Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 4-16)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ؛ التكرار للتوكيد . وزعم ابن مالك : أنَّه من باب التوكيد اللفظي ، ولا يضر توسّط حرف العطف ، والنحويون يأبون هذا ، ولا يسمونه إلا عطفاً وإن أفاد التأكيد ، والعامة : على الغيبة في الفعلين . والحسن ابن دينار وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما . والضحاك : قرأ الأول كالحسن ، والثاني كالعامة . والغيبة والخطاب واضحان . فصل في لفظ كلا قال القفالُ : " كلا " لفظة وضعت للردع ، والمعنى : ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم ، إنه باطل ، وإنه لا يكون . وقيل : معناه : حقَّا ، ثم إنه - تعالى - كرر الردع والتهديد ، فقال سبحانه { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهو وعيدٌ بأنهم سوف يعلمون أنَّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، وأما تكرير الردع ، فقيل : للتأكيد ، ومعنى " ثُمَّ " الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد . وقيل : ليس بتكرير . قال الضحاك : الأولى للكفار ، والثانية للمؤمنين أي : سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم . وقال القاضي : يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه ، وبالثاني : سيعلمون العذاب . وقيل : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ما الله فاعل بهم يوم القيامة { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } أنَّ الأمر ليس كما كانوا يتوهَّمون من أن الله غير باعث لهم . قوله : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً } لمَّا حكى الله - تعالى - عنهم إنكار البعث والحشر ، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه - تعالى - قادراً على جميع الممكنات عالماً بجميع المعلومات ؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث ، فأثبت هذين الأصلين بأن عدَّد أنواعاً من مخلوقاته المتقنةِ المحكمة ؛ فإنَّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ، وإذا ثبت هذان الأصلان ، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادراً على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها ، وعلى إيجاد عالم الآخرة ، فهذا وجه النظم . قوله : " مِهَاداً " . مفعول ثان ؛ لأنَّ الجعل بمعنى التصيير ، ويجوز ان يكون بمعنى الخلق ، فتكون " مِهَاداً " حالاً مقدرة . وقرأ العامة : " مهاداً " . ومجاهد وعيسى وبعض الكوفيين " مهداً " ، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة " طه " ، وأن الكوفيين قرأوا " مهداً " في " طه " و " الزخرف " فقط ، وتقدم الفرق بينهما ثمَّة . قوله تعالى : { وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } ، والكلام عليها كالكلام في " مِهَاداً " في المفعوليَّة والحاليَّة ، ولا بُدَّ من تأويلها بمشتق أيضاً ، أي مثبتات . والمهاد : الوطاء ، وهو الفراش ، لقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] ، ومعنى " مَهْداً " أي : كمهدِ الصَّبي ، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه ، و " أوتاداً " أي : لتسكن ولا تميل بأهلها . قوله : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } . أي : أصنافاً ، ذكراً وأنثى . وقيل : ألواناً . وقيل : يدخل كل زوجٍ بهيج ، وقبيح ، وحسن ، وطويل وقصير ، لتختلف الأحوال ، فيقع الاعتبار . قوله : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } الظاهر أنَّه مفعول ثانٍ ، ومعناه : راحةً لأبدانكم ، ومنه السبتُ أي : يوم الراحة ، أي : قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا فيه شيئاً . وأنكر ابن الأنباري هذا ، وقال : لا يقال للراحة : سباتاً . وقيل : أصله التمدُّد ، يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلَّته وأرسلته ، فالسُّبات كالمد ، ورجل مسبوتُ الخلق ، أي ممدود ، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد ، فسميت الراحة سبتاً . ةقيل : أصله القطع ، يقال : سبت شعره سبتاً ، أي : حلقه ، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس ، وعن الاشتغالِ ، فالسُّبات يشبه الموت ، إلا أنه لم تفارقه الروح ، ويقال : سيرٌ سبتٌ ، أي سهلٌ ليِّن . قوله : { وَجَعَلْنَا ٱللَّيْلَ لِبَاساً } . فيه استعارة حسنة ؛ وعليه قول المتنبي : [ الطويل ] @ 5069 - وكَمْ لِظَلامِ اللَّيْـلِ عِنـدكَ من يَـدٍ تُخَبِّـرُ أنَّ المانَويَّـة تَكـذِبُ @@ والمعنى : يُلبسُكُمْ ظُلْمتَهُ وتَغْشَاكُمْ . قاله الطبري , قال القفال : أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ، ويتغطّى به ، فيكون ذلك مُغَطِّياً ، فلمَّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباساً لهم ، فلهذا سمي الليل لباساً على وجه المجاز ، ووجه النعمة في ذلك هو أنَّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هرباً من عَدُو ، أو إخفاء ما لا يجب اطِّلاع غيره عليه . وقال ابن جبير والسدي : أي : أسْكنَّاكُمْ . قوله : { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } . فيه إضمار ، أي : وقت معاش ، فيكون مفعولاً ، وظرفاً للتبعيض ، أي : منصرفاً لطلب المعاش ، وهو كل ما يعاش به من المطعمِ ، والمشربِ مصدراً بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف ، يقال : عاش عيشاً ومعاشاً ومعيشةً ، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار . قوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } . أي : سبع سماوات محكمات ، أي : محكمة الخلق وثيقة البنيان . وشداداً : جمع شديدة ، أي : قوية لا يؤثِّر فيها مرور الأزمان لا فطور فيها ولا فروج ، ونظيره قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] . قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } . أي : وقَّاداً ، وهو الشمس ، و " جَعَلَ " هنا بمعنى " خلق " ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد ، والوهَّاج : المُضيء المتلألئ ، من قولهم : وهج الجوهر أي : تلألأ . وقيل : الوهَّاج : الذي له وهج ، يقال : وَهَجَ يَوْهَجُ ، كـ " وَحَلَ يَوحَلُ " ، " ووهَجَ يَهِجُ " كـ " وَعَدَ يَعِدُ " وهجاً . قال ابن عباس : وهَّاجاً : منيراً أي : مُتلألِئاً . قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ } . يجوز في " من " أن تكون على بابها من ابتداءِ الغاية ، وأن تكون للسببية ، وتدل على قراءة عبد الله بن زيد وعكرمة وقتادة : " بالمعصرات " بالباء بدل " من " ، وهذا على الخلاف في " المعصرات " ما المراد بها ، فعن ابن عباس : أنها السَّحاب ، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك ، أي : السحاب التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد كالمرأة المُعْصِر التي قد دَنَا حيْضُهَا ولمْ تَحِضْ ، يقال : أعْصرتِ السَّحابُ ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا جاز له أن يجز ؛ وأنشد ابن قتيبة أبي النَّجْم : [ الرجز ] @ 5070 - تَمْشِي الهُوَيْنَى مَائِلاً خِمارُهَا قَدْ أعْصَرتْ وقَدْ دَنَا إعْصَارُهَا @@ ولولا تأويل " أعْصرَتْ " بذلك لكان ينبغي أن تكون " المُعصَرات " - بفتح الصَّاد - اسم مفعول ؛ لأن الرياح تعصرها . وقال الزمخشري : وقرأ عكرمة : " بالمعصرات " . وفيه وجهان : أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال منها ، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهماً ، وأعطى بيده . وعن ابن عباس ومجاهد : " المعصرات " الرياح ذوات الأعاصيرِ كأنها تعصر السحاب . وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السَّحاب ، وكأنَّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ، ويمكن منه . فإن قلت : فما وجه من قرأ " من المعصراتِ " وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطرُ لا ينزل الرياح ؟ . قلت : الرياح هي التي تُنشِئُ السَّحاب ، وتدرُّ أخلافه ، فصحَّ أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء : إنَّ الله تبارك وتعالى يَبعثُ الرِّياح فَتَحْمِلُ المَاءَ من السَّماءِ إلى السَّحابِ . فإن صحَّ ذلك فالإنزال منها ظاهر . فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل " المعصرات " بمعنى المُغيثَات ، والعاصر المغيث لا المعصر ، يقال : عصره فاعتصر . قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت ، أي : حان لها أن تعصر ، أي : تغيث . يعني أن " عصر " بمعنى الإغاثة : ثلاثي ، فكيف قال هنا : " معصرات " بهذا المعنى وهو من الرباعي ؟ . فأجابه عنه بما تقدم : يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء . قال القرطبي : " ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات { مَآءً ثَجَّاجاً } ، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب ، كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان " بالمعصرات " لكان الريح أولى " . وفي " الصِّحاح " : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : مطروا ، ومنه قراءة بعضهم : { وفيه تُعْصَرُون } [ يوسف : 49 ] ، والمعصر : الجارية التي قربتْ سنَّ البلوغ ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر ، فقد أعصرت ، ومنه " العَصَرُ " - بالتحريك - للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصرُ - بالضم - أيضاً : الملجأ ، وأنشد أبو زيد : [ الخفيف ] @ 5071 - صَادِياً يَسْتَغيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ولقَدْ كَانَ عُصْرَةَ المَنْجُودِ @@ قوله : { مَآءً ثَجَّاجاً } : الثَّجُّ : الانصبابُ بكثرةٍ وبشدةٍ . وفي الحديث : " أحَبُّ العملِ إلى اللهِ العَجُّ والثَّجُّ " . فالعَجُّ : رفع الصوت بالتلبية . والثَّجُّ : إراقة دماءِ حجج الهدي ، يقال : ثجَّ الماء بنفسه ، أي : انصبَّ ، وثَجَجْتُه أنا : أي : صَبَبْتُه ثجَّا وثُجُوجاً ، فيكون لازماً ومتعدياً ؛ وقال الشاعر : [ الطويل ] @ 5072 - إذَا رَجَفَتْ فِيهَا رَحا مُرْجَحِنَّةٌ تَبَعَّقَ ثَجَّاجاً غَزِيرَ الحَوافِلِ @@ وقرأ الأعمش : " ثَجَّاحاً " - بالحاء المهملة - أخيراً . قال الزمخشري : " ومثاجح الماء : مصابُّه ، والماء يثجح في الوادي " . وكان ابن عبَّاس مثجًّا ، يعني يثج الكلام ثجًّا في خُطبته . قوله تعالى : { لِّنُخْرِجَ بِهِ } أي : بذلك الماء " حَبَّا " كالحِنْطَةِ والشعير وغير ذلك . " ونَبَاتاً " من الإنبات ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش . " وجَنَّاتٍ " أي : بساتين " ألْفَافاً " أي : مُلتفَّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها . وفي الألفاف وجوه : أحدها : أنه لا واحد له . قال الزمخشري : " ألْفافاً " : مُلتفَّة ، ولا واحد له كـ " الأوزاع " والأخْيَاف . والثاني : أنَّه جمعُ " لِفٍّ " - بكسر اللام - فيكون نحو : " سِرّ وأسرار " ؛ وأنشد أبو عليٍّ الطوسِيُّ : [ الرمل ] @ 5073 - جَنَّةٌ لِفٌ وعَيْشٌ مُغْدِقٌ ونَدامَى كُلُّهمْ بِيضٌ زُهُرْ @@ وهذا قول أكثر أهل اللغة ، ذكره الكسائي . الثالث : أنه جمع " لَفِيفٍ " . قاله الكسائي ، وأبو عبيدة كـ " شريف " و " أشراف " ، و " شهيد " و " أشهاد " ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 5074 - أحَابيشُ ألْفَافٍ تَبايَنَ فَرْعهُمْ وحَزْمُهُمْ عَنْ نِسْبَةِ المُتعَرفِ @@ الرابع : أنَّه جمعُ الجميع ، وذلك أنَّ الأصل : " لُفّ " في المذكر ، و " لَفَّاء " في المؤنث كـ " أحْمَر وحَمْرَاء " ، ثُمَّ جمع " لُف " على " ألفَاف " إذ صار " لف " زنة " فعل " جمع جمعه قاله ابن قتيبة . إلا أنَّ الزمخشري قال : وما أظنه واجداً له نظيراً من نحو : " خضر وأخضار ، وحمر وأحمار " . قال شهاب الدين : كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنَّ نظائرهُ لا تجمع على " أفْعَال " إذ لا يقال : " خضر ولا حمر " ، وإن كانا جمعين لـ " أحمر وحمراء ، وأخضر وخضراء " ، وهذا غير لازم ؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس ، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات ، كما رأيت من أن " لفَّاء " صار يضارع " فَعْلاء " ، ولهذا امتنعوا من تكسير " مفَاعِل ومفَاعِيْل " لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه . الخامس : قال الزمخشريُّ : " ولو قيل : هو جمع : " ملتفّة " بتقدير حذف الزوائد لكان قولاً وجيهاً " . وهذا تكلُّف لا حاجة إليه . وأيضاً : فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير ، يقولون : تصغير الترخيم بحذف الزوائد ، وفي المصادر يقولون : هذا المصدر على حذف الزوائد . قال القرطبي : ويقال : شجرة لفَّاء ، وشجر لفٌّ ، وامرأة لفَّاء ، أي : غليظةُ السَّاقِ مجتمعة اللحم . وقيل : التقدير : ونُخْرِجُ به جنَّاتٍ ألفافاً ، ثم حذف لدلالة الكلام عليه .