Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 78, Ayat: 31-37)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } . تقدم تفسير المتقين ، و " المفازُ " : يحتمل أن يكون مصدراً ، بمعنى : فَوْزاً وظفراً بالنعمة ، ويحتمل أن يكون المراد فوزاً بالنجاة من العذاب ، ولذلك قيل للفلاة إذا قل ماؤها : مفازة ، تفاؤلاً بالخلاص منها ، وأن يكون مجموع الأمرين . وقال الضحاك : منتزهاً . قوله : { حَدَآئِقَ } يجوز أن يكون بدلاً من " مفازاً " بدل اشتمالٍ أو بدل كُلٍّ من كل مبالغةً في أن جعل نفس هذه الأشياء مفازاً . ويجوز أن يكون منصوباً بإضمارِ " أعْنِي " ، وإذا كان مفازاً بمعنى الفوز ، فيُقدَّر مضاف ، أي فوز حدائق ، وهي جمع حديقة ، وهي البستان المحوط عليه ، ويقال : أحْدقَ بِهِ أي أحَاطَ . والأعْنَابُ : جمعُ عنب ، أي : كروم أعناب ، فحذف ، والتنكير في قوله تعالى : { وَأَعْنَاباً } يدل على تعظيم تلك الأعناب . قوله تعالى : { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } . الكواعب : جمع كاعب ، وهي من كعب ثديها وتفلك ، أي يكون الثدي في النتوء كالكعب والفلكة ، وهي النَّاهد ، يقال : كَعَبَتِ الجارية تكعب كُعوباً ، وكعَّبَتْ تَكْعِيباً ، ونهَدتْ تَنْهَدُ نُهُوداً ؛ قال : [ الطويل ] @ 5081 - وكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ثلاثُ شُخوصٍ : كاعِبانِ ومُعْصِرُ @@ وقال قيس بن عاصم المسعريُّ : [ الطويل ] @ 5082 - وَكَمْ مِنْ حَصَانٍ قَدْ حَوَيْنَا كَرِيمَةٍ وَمِنْ كَاعِبٍ لَمْ تَدْرِ مَا البُؤْسُ مُعْصِرِ @@ وقال الضحاك : الكواعب : العَذَارى ، والأتراب الأقران في السن ، وقد تقدم ذكرهن في " الواقعة " . قوله تعالى : { وَكَأْساً دِهَاقاً } . الدِّهَاقُ : الملأى المُترعَةُ . قيل : هو مأخوذ من دهقهُ ، أي : ضغطه ، وشده بيده ، كأنه ملأ اليد فانضغط ، قال : [ الوافر ] @ 5083 - لأنْتِ إلى الفُؤادِ أحَبُّ قُرْباً مِنَ الصَّادي إلى كَأسِ الدِّهاقِ @@ وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وأبي عبيدة ، والزجاج ، والكسائي . وقال عكرمة : ورُبَّما سمعت ابن عبًّاسٍ يقول : اسقنا وادهق لنا ، ودعا ابن عباس غلاماً له فقال له : اسقنا دهاقاً ، فجاء الغلام بها ملأى ، فقال ابن عباس : هذا الدِّهاق . وقيل : الدِّهاق : المتتابعة ؛ قال رحمه الله : [ الوافر ] @ 5084 - أتَانَا عَامِرٌ يَبْغِي قِرَانَا فأتْرعْنَا لَهُ كَأساً دِهاقَا @@ وهذا قول أبي هريرة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد . قال الواحدي : وأصل هذا القول من قول العرب : أدهقت الحجارة إدهاقاً ، وهي شدة ترادفها ، ودخول بعضها في بعض . ذكره الليث . والتَّتابعُ كالتَّداخُل . وعن عكرمة وزيد بن أسلمَ : أنَّها الصَّافيةُ ، وهو جمع " دهق " ، وهو خشبتان يعصر بهما . والمراد بالكأسِ : الخَمْرُ . قال الضحاك : كل كأس في القرآن فهو خمر ، والتقدير : وخمر ذات دهاق ، أي عصرت وصفيت بالدهاق ، قاله القشيري . وفي " الصحاح " وأدْهَقْتُ الماءَ ، أي : أفرغتُه إفراغاً شديداً ، قال أبو عمرو : والدَّهْقُ - بالتحريك - ضرب من العذاب ، وهو بالفارسية : " أشكَنْجَه " . قال المبرد : والمَدهوقُ : المُعذَّبُ بجميع العذاب الذي لا فرجة فيه . وقال ابن الأعرابي : دهقت الشيء : أي : كسرته وقطعته ، وكذلك : " دَهْدَقْتُهُ " و " دَهْمَقْتُهُ " بزيادة الميم المثلثة . وقال الأصمعي : " الدَّهْمَقَة " : لين الطعام وطيبه ورقته ، وكذلك كل شيء لين ، ومنه حديث عمر - رضي الله عنه - : لو شئت أن يدهمق لي لفعلت ، ولكن الله عاب قوماً فقال تعالى : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [ الأحقاف : 20 ] . قوله تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } أي : في الجنة ، وقيل : في الكأس . { لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } . اللَّغو : الباطلُ ، وهو ما يلغى من الكلام ويطرح ، ومنه الحديث : " إذا قُلتَ لِصاحبِكَ : أنْصِتْ ، فَقَدْ لغَوْتَ " وذلك أنَّ أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم ، ولم يتكلموا بلغو بخلاف الدنيا ، و " لا كِذَّاباً " أي : لا يتكاذبُون في الجنَّةِ . وقيل : هما مصدران للتكذيب ، وإنَّما خففها ؛ لأنَّها ليست مقيَّدة بفعل يصير مصدراً له ، وشدَّد قوله : { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ لأنَّ " كذَّبُوا " يفيد المصدر بالكذاب . قال شهابُ الدين : " وإنَّما وافقَ الكسائيُّ الجماعة في الأول للتصريح بفعله المشدد المقتضي لعدم التخفيف في " كذَّبوا " ، وهذا كما تقدم في قوله : { فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ } [ الإسراء : 91 ] ، حيثُ لم يختلف فيه للتصريح معه بفعله بخلاف الأول " . وفقال مكيٌّ : مَنْ شدد جعله مصدر " كَذَّب " ، زيدت فيه الألف ، كما زيدت في " إكْرَاماً " وقولهم : تَكْذِيباً ، جعلوا التاء عوضاً من تشديد العين ، والياء بدلاً منَ الألف غيَّروا أوَّله كما غيَّروا آخره ، وأصل مصدر الرباعي أن يأتي على عدد حروف الماضي بزيادة ألف مع تغيير الحركات ، وقالوا : " تَكَلُّماً " ، فأتي المصدر على عدد حروف الماضي بغير زيادة ألف ، وذلك لكثرة حروفه ، وضمت " اللام " ولم تكسر ؛ لأنَّه ليس في الكلام اسم على " تفعَّل " ولم تفتح لئلا تشتبه بالماضي ، وقراءة الكسائي : " كِذَّاباً " - بالتخفيف - جعله مصدر كذب كذاباً . وقيل : هو مصدر " كذب " كقولك : كتبتُ كِتَاباً . قوله : { جَزَآءً } . مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } كأنَّه قيل : جازى المتقين بمفاز . قوله : { عَطَآءً } بدلٌ من " جَزاءً " وهو اسم مصدر ؛ قال : [ الوافر ] @ 5085 - … وبَعُدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتاعَا @@ قال : وجعله الزمخشري : منصوباً بـ " جزاءً " نصب المفعول به . ورده أبو حيان بأنه جعل " جزاء " مصدراً مؤكداً لمضمون الجملة ، التي هي " إنَّ للمُتَّقِينَ " ، قال : " والمصدر المؤكد لا يعمل ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرف مصدري والفعل ، ولا نعلمُ في ذلك خلافاً " . قوله : " حساباً " . صفة لـ " عطاءً " ، والمعنى : كافياً ، فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه ، أو على حذف مضاف ، من قولهم : أحْسبَنِي الشيء أي : كفاني . وقال قتادةٌ : " عَطاءً حِسَاباً " أي : كثيراً ، يقال : أحسبتُ فلاناً أي : أكثرت له العطايا حتى قال : حسبي . وقال الكلبي : حاسبهم فأعطاهم بالحسنة عشر أمثالها ، وقد وعد قوماً جزاء لا نهاية له ، ولا مقدار ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] وقرأ أبو البرهسم ، وشريحُ بنُ يزيد الحمصي : بتشديد السين مع بقاء الحاء على كسرها . وتخريجها : أنَّه مصدر : مثل : " كذّاب " أقيم مقام الوصف ، أي : عطاء محسباً ، أي : كافياً . وابن قطيب : كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ . قال أبو الفتح : بناء " فعَّال " من " أفْعَل " كـ " دَرَّاك " من " أدْرك " بمعنى أنه صفة مبالغة من " حَسَب " بمعنى : كافي كذا . وابن عباس : " حَسَناً " بالنون من الحسن . وسريج : " حَسْباً " بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة ، أي : عطاء كافياً ، من قولك : حَسْبُك كذا ، أي : " كافيك " . قوله تعالى : { رَّبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ } . قرأ نافعٌ ، وابن كثير ، وأبو عمرو : برفع " رب " و " الرحمن " . وابن عامر ، وعاصم : بخفضهما . والأخوان : يخفض الأول ، ورفع الثاني . فأما رفعهما ، فيجوز من أوجه : أحدها : أن يكون " ربُّ " خبر مبتدأ محذوف مضمر ، أي : " هو رب " ، و " الرحمن " كذلك ، أو مبتدأ ، خبره " لا يَمْلِكُون " . الثاني : أن يجعل " ربُّ " مبتدأ ، و " الرحمن " خبره ، و " لا يملكون " خبر ثان ، أو مستأنف . الثالث : أن يكون " ربُّ " مبتدأ ، و " الرحمن " مبتدأ ثان ، و " لا يملكون " خبره ، والجملة خبر الأول ، وحصل الرَّبطُ بتكرير المبتدأ بمعناه , وهو رأي الأخفشِ ، ويجوز أن يكون " لا يَمْلِكُون " حالاً وتكون لازمة . وأما جرهما : فعلى البدل ، أو البيان ، أوالنعت ، كلاهما للأول ، إلاَّ أنَّ تكرير البدل فيه نظر وتقدم التنبيه عليه في آخر الفاتحة . وتجعل { رَّبِّ ٱلسَّمَاوَاتِ } تابعاً للأول ، و " الرَّحْمن " تابعاً للثاني على ما تقدم . وأمَّا الأول ، فعلى التبعية للأول . وأما رفع الثاني ، فعلى الابتداء ، والخبر : الجملة الفعلية ، أو على أنَّه خبر مبتدأ مضمر ، و " لا يَمْلِكُونَ " على ما تقدم من الاستئناف ، أو الخبر الثاني ، أو الحال اللازمة . قوله : { لاَ يَمْلِكُونَ } . نقل عطاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أن الضمير في " لا يملكون " راجع إلى المشركينَ ، أي : لا يخاطبهم الله . وأما المؤمنون فيشفعون ، ويقبل الله - تعالى - منهم بعد إذنه لهم . وقال القاضي : إنَّه راجع للمؤمنين ، والمعنى : أنَّ المؤمنين لا يملكون أن يخاطبُوا الله - تعالى - في أمرٍ من الأمورِ . فصل في أنَّ الله عدل في عقابه لما ثبت أنه - تعالى - عدل لا يجور ، وثبت أن العقاب الذي أوصله إلى الكفَّار عدل ، وثبت أنَّ الثَّواب الذي أوصله إلى المؤمنين عدل ، وأنَّه ما بخسهم حقَّهم ، فبأيِّ سبب يُخاطبونه . وقيل : الضمير يعود لأهل السماواتِ والأرضِ ، وإنَّ أحداً من المخْلُوقِيْنَ لا يملك مخاطبة الله - تعالى - ومكالمته . قال ابن الخطيب : وهذا هو الصواب .