Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 15-16)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية . في " زَحْفاً " وجهان : أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال ، والتقديرُ : إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً . والثاني : أنه منصوبٌ على الحال بنفسه ، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال ، فقيل : الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ ، أي : جماعة ، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً ، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف ، وسيأتي . وقيل : هو المفعول ، أي : وَهُمْ جَمٌّ كثير ، أو يمشون إليكم . وقيل : هي حالٌ منهما ، أي : لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض ، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً ، يقال : زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيهما فهو زَاحفٌ زَحْفاً ، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا ، أي : دَنَوا لقتالنا . وقال اللَّيْثُ : الزَّحْفُ : الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم ؛ قال الأعشى : [ الكامل ] @ 2686 - لِمَنِ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ @@ وهذا من باب إطلاق المصدر على العين ، والزَّحْفُ : الدَّبيب أيضاً ، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس : [ المتقارب ] @ 2687 - فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ @@ ويجوزُ جمعُهُ على : زُحُوف ومَزَاحِف ، لاختلافِ النوع ؛ قال الهذليُّ : [ الوافر ] @ 2688 - كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ @@ ومَزاحِف : جمع " مَزْحَف " اسم المصدر . قوله : { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } مفعول : " تولُّوهم " الثَّاني هو " الأدْبار " ، وكذا " دُبُره " مفعول ثان لـ : " يُولِّهِمْ " وقرأ الحسن : بالسُّكونِ كقولهم : عُنْق في عُنُق ، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها ؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك ، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً ، وليس بشيء . قوله : " إلاَّ مُتَحرفاً " في نصبه وجهان : أحدهما : أنَّهُ حال . والثاني : أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري . فقال : " فإن قلت : بِمَ انتصبَ : " إلاَّ مُتَحرِّفاً " ؟ قلتُ : على الحالِ و " إلاَّ " لغوٌ ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين : أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً " . قال أبُو حيان : " لا يريدُ بقوله " إلاَّ " لغوٌ أنَّها زائدةٌ ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو " يُولِّهِمْ " وصل لِمَا بعدها كقولهم في " لا " من قولهم : جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ . وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوفة والتقدير : ومَنْ يُولِّهم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا ، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ " إلاَّ " لأن الشَّرط عندهم واجبٌ ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل " إلاَّ " فيه لا في المفعول ، ولا في غيره من الفضلات ، لأنه استثناء مُفرغ ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب ، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما ، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل " . قال شهابُ الدِّينِ : " قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات ، لا حاجة إليه لأنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً ، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما " . وقال ابنُ عطيَّة : " وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم " مَنْ " فجعل نصبه على الاستثناء " . وقال جماعةٌ : إنَّ الاستثناءَ من أنواع التولِّي ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ : إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً ، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ : الانضمامُ ، وتحوَّزت الحيَّة : انطوَتْ ، وحُزْتُ الشَّيء : ضَمَمْتُهُ ، والحَوْزَةُ : ما يَضُمُّ الأشياء ، ووزنُ " متحيَِز " " مُتَفَيعِل " والأصل " مُتَحَيْوِز " فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً ، وأدغمت في الباء بعدها ، كـ : مَيِّت ، ولا يجوزُ أن يكون : " مُتفَعِّلاً " ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان " متحوِّزاً " ، فأمَّا متحوِّز فـ " متفعِّل " . فصل معنى الآية : إذا ذهبتم للقتال ، فلا تولوهم الأدْبَارَ : أي لا تنهزموا ، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين : إحداهما : أن يكون مُتحَرّفاً للقتال ، أي : أنه يجعل تحرفه أنه منهزم ، ثم ينعطف عليه ، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها . يقال : تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء . والثانية : قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم ، والفئة الجماعةُ ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً ، وفي الكفار كثرة ، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة ، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال ، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً . والحاصل أن الانهزام من العدو حرام ، إلاَّ في هاتين الحالتين ، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إلاَّ في هاتين الحالتين { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ } في الآخرة { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [ الأنفال : 16 ] . فصل قال أبو سعيد الخدري : هذا في أصحاب بدر خاصة ؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعده الله بالنّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى . وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ ؛ لأنه كان أول جهاد ، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه ، لزم منه الخلل العظيم . فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة ، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب ، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك . قال يزيدُ بن أبي حبيب : أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر ، فلمَّا كان يوم أحد قال : { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] . ثم كان يوم حنين بعده فقال : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة : 25 ] . ثم قال بعده { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [ التوبة : 27 ] . وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ : " كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً ، فانْهَزَمْنَا ، فقُلْنَا يا رسول الله : نَحْنُ الفَرَّارُونَ ، فقال : " لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ " أنَا فِئَةُ المُسلمينَ " . وقال محمدُ بن سيرين : " لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلِمٍ " . وقيل : حكم الآية عام في كل حرب ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ " والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب . وقال عطاءُ بن أبي رباح : " هذه الآية منسوخةٌ بقوله : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة . وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار إلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم " . قال ابن عباس : " مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر ، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ " .