Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 17-18)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } في هذه " الفاء " وجهان : أحدهما - وبه قال الزمخشري - : أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر ، أي : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم . قال أبو حيان : " وليست جواباً ، بل لِربْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ " . قوله { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } قرأ الأخوان ، وابن عامر : { ولـكنِ اللَّهُ قتلَهُمْ } ، { ولَـكن اللَّهُ رَمَى } بتخفيف " لكن " ورفع الجلالة ، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ } [ البقرة : 102 ] وجاءت " لكن " هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات . قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } نفى عنه الرمي ، وأثبته له ، وذلك باعتبارين ، أي : ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال ، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب . وقوله : " ومَا رَمَيْتَ " هذه الجملة عطفٌ على قوله : " فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ " ؛ لأنَّ المضارع المنفي بـ " لَمْ " في قوة الماضي المنفي بـ " مَا " فإنَّك إذا قلت : " لَمْ يَقُمْ " كان معناه : ما قَامَ ولم يقل هنا : فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم ، كما قال : " إذْ رَمَيْتَ " مبالغةً في الجملة الثانية . فصل قال مجاهد : " سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ : أنا قتلتُ فلاناً ، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية " ومعناها : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم . وقيل : ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة . وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } في سبب نزولها ثلاثة أقوال : الأول : وهو قول أكثر المفسِّرين " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب النَّاس ، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد ، فأتوا بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين قريش ؟ قالا : هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القومُ ؟ قالا : كثيرٌ . قال : ما عددهم ؟ قالا : لا ندري . قال : كم ينحرون كلَّ يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ، ويوماً تسعة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال : فَمَنْ فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبةُ بن ربيعة ، وشيبةُ بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكم بن حزام ، والحارثُ بن عامر ، وطعمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وأبُو جهل بن هشام ، وأميةُ بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسُهَيل بن عمرو . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا " فلما أقبلت قريش ، ورآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي . فقال : " اللَّهم هذه قريشُ قَدْ بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ ، وتُكذب رسُولكَ ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي " ، فأتاه جبريل ، فقال : خُذْ قبضةً من تراب ، فارمهم بها ، فلمَّا التقى الجمعان ، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب ، فرمَى به وجوه القوم وقال : شاهتِ الوجوه ، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها . فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم " . وقال قتادةُ وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا فذلك قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفًّا من الحصى إلى وجوه جيش ، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء . وقيل : المعنى : وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ ، وقيل : وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى بالرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا . القول الثاني : أنَّهَا نزلت يوم خيبر . روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر ، فرمى سهماً ، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه ، فنزلت الآية . القول الثالث : أنَّهَا نزلت في يوم أحد ، " وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ ، وقال : يا محمَّدُ ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار " فأسر يوم بدر ، فلما افتدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها . فقال عليه السَّلامُ : " بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ " فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسْتَأخِرُوا " ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه ، فحمل فمات ببعض الطريق " ففي ذلك اليوم نزلت الآية . والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها ، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع ؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ . فصل ومعنى الآية : أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها ، فأنت ما رميتها في الحقيقة ؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر ، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم ، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى ، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات . واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى ؛ لأنَّ الله تعالى قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } [ الأنفال : 17 ] . ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدلَّ هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى . وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً ، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً . فإن قيل : أما قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } فيه وجوه : أحدها : أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة . وثانيها : أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله ، والتقدير : فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم . وأما قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } . قال القاضي : قيل : فيه أشياء : منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم ، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَّ بإيصالِ اللَّهِ تعالى ، ومنها : أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ ، فأوصلها إلى عيونهم . ومنها : أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم ، فكان المُرَادُ من قوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } هو أنه تعالى رمى قلوبهم بالرُّعْب . فالجوابُ : أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ . قوله : { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : وليبلي فعل ذلك ، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة ، أي : ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار ، وليُبْلي المؤمنين ، والبلاء في الخير والشَّر ، قال زهير : [ الوافر ] @ 2689 - … وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو @@ والهاءُ في " مِنْهُ " تعود على الظفر بالمشركين . وقيل : على الرمي قالهما مكيٌّ ، والظَّاهر أنها تعود على اللَّهِ تعالى . وقوله : " بَلاَءً " يجوزُ أن يكون اسم مصدر ، أي : إبلاء ، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به ، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي : ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر . قال القاضي : ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة ، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لدعائكم " عَلِيمٌ " بنيّاتكم . قوله : " ذَلِكُمْ " يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي : ذلكم الأمر ، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ . وقيل : هو خبر مبتدأ ، أي : الأمر ذلكم ، وهو تقدير سيبويه . وقيل : محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي : فعل ذلكم ، والإشارةُ بـ " ذَلِكُمْ " إلى القتل والرمي والإبلاء . قوله : " وأنَّ اللَّه " يجوزُ أن يكون معطوفاً على : " ذَلِكُمْ " فيحكم على محلِّه بما يحكمُ على محلِّ : " ذَلِكُمْ " ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي : واعلموا أنَّ الله ، وقد تقدم ما في ذلك . وقال الزمخشريُّ : " إنَّه معطوف على : " وليُبْلي " والمعنى : أنَّ الغرضَ إبلاءُ المؤمنين ، وتوهينُ كيد الكافرين " . وقرأ ابنُ عامر والكوفيون : " مُوهِن " بسكون الواوِ وتخفيف الهاءِ ، من " أوهَن " كـ : أكْرَم ، ونوَّن " موهن " غير حفص ، وقرأ الباقون : " مُوهِّن " بفتح الواو ، وتشديد الهاءِ ، والتنوين ، فـ " كَيْد " منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص ، ومخفوضٌ في قراءة حفص ، وأصله النَّصْبُ وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثر ؛ لأن ما عينه حرف حلقٍ غير الهمزة تعديته بالهمزة ولا يُعَدَّى بالتَّضعيف إلاَّ كلمٌ محفوظ نحو : وهَّنْتُه وضعَّفْتُه . فصل توهينُ الله كيدهم يكون بأشياء : بإطلاع المؤمنين على عوراتهم . وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم . ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم . قال ابن عبَّاسٍ : ينبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول : " إنّي قد أوْهَنْتُ كَيْدَ عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم " .