءة حمزة ، قال : ومن قرأ : " لبثين " شبهه بما هو خلقة في الإنسان نحو حِذْر وفِرْق ، وهو بعيد ؛ لأن اللبث ليس مما يكون خلقة في الإنسان وباب فعل إنما يكون لما هو خلقة في الإنسان . وليس اللبس بخلقة . ورجَّح الزمخشري قراءة حمزة ، فقال : " قرأ : لابثين " ولبثين " واللبث أقوى ؛ لأن اللاَّبث يقال لمن وجد منه اللبث ، ولا يقال : لبث إلا لمن شأنه اللبث ، كالذي يجثم بالمكان لا يكاد ينفكّ منه " . وما قاله الزمخشري أصوب . وأمَّا قولُ مكيٍّ : اللبث ليس بخلقة ، فمسلم لكنه بولغ في ذلك ، فجعلَ بمنزلة الأشياء المختلفة . و " لابثين " اسم فاعل من " لبث " ، ويقويه أنَّ المصدر منه " اللّبث " - بالإسكان - كـ " الشرب " . قوله : " أحْقَاباً " منصوب على الظرف ، وناصبه " لاَبِثيْنَ " ، هذا هو المشهور ، وقيل : منصوب بقوله : " لا يذوقون " ، وهذا عند من يرى تقدم معمول ما بعد " لا " عليها وهو أحد الأوجه ، وقد مر هذا مستوفًى في أواخر الفاتحة وجوَّز الزمخشري أن ينتصب على الحال . قال : " وفيه وجه آخر : وهو أن يكون من : حَقِبَ عامنا إذا قلَّ مطرهُ وخيرهُ ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق ، فهو حقبٌ وجمعه : " أحْقَاب " ، فينتصب حالاً عنهم ، بمعنى : لابثين فيها بحقبين جحدين " . وتقدم الكلام على الحقب في سورة " الكهف " . قال القرطبي : و " الحِقْبَةُ " - بالكسر - : السَّنة ، والجمع حِقَب ؛ قال متممُ بنُ نويرةَ : [ الطويل ] @ 5075 - وكُنَّا كَنَدْمَانَي جَذيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حتَّى قيلَ : لَنْ يتصدَّعا @@ والحُقْبُ - بالضم والسكون - : ثمانون سنة . وقيل : أكثر من ذلك وأقل ، والجمع : " أحْقَاب " . قال الفراءُ : أصل الحقبة من الترادُف والتتابُع ، يقال : " أحْقَبَ " : إذا أردف ، ومنه الحقبة ، ومنه كل من حمل وزراً فقد احتقب ، فعلى هذا معناه : لابثين فيها أحقاباً ، أي : دُهوْراً مُترادِفَةً يتبع بعضهم بعضاً . فصل في تحرير معنى الآية المعنى : ماكثين في النَّار ما دامت الأحقاب ، وهي لا تنقطع ، فكُلَّما مضى حُقبٌ جاء حُقبٌ ، و " الحُقُبُ " - بضمتين - : الدَّهْرُ : والأحقابُ ، الدهور ، والمعنى : لابثين فيها أحقاب الآخرة التي لا نهاية لها ، فحذف الآخرة لدلالة الكلام عليها ، إذ في الكلام ذكر الآخرة ، كما يقال : أيَّامُ الآخرة ، أي : أيام بعد أيام إلى غير نهاية ، أي : لابثين فيها أزماناً ودهوراً ، كُلَّما مضى زمنٌ يعقبهُ زمنٌ ، ودهر يعقبه دهر ، هكذا أبداً من غير انقطاع ، فكأنه قال : أبداً ، وإنَّما كان يدل على التوقيت لو قال : خمسة أحقاب ، أو عشرة ونحوه ، وذكر الأحقاب ؛ لأن الحقب كان أبعد شيء عندهم ، فذكر ما يفهمونه ، وهو كناية عن التأبيد ، أي : يمكثون فيها أبداً . وقيل : ذكر الأحقاب دون الأيام ؛ لأن الأحقاب أهول في القلوب ، وأدل على الخلود ، وهذا الخلود في حق المشركين ، ويمكن حمله على العصاة الذين يخرجونَ من النار بعد العذاب . وقيل : الأحقاب وقت شربهم الحميم والغسَّاق ، فإذا انقضت فيكون لهم نوع آخر من العذاب ، ولهذا قال تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي : في الأرض لتقدم ذكرها ويكون { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً } جهنم . قوله : { لاَّ يَذُوقُونَ } . فيه أوجه : أحدها : أنه مستأنف ، أخبر عنهم بذلك . الثاني : أنه حال من الضمير في " لابِثيْنَ " غير ذائقين ، فهي حال متداخلة . الثالث : أنه صفة لـ " أحْقَاب " . قال مكي : واحتمل الضمير ؛ لأنه فعل فلم يجب إظهاره كأن قد جرى صفة على غير من هو له ، وإنَّما جاز أن يكون نعتاً لـ " أحْقَاب " لأجل الضمير العائد على " الأحقاب " في " فيها " ، ولو كان في موضع " يَذُوقُونَ " اسم فاعل لكان لا بُدَّ من إظهار الضمير إذا جعلته وصفاً لـ " أحقاب " . الرابع : أنه تفسير لقوله تعالى : { أَحْقَاباً } إذا جعلته منصوباً على الحال بالتأويل المتقدم عن الزمخشري ، فإنه قال : " وقوله تعالى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } . تفسير له " . الخامس : أنه حال أخرى من " للطاغين " كـ " لابثين " . فصل في معنى هذا البرد قال أبو عبيدة : البَرْدُ : النومُ ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 5076 - فَلوْ شِئْتُ حَرَّمتُ النِّساءَ سِواكُمُ وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نِعَاجاً ولا بَرْدَا @@ وهو قول مجاهد والسديِّ والكسائيِّ والفضل بن خالدٍ وأبي معاذٍ النحويِّ . والعرب تقول : منع البَرْدُ البَرْدَ ، يعني : أذهب النوم . وقال ابن عباس رضي الله عنه : البرد برد الشراب . وعنه - أيضاً - البرد : النَِّوم ، والشراب : الماء . قال الزجاج : لا يذوقُونَ فيها بَرْدَ ريحٍ ، ولا بَرْدَ نومٍ , ولا بَرْدَ ظلٍّ . فجعل البرد كل شيء له رائحة . وقال الحسن وعطاء وابن زيد : بَرداً : أي روحاً ورائحة . قوله : { إِلاَّ حَمِيماً } . يجوز أن يكون استثناء متَّصلاً من قوله : " شراباً " ، ويجوز أن يكون مُنْقَطِعاً . قال الزمخشري : " يعني لا يَذُوقُون فيها برداً ، ولا روحاً ينفس عنهم حر النَّار " ولا شراباً " يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها حميماً وغسَّاقاً " . قال شهاب الدين : " ومكي لمَّا جعله منقطعاً جعل البرد عبارة عن النوم ، قال : فإن جعلته النوم كان " إلا حميماً " استثناء ليس من الأول " . وإنَّما الذي حمل الزمخشري على الانقطاع مع صدق الشراب على الحميم والغسَّاق ، وصفة له بقوله : " ولا شراباً يسكن من عطشهم " فبهذا القيد صار الحميمُ ليس من جنس هذا الشراب ؛ وإطلاق البردِ على النوم لغة هذيل ، وأنشد البيت المتقدم . وقول العرب : منع البرد ، قيل : وسمي بذلك لأنه يقطع سورة العطش ، والذوق على هذين القولين مجاز ، أعني : كونه روحاً ينفس عنهم الحر ، وكونه النوم مجاز ، وأمَّا على قوله من جعله اسماً للشراب الباردِ المستلذّ كما تقدَّم عن ابن عباس رضي الله عنهما وأنشد قول حسان رضي الله عنه : [ الكامل ] @ 5077 - يَسْقُون مَنْ ورَدَ البَريصَ عَليْهِمُ بَرَدى تُصفِّقُ بالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ @@ قال ابنُ الأثيرِ : البريص : الماء القليل ، والبرصُ : الشيء القليل ؛ وقال الآخر : [ الطويل ] @ 5078 - أمَانيَّ مِنْ سُعْدى حِسانٌ كأنَّما سَقتْكَ بِهَا سُعْدَى عَلى ظَمَإٍ بَرْدَا @@ والذوق حقيقة ، إلا أنه يصير فيه تكرار بقوله بعد ذلك " ولا شراباً " . الثالث : أنَّه بدلٌ من قوله : " وَلا شَراباً " وهو الأحسنُ ؛ لأن الكلام غير موجب . قال أبو عبيدة : الحَمِيمُ : الماءُ الحارّ . وقال ابن زيد : دموع أعينهم تجمع في حياض ، ثم يسقونه . وقال النحاس : أصل الحميمِ الماءُ الحار ، ومنه اشتقَّ الحمَّام ، ومنه الحُمَّى ومنه ظل من يحموم ، إنَّما يراد به النهاية في الحر ، والغسَّاق : صديد أهل النار وقيحهم . وقيل : الزَّمهرير ، وتقدم خلاف القرَّاء في " غسَّاقاً " والكلام عليه وعلى " حَمِيم " . قال أبو معاذ : كنت أسمع مشايخنا يقولون : الغسَّاقُ : فارسية معربةٌ ، يقولون للشيء الذي يتقذرونه : خاشاك . قوله : { جَزَآءً } منصوبٌ على المصدر ، وعامله إما قوله : " لا يذوقون " إلى آخره ؛ لأنه من قوة جوزوا بذلك ، وإمَّا محذوف ، و " وَفَاقاً " نعت له على المبالغةِ ، أو على حذف مضاف ، أي : ذا مبالغة . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : معناه : موافقاً لأعمالهم ، فالوفاقُ بمعنى : " الموافقة " كالقتال من المقاتلة . قال الفراء والأخفش : أي : جازيناهم جزاء وافق أعمالهم . وقال الفراء أيضاً : هو جمع الوفقِ واللَّفقِ واحد . وقال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار . وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله بما يسوؤهم . وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : بتشديد الفاء من " وفقه كذا " . قوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } . أي : لا يخافون حساباً ، أي : محاسبة على أعمالهم ، وقيل : لا يرجون ثواب حساب . وقال الزجاج : إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث ، فيرجون حسابهم ، فهو إشارة إلى أنَّهم لم يكونوا مؤمنين . قوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } قرأ العامة : " كِذَّاباً " بتشديد الذال ، وكسر الكاف . وكان من حق مصدر " فعَّل " أن يأتي على " التَّفعيل " نحو صرَّف تصريفاً . قال الزمخشري : و " فعَّال " في باب " فعَّل " كله فاشٍ في كلام فصحاءٍ من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية ، فقال : لقد فسرتها فسَّاراً ما سمع بمثله . قال غيره : وهي لغة بعض العرب يمانية ؛ وأنشد : [ الطويل ] @ 5079 - لَقدْ طَالَ ما ثَبَّطتَنِي عَنْ صَحابَتِي وعَنْ حَاجَةٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا @@ يريد : تَقْضِيَتُهَا ، والأصل على " التفعيل " ، وإنَّما هو مثل " زكَّى تَزْكِيَةً " . وسمع بعضهم يستفتي في حجه ، فقال : آلحلق أحبُّ إليك أم القصَّار ؟ يريد التقصير . قال الفراء : " هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذبت كذّاباً ، وخرَّقتُ القميص خِرَّاقاً ، وكل فعل وزن " فعَّل " فمصدره " فِعَّال " في لغتهم مشددة " . وقرأ علي والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصري : بالتخفيف . وهو مصدر أيضاً ، إمَّا لهذا الفعل الظاهر على حذف الزوائد ، وإمَّا لفعل مقدر كـ " أنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتاً " . قال الزمخشري : " وهو مثل قوله تعالى : { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] يعني وكذبوا بآياتنا ، فكذبوا كذاباً ، أو تنصبه بـ " كذبوا " ؛ لأنه يتضمن معنى " كذّبوا " ، لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة ، فمعناه : وكذبوا بآياتنا ، فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنَّهم كانوا عند المسلمين مكاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنَّهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب ، فعل من يغالب فيبلغ فيه أقصى جهده " . وقال أبو الفضل : وذلك لغة " اليمن " ، وذلك بأن يجعل مصدر " كذب " مخففاً " كِذَباً " بالتخفيف مثل " كَتَبَ كِتَاباً " فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه , مثل : " أعطيته عطاءً " . قال شهابُ الدِّينِ : أمَّا " كذب كذاباً " بالتخفيف ، فهو مشهور ، ومنه قول الأعشى [ مجزوء الكامل ] @ 5080 - فَصدَقْتُهَـا وكَذبْتُهَـا والمَـرْءُ يَنْفعـهُ كِذَابُـهْ @@ وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون : " كُذاباً " بضم الكاف وتشديد الذال ، وفيها وجهان : أحدهما : أنه جمع كاذبِ ، نحو : ضراب " في " ضارب , وعلى هذا ، فانتصابه على الحال المؤكدة ، أي : وكذبوا في حال كونهم كاذبين . قاله أبو البقاء . والثاني : أنَّ " الكُذَّاب " بمعنى الواحد البليغ في الكذب ، يقال : رجل كذاب ، كقولك : حسان ، فيجعل وصفاً لمصدر كذبوا : أي تكذيباً كذباً مفرطاً كذبه . قاله الزمخشري . قال القرطبي : وفي " الصِّحاح " : وقوله تعالى : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } وهو أحد مصار المشدد ؛ لأن مصدره قد يجيء على " تَفْعِلَة " مثل " تَوصِيَة " ، وعلى " مُفَعَّل " مثل : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] . قوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ } العامة على النصب على الاشتغال ، وهو الراجح ، لتقدم جملة فعلية . وقرأ أبو السمال : برفع " كُل " على الابتداء ، وما بعده الخبر وهذه الجملة معترض بها بين السبب والمسبب ، لأنَّ الأصل : " وكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابَا " فـ " ذوقوا " مُسَبَّبٌ عن تَكْذيبهم . قوله : " أحْصَيْنَاهُ " . فيه أوجه : أحدها : أنه مصدر من معنى أحصينا ، أي : إحصاءً ، فالتجوُّز في نفس المصدر . الثاني : أنه مصدر لـ " أحْصَيْنَا " لأنَّه في معنى : " كَتَبْنَا " فالتجوُّز في نفس الفعل . قال الزمخشري : " لانتفاءِ الإحْصاءِ " ، والكتبة في معنى الضبط ، والتحصيل . قال ابن الخطيب : وإنَّما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة ؛ لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتَابَةِ " فكأنَّهُ تعالى قال : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } إحصاءً في القوة والثبات والتأكُّد ، كالمكتوب ، والمراد من قوله : " كِتَاباً " تأكيد ذلك الإحصاء والعلم ، وهذا التأكيد إنَّما ورد على حسب ما يليق بأفهام أهل الظاهر ، فإن المكتوب يقبل الزوال ، وعلمُ الله - تعالى - بالأشياءِ لا يقبل الزوال ؛ لأنَّه واجبٌ لذاته . الثالث : أن يكُون منصوباً على الحال ، بمعنى مكتوباً في اللوح المحفوظ ، لقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] . وقيل : أراد ما كتبته الملائكة الموكلون بالعباد ، بأمر الله - تعالى - إياهم بالكتابة ، لقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 10 ، 11 ] . فصل في المراد بالإحصاء معنى { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } أي : علمنا كُلَّ شيء علماً كما هو لا يزول ، ولا يتبدل ونظيره قوله تعالى : { أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [ المجادلة : 6 ] . قال ابن الخطيب : وهذه الآية لا تقبل التأويل ، لأن الله - تبارك وتعالى - ذكر هذا تقديراً لما ادعاه من قوله تعالى : " جَزَاءً وفاقاً " ، كأنه تعالى قال : أنا عالم بجميع ما فعلوه ، وعالم بجهات تلك الأفعال ، وأحوالها ؛ واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب ، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلاَّ قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم ، وهذا القدر إنما يتمُّ بثبوت كونه عالماً بالجُزئيَّاتِ ، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كافر قطعاً . قوله تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } قال ابن الخطيب : هذه " الفاء " للجزاء ، فنبَّه على أنَّ الأمر بالذوق معلَّل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم ، فهذه " الفاء " أفادت عين فائدة قوله : " جزاء وفاقاً " . فإن قيل : أليْسَ أنه - تعالى - قال في صفة الكفار : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 174 ] . فها هنا لمَّا قال تعالى لهم : " فذوقوا " ، فقد كلَّمهُمْ ؟ . فالجواب : قال أكثر المفسرين : ويقال لهم : " فَذُوقُوا " . ولقائلٍ أن يقول : قوله : { فَلَن نَّزِيدَكُمْ } لا يليق إلا بالله ، والأقرب في الجواب أن يقال : قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [ آل عمران : 77 ] معناه : ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع ، فإن تخصيص العموم سائغ عند حصول القرينة ، فإن قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ } [ آل عمران : 77 ] إنما ذكره لبيان أنَّه - تعالى - لا يقيم لهم وزناً ، وذلك لا يحصل إلال من الكلام الطيب . فإن قيل : إن كانت هذه الزيادة غير مستحقة كانت ظلماً ، وإن كانت مستحقة كان تركها في أول الأمر إحساناً ، والكريم لا يليق به الرجوع في إحسانه . والجواب : أنَّها مستحقةٌ ، ودوامها زيادة لفعله بحسب الدوام ، وأيضاً : فترك المستحق في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط . فصل في الالتفات في هذه الآية قال ابنُ الخطيبِ : قوله تعالى : { فَذُوقُواْ } يفيد معنى التعليل ، وهو التفات من الغيبةِ للخطابِ ، فهو دالٌّ على الغضبِ ، وفيه مبالغاتٌ : منها أنَّ " لن " للتأكيد ، ومنها الالتفات ، ومنها إعادة قوله : " فذوقوا " بعد ذكر العذاب ، قال أبو بزرة رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في القرآن ، قال عليه الصلاة والسلام : قوله : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] أي : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } [ النساء : 56 ] ، و { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] .