Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 41-44)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } الآية . لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ } وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة ، ذكر تعالى حكم الغنيمة ، والظَّاهرُ أنَّ " ما " هذه موصولةٌ بمعنى " الَّذي " ، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من " أنَّ " كما كُتبت : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [ الأنعام : 134 ] منفصلةً ، ولكن كذا رُسِمَت . و " غَنِمْتُم " صلتها ، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ ، أي : غَنِمْتُمُوه . وقوله " فأنَّ لِلَّهِ " الفاءُ مزيدةٌ في الخبر ؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه ؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } ثم قال : " فَلَهُم " والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً ، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه " إنَّ " المكسورة ، وآيةُ البروج [ 10 ] حُجَّةٌ عليه . وإذا تقرَّر هذا فـ " أنَّ " وما عملتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فواجبٌ أنَّ لله خمسهُ ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر خبر لـ " أنَّ " . وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلةً على : " أنَّ للَّهِ خُمُسَهُ " من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف ، بل جعلها بنفسها خبراً ، وليس مرادهُ ذلك ، إذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ ، بل على جملةٍ ، والذي يُقَوِّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريِّ ، أعني كونه قدَّر أنَّ " أنَّ " ، وما في حيِّزها مبتدأٌ ، محذوفُ الخبر ، فجعلهُ قولاً زائداً على ما قدَّمه . ويجوز في " ما " أن تكون شرطيةً ، وعاملُها " غَنِمْتُم " بعدها ، واسمُ " أنَّ " حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشَّأنِ وهو مذهبُ الفرَّاءِ ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجوزُ عند البصريين إلاَّ ضرورةً ، بشرط ألاَّ يليها فعل ؛ كقوله : [ الخفيف ] @ 2707 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَة يَوْماً يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وظِبَاءَ @@ وقول الآخَرِ : [ الخفيف ] @ 2708 - إنَّ مَنْ لامَ بَنِي بنتِ حَسَّا نَ ألُمْهُ وأعْصِهِ في الخُطُوبِ @@ وقيل : الفاءُ زائدةٌ ، و " أنَّ " الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وقال مكي : " وقد قيل : إنَّ الثانية مؤكدةٌ للأولى ، وهذا لا يجوز لأنَّ الأولى تبقى بغير خبر ؛ ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد وزيادتها لا تَحْسُن في مثل هذا " . وقيل : " ما " مصدريَّةٌ ، والمصدر بمعنى المفعول أي : أنَّ مغنومكم هو المفعول به ، أي : واعلموا أنَّ غُنمكم ، أي : مغنومكم . والغنيمةُ : أصلها من الغُنْمِ ، وهو الفوزُ ، يقال : غنم يغنم فهو غانم ، وأصلُ ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف ، فإنَّ الظفر به يُسَمَّى غُنْماً ، ثم اتُّسِع في ذلك ، فَسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغَنيمة ؛ قال علقمةُ بنُ عبدةَ : [ البسيط ] @ 2709 - ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطعمُهُ أنَّى توَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ @@ وقال الآخر : [ الوافر ] @ 2710 - لَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى رَضيتُ من الغنيمةِ بالإيَابِ @@ قوله " مِنْ شيءٍ " في محلِّ نصبٍ على الحال من عائد الموصول المقدَّر ، والمعنى : ما غنمتموه كائناً من شيء ، أي : قليلاً أو كثيراً . وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم . وحكى غيره عن الجعفيِّ عن هارون عن أبي عمرو : " فإنَّ لِلَّهِ " بكسر الهمزةِ ، ويُؤيدُ هذه القراءة قراءة النخعي " فللَّه خُمُسهُ " فإنها استئناف ، وخرجها أبُو البقاءِ على أنَّها وما في حيِّزها في محلِّ رفع ، خبراً لـ " أنَّ " الأولى . وقرأ الحسنُ وعبدُ الوارث عن أبي عمرو : " خُمْسَهُ " بسكون الميم ، وهو تخفيفٌ حسن . وقرأ الجعفيُّ " خِمْسه " بكسر الخاء . قالوا : وتخريجها على أنَّهُ أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها ، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة ، قالوا : وهي كقراءة من قرأ { وَالسَّمآءِ ذَاتِ الحِبُكِ } [ الذاريات : 7 ] بكسر الحاء إتباعاً لكسرة التاء من " ذاتِ " ولمْ يعتدُّوا بالساكن ، وهو لامُ التعريف ، لأنه حاجزٌ غير حصين . قال شهاب الدين " ليت شعري ، وكيف يقرأ الجعفيُّ والحالةُ هذه ؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل ، لخروجه من كسرٍ إلى ضمٍّ ، وإن قرأ بسكونها وهو الظَّاهرُ فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو ، أو عن عاصم ، ولكن الذي قرأ : " ذاتِ الحِبُكِ " يبقي ضمَّة الباء ، فيؤدي إلى " فِعُل " بكسر الفاء وضمِّ العين ، وهو بناءٌ مرفوض " . وإنما قلت : إنه يقرأ كذلك ؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع ؛ لأن في " الحُبُك " لغتين : ضمُّ الحاءِ والباءِ ، وكسرهما ، حتَّى زعم بعضهم أنَّ قراءة الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ من التَّداخل . فصل والغنيمةُ في الشريعةِ ، والفيء ، اسمان لما يُصيبه المسلمون من أموال الكفار . فذهب جماعة إلى أنهما واحد ، وذهب قومٌ إلى أنَّ الغنيمة ، ما أصابه المسلمُونَ منهم عَنْوَةً بقتال ، والفيء : ما كان من صلح بغير قتال . قوله " مِن شيءٍ " يعني : من أي شيء كان حتَّى الخيط : { فأَنَّ لِلَّهِ خمسَهُ وللرَّسُولِ } ذهب أكثر المفسِّرين والفقهاء إلى أنَّ قوله : " لِلَّه " افتتاح على سبيل التبرُّك ، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه . وليس المراد أن سهماً من الغنيمة " لِلَّهِ " مفرداً ، فإن الدنيا والآخرة لله عز وجل وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا : سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لِمنْ قاتل عليها ، والخُمْسُ لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } . وقال أبو العالية ، وغيره : يقسم الخُمْس على ستة أسهم : سهم لله تعالى ، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال : يُصرف سهم الله إلى الرسول ، ومنهم من قال : يصرفُ لعمارة الكعبة . وقال بعضهم : إنه عليه الصلاة والسلام كان يضربُ بيده في هذا الخُمْس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، وهو الذي سُمِّي " لِلَّهِ " . فصل قل القرطبي " هذه الآية ناسخة لأول السُّورة عند الجمهور ، وقد ادَّعى ابن عبد البر : الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنفَالِ } [ الأنفال : 1 ] وأنَّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر ، على ما تقدم . وقيل : إنها مُحكمة غير منسوخة ، وأنَّ الغنيمة لرسُولِ الله ، وليست مقسومة بين الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماورديُّ عن كثير من أصحاب مالكٍ ، واحتجوا بفتح مكَّة وقصَّة حنين ، وكان أبو عبيد يقول : افْتَتَحَ رسولُ الله مكَّة عنوةً ومنَّ على أهلها ، فردها عليهم ، ولم يَقْسِمها ، ولم يجعلها فَيْئاً " . فصل أجمع العلماءُ على أن قولهُ : { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ } ليس على عمومه ، وأنَّهُ مخصوصٌ باتفاقهم على أنَّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمامُ ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيَّرٌ ، وكذلك الأراضي المغنومة . فصل قال الإمامُ أحمدُ : لا يكون السَّلب للقاتل إلاَّ في المبارزة خاصَّة ، ولا يخمس وهو قول الشافعيِّ - رضي الله عنه - ؛ ولا يعطى القاتل السَّلب ، إلاَّ أن يقيم البيَّنة على قتله . قال أكثرُ العلماء : يجوزُ شاهد واحد ؛ لحديث أبي قتادة ، وقيل : شاهدان . وقيل : شاهد ويمين ، وقيل : يقضى بمجرد دعواه . قوله : " ولِذِي القُرْبَى " أي : أنَّ سَهْماً من خمس الخمس لذوي القربى ، وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا فيهم . فقال قومٌ : هم جميع قريش ، وقال قومٌ : هم الذين لا تحل لهم الصَّدقة . وقال مجاهدٌ وعلي بنُ الحسينِ : هم بنُو هاشمٍ وبنو المطلب ، وليس لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل منه شيء ، وإن كانوا إخوة ، لما روي عن جُبير بن مطعم قال " قسَّم رسولُ الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من بني عبد شمس ، ولا لبني نوفل ؛ ولما روى محمدُ بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : لمَّا قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشمٍ وبني المطلب أتيته أنا ، وعثمان بنُ عفان ، فقلنا يا رسُول الله : هؤلاء إخواننا من بني المُطَّلِبِ أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا ، وإنَّما قرابتنا وقرابتهم واحدةً ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّما بنُو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ هكذا " وشبَّك بين أصابعه " . واختلف العلماءُ في سهم ذوي القربى ، هل هو ثابتٌ اليوم ؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّهُ ثابت وهو قول مالك والشافعي ، وذهب أصحابُ الرَّأي إلى أنَّهُ غير ثابت ، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القربى مَرْدُودان في الخُمس ، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثةِ أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل . وقال بعضهم : يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء ، أي : يعطى لفقره لا لقرابته ، والكتاب والسنة يدلاَّن على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه ، ولا يُفَضل فقير على غني ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله ، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة ، غير أنه يعطى القريب والبعيد . وقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين ، والأنثى سهماً . قال القرطبي : " ليست اللاَّم في " لِذِي القُرْبَى " لبيان الاستحقاق والملك ، وإنَّما هي للمصرف والمحل " . قوله : { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } اليتامى : جمع " يَتيمٍ " وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيراً ، و " المَسَاكِين " هم أهْلُ الفاقة والحاجة من المسلمين ، و " ابْنِ السَّبيلِ " هو المسافر البعيد عن مالهِ ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدُوا الوقعة ، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه ، وللرَّاجل سهم ؛ لما روى ابنُ عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سَهْماً له وسهمين لفرسه " . وهذا قولُ أكثر أهل العلم ، وإليه ذهب الثوريُّ ، والأوزاعيُّ وابن المبارك والشافعيُّ وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان وللرَّاجلِ سهم ، ويرضخ للعبيد ، والنسوان ، والصبيان إذا حضروا القتال . قال القرطبيُّ : " إذا خرج العبدُ ، وأهلُ الذِّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس " لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب . ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقولِ ، وعند أبي حنيفة يتخيَّرُ الإمام في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقْفاً على المصالح . وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول ، ومن قتل مُشركاً استحقَّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من قَتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه " . والسَّلبُ : كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه . ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناءٍ وبلاء يكون منهم في الحرب يخُصُّهم به من بين سائر الجيش ، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة ، لما روى ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش " . وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم " نَفَّلَ الرُّبعَ في البَدْأة والثُّلثَ في الرَّجْعَةِ " . واختلف في النفل من أين يعطى ؟ . فقال قوم : يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَا لي مِمَّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخُمسُ مردودٌ فيكم " . وقال قومٌ : هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق . وذهب بعضهم إلى أنَّ النَّفْلَ من رأس الغنيمةِ قبل التخميس كالسّلب للقاتل . فصل دلَّت هذه الآية على جوازِ قسمة الغنيمة في دار الحربِ ، لقوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } الآية . فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة . وروى الزمخشريُّ عن الكلبيِّ : " أنَّ هذه الآية نزلت ببدرٍ " . وقال الواقديُّ " كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة " . فصل قال القرطبيُّ : لمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين . وملك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، إلاَّ أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بثمامة بن أثال ، وبين القتل كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي مُعيط من بين الأسرى صبراً ، وقتل ابن الحرث صبراً ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب ، وسهم الصفيّ يصطفي سيفاً أو خادماً أو دابة ، وكانت صَفية بنت حُيَيّ من الصَّفيِّ من غنائم خيبر ، وكذلك ذو الفقار كان منه ، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقياً للإمام يجعله حيث شاء [ وكان أهل الجاهلية ] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم : [ الوافر ] @ 2710 - لكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفايَا وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضُول @@ يقال ربع الجيش يربعه : إذا أخذ ربع الغنيمة . قال الأصمعي : ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام ، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصَّفيِّ في أي شيء أراد ، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له ، فأحكم الله تعالى الدين بقوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } فأبقى سهم الصَّفيِّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية . قوله : " إن كُنتُمْ " شرطٌ ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور ، لا متقدم ، أي : إن كنتم آمنتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم ، أو : فاقبلوا ما أمرتم به . والمعنى : واعلمُوا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فانَّ للَّهِ خُمُسَه وللرَّسُولِ يأمر فيه ما يريد ، فاقبلوه إن كنتم آمنتم باللَّهِ ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، وهو قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] لمَّا نزلت في يوم بدر ، وهو يوم الفرقان فرق اللَّهِ فيه بين الحقِّ والباطل ، وهو يوم التقى الجمعان ، حزب الله وحزب الشيطان ، وكان يوم الجمعة سبع عشر مضت من رمضان . وقوله " ومَا أنزلْنَا " عطفٌ على الجلالة ، فهي مجرورةُ المحلِّ ، وعائدُها محذوف ، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه ، وهو قوله فـ { نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } [ الأنفال : 40 ] . وهذا لا يجوز على قواعد البصريين . قوله : " يَوْمَ الفُرقِانِ " يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أن يكُون منصوباً بـ " أنزَلْنَا " أي : أنزلْنَاهُ في يوم بدر ، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل . الثاني : أن ينتصبَ بقوله " آمنتُم " أي : إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ ، ذكره أبُو البقاءِ . الثالث : يجوزُ أن يكون منصوباً بـ " غَنِمْتُم " . قال الزَّجَّاجُ : أي : ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا . قال ابن عطية : " وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى ، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ " ، وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه . وذلك أنَّ " ما " إمَّا شرطية ، كما هو رأي الفرَّاءِ ، وإمَّا موصولة ، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط ، ومعموله بجملة الجزاء ، ومتعلَّقاتها ، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر " أنَّ " . قوله { يَوْمَ ٱلْتَقَى الجمْعَانِ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ بدل من الظرف قبله . والثاني : أنه منصوب بـ " الفرقان " ؛ لأنَّه مصدرٌ ، فكأنه قيل : يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي : الفرق في يوم التقاء الجمعين . وقرأ زيد بن علي : " عَلَى عُبُدنَا " بضمتين ، وهو جمع " عَبْد " وهذا كما قد قرىء { وعُبُد الطَّاغُوتِ } [ المائدة : 60 ] ، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، والمراد بـ " مَا أنزلْنَا " أي : الآيات والملائكة ، والفتح في ذلك اليوم . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : يقدر على نصركم وأنتم قليلون . قوله " إذْ أنتُم " في هذا الظَّرف أربعةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّهُ منصوبٌ بـ " اذكُرُوا " مُقدراً ، وهو قول الزَّجَّاجِ . الثاني : أنَّهُ بدلٌ من " يَوْمَ الفرقانِ " أيضاً . الثالث : أنه منصوب بـ " قديرٌ " وهذا ليس بواضحٍ ؛ إذ لا يتقيَّد اتِّصافه بالقدرة بظرفٍ من الظُّروف . الرابع : أنه منصوبٌ بـ " الفُرْقَانِ " أي : فرق بين الحقِّ والباطل إذْ أنتم بالعُدْوَةِ . قوله : " بالعُدْوَةِ " متعلقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ خبر المبتدأ ، والباء بمعنى : " في " كقولك : زيد بمكة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " بالعِدْوَةِ " بكسر العينِ فيهما ، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته ، كالكُسْوة والكِسْوة ، والرُّشوة والرِّشوة ، سُمِّيت بذلك لأنَّها عدتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزها ، أي : منعته ؛ قال الشَّاعرُ : [ الوافر ] @ 2711 - عَدَتْنِي عَنْ زيارتها العَوَادِي وحَالَتْ دُونهَا حَرْبٌ زَبُونُ @@ وقرأ الحسنُ وزيد بن علي ، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح ، وهي كلها لغاتٌ بمعنى واحد . هذا هو قولُ جمهور اللغويين ، على أنَّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ ، ووافقه الأخفش ، فقال : " لَمْ يُسْمَعْ من العرب إلاَّ الكسرُ " . ونقل أبو عبيد اللغتين ، إلاَّ أنه قال : الضَّمُّ أكثرهما ، وقال اليزيديُّ : " الكسر لغةُ الحجازِ " ؛ وأنشدوا قول أوس بنِ حجرٍ : [ البسيط ] @ 2712 - وفَارسٍ لمْ يَحُلَّ القومُ عُِدْوتَهُ ولَّوْا سِرَاعاً ومَا هَمُّوا بإقْبَالِ @@ بالكسر ، والضم . وهذا هو الذي ينبغي أن يقال ، فلا وجهَ لإنكار الضَّمِّ ، ولا الكسْرِ ، لتواتر كلٍّ منهما ، ويحمل قول أبي عمرو على أنَّهُ لم يبلُغْه ، ويحتمل أن يقال في قراءةِ من قرأ بفتح العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان . وقُرىء شاذًّا " بالعِدْيَة " بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها ، ولا يُعْتبر الفاصلُ ؛ لأنَّه ساكن ، فهو حاجز غير حصين ، وهذا كما قالوا : " هو ابن عمي دِنيا " بكسر الدَّال ، وهو من الدنو ، وكذلك : قِنْيَة ، وصِبْيَة ، وأصله السَّلامة ، كالذِّرْوَة ، والصِّفْوة والرِّبْوَة ، وقد تقدَّم الكلام على لفظة " الدُّنْيَا " . قوله " القُصْوَى " تأنيث " الأقصى " ، والأقصى : الأبعد ، والقَصْوُ : البعد وللصَّرفيين عبارتان ، أغلبهما أن " فُعْلَى " من ذوات الواو ، إن كانت اسماً أبدلَتْ لامُها ياءً ، ثم يُمَثِّلُون بنحو : الدُّنْيَا ، والعُلْيَا ، والقُصْيَا ، وهذه صفاتٌ ؛ لأنَّها من باب أفعل التَّفضيل ، وكأنَّ العذر لهم أنَّ هذه وإن كانت في الأصْلِ صفاتٍ ، إلاَّ أنَّها جرتْ مجرى الجوامد . قالوا : وإنْ كانت " فُعْلَى " صفةً أقرَّتْ لامُها على حالها ، نحو : الحُلْوى ، تأنيث الأحلى ونصُّوا على أنَّ " القُصْوَى " شاذة ، وإن كانت لغة الحجاز ، وأنَّ " القُصْيَا " قياسٌ وهي لغة تميم ، وممَّنْ نصَّ على شذوذ : " القُصْوَى " يعقوب بن السِّكِّيت . وقال الزمخشريُّ : وأمَّا " القُصْوَى " فكالقَوَد في مجيئه على الأصل ، وقد جاء " القُصْيَا " إلاَّ أنَّ استعمال " القُصوى " أكثر ، كما كثر استعمال " استصوب " مع مجيء " استَصَابَ " ، و " أغيَلت " مع " أغَالَتْ " انتهى . وقد قرأ زيد بن عليٍّ : " بالعُدْوةِ القُصْيَا " فجاء بها على لغة تميم ، وهي القياسُ عند هؤلاء . والعبارة الثانية - وهي القليلةُ - العكس ، أي : إن كانت صفةً أبدلتْ ، نحو : العُلْيَا والدُّنيا ، والقُصْيا ، وإن كانت اسماً أقرَّتْ ؛ نحو " حُزْوَى " ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2713 - أدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً فَمَاءُ الهَوَى يرفَضُّ ، أو يَتَرقْرَقُ @@ وعلى هذا فـ " الحُلْوَى " شاذة ؛ لإقرار لامها مع كونها صفة ، وكذا " القُصْوَى " أيضاً ، عند هؤلاء ؛ لأنها صفة وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أنَّ " قُصْوَى " على خلافِ القياسِ فيهما وأن " قُصْيَا " هي القياس ؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء ، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات ، وهم يقلبونها أيضاً ياءً ، وإنَّما يظهر الفرقُ في " الحُلْوى " و " حُزْوَى " فـ : " الحُلْوَى " عند الأولين تصحيحها قياسٌ ، لكونها صفةً ، وشاذة عند الآخرين ، لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلبُ واوُها ياءً . و " الحُزْوَى " عكسُها ، فإنَّ الأولين يقلبُون في الأسماء ، دون الصفات ، والآخرون عكسُهم . وهذا موضعٌ حسنٌ ، يختلط على كثير من النَّاس ، فلذلك شرحناه . ونعني بالشذوذِ : شذوذ القياس ، لا شذوذ الاستعمال ، ألا ترى إلى استعمال التواتر بـ " القُصْوَى " . قوله { والرَّكْبُ أسفلَ منكُمْ } الأحسنُ في هذه الواو ، والواو التي قبلها الداخلة على " هم " : أن تكون عاطفة ما بعدها على " أنتُم " ؛ لأنَّها مبدَأ تقسيم أحوالهم ، وأحوال عدوِّهم ويجوزُ أن يكونا وَاوَي حال ، و " أسْفَلَ " منصوبٌ على الظَّرف النَّائب عن الخبرِ ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوفٍ ، أي : والرَّكْبُ مكاناً أسفل مِنْ مكانكم . وقرأ زيد بنُ عليٍّ " أسْفَلُ " بالرَّفعِ ، على سبيل الاتِّساع ، جعل الظرف نفس الركب مبالغةً واتساعاً . وقال مكيٌّ : " وأجاز الفرَّاءُ ، والأخفشُ ، والكسائي رحمهم الله تعالى " أسْفَلُ " بالرَّفع على تقدير محذوفٍ ، أي : موضعُ الرَّكب أسفل " ، والتخريجُ الأوَّل أبلغُ في المعنى ، والرَّكْبُ : اسمُ جمعٍ لـ " رَاكبٍ " لا جمع تكسرٍ له ؛ خلافاً للأخفش ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 2714 - بَنَيْتُهُ مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ ماليَا أخْشَى رُكَيْباً ورُجَيْلاً عَادِيَا @@ فصَغَّره على لفظه ، ولو كان جمعاً لما صُغِّر على لفظه . قوله " ولكِن ليَقْضِيَ " متعلِّقٌ بمحذوف ، أي : ولكن تلاقَيْتُم لِيقْضِي ، وقدَّرَ الزمخشريُّ ذلك المحذوف فقال : " أي : ليقضي اللَّهُ أمراً كان واجباً أن يفعل ، وهو نصرُ أوليائه وقهرُ أعدائه دبر ذلك " ، و " كَانَ " يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزَّمانِ الماضي ، وأن تكون بمعنى " صار " ، فتدُلَّ على التحوُّلِ ، أي : صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك . قوله " لِيَهْلِكَ " فيه أوجه : أحدها : أنَّهُ بدلٌ من قوله : " ليَقضيَ اللَّهُ " بإعادة العاملِ فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول . الثاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بقوله " مَفْعُولاً " ، أي : فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكَيْتَ . الثالث : أنَّهُ متعلِّق بما تعلَّق به " لِيَقْضِيَ " على سبيل العطفِ عليه بحرفِ عطفٍ محذوف ، تقديره : وليهلكَ ، فحذف العاطفَ ، وهو قليلٌ جدًّا ، وتقدَّم التنبيه عليه . الرابع : أنَّهُ متعلِّق بـ " يَقْضِي " ذكره أبُو البقاءِ رحمه الله تعالى . وقرأ الأعمشُ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم " لِيَهْلَكَ " بفتح اللاَّمِ ، وقياسُ ما مضى هذا " هَلِكَ " بالكسر ، والمشهور إنما هو الفتح ، قال تعالى : { إِنِ ٱمْرُؤٌ هَلَكَ } [ النساء : 176 ] { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ } [ غافر : 34 ] . قوله " مَنْ حَيَّ " قرأ نافعٌ وأبو بكر عن عاصم ، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام ، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان ، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة ؛ نحو : " حَيِيَ ، وعَيِيَ " ، ومن الإدغام قول المتلمِّس : [ الطويل ] @ 2715 - فَهَذَا أوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه … @@ وقال الآخرُ : [ مجزوء الكامل ] @ 2716 - عَيُّوا بأمْرِهِمُ كَمَا عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمَامَهْ @@ فأدغم " عَيُّوا " ، وينُشدُ " عَيَّتْ ، وعَييَتْ " بالإظهارِ والإدغام ، فمن أظهر ؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ ، وهو ثقيلٌ في ذاته ؛ ولأن الياء الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ ، وذلك في مضارع هذا الفعل ؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا ، ويَعْيَا ، فحمل الماضي عليه طرداً للباب ؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ ؛ لزوالها في نحو : حَيِيتُ ، وبابه ؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان ؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين . قالوا وكذلك : لَحِحَت عينه وضببَ المكان ، وألِلَ السِّقاءُ ، ومشِشَتْ الدَّابة . قال سيبويه : " أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ " يعني بلغة الإظهار . قال : " قد سمعت بعض العرب يقولُ : أحْيِياء ، وأحْيِيَة ، فيظهر " . وإذا لم يدغم مع لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلَى ، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه ؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء ، ولا يضُرُّ زوالها في نحو : " حَيِيْتُ " ، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيحِ ، نحو : حَلَلْتُ وظَللْتُ ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ ، ولذلك قُيِّد به الماضي . أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط ، نحو : لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ . فصل قوله " عَن بيِّنَةٍ " متعلق بـ " يَهْلِكَ " و " يَحْيَا " ، والهلاكُ ، والحياةُ عبارةٌ عن الإيمان والكفرِ ، والمعنى : ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان ، لا عن مُخالطةِ شبهة ، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة . معنى الآية : " إذْ أنتُمْ " أي : اذكرُوا يا معشر المسلمين : { إِذْ أَنتُمْ بالعُدْوةِ الدُّنْيَا } أي : بشفير الوادي الأدنى من المدينة ، والدُّنْيَا : تأنيثُ الأدْنَى ، " وهُم " يعني : المشركين . " بالعُدُوَةِ القُصْوَى " بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة ، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون ، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد ، " والرَّكْبُ " العير التي خرجوا إليها : " أسْفَلَ مِنكُمْ " أي : في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر . " ولوْ توَاعَدتُّمْ " أنتم ، وأهل مكَّة " لاخْتَلَفْتُمْ " لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم ، وكثرتهم ، أو لأن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير ، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه { لِيَهْلِكَ من هلك عن بَيِّنةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عن بَيِّنَةٍ } . وذلك أن عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر ، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ ، وعدم الأهبة ، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ ، لكثرتهم في العدد والعدة ، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي ، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً ، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة ، وجعل الغلبة للمسلمين ، والدَّمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر . وقوله : { لِيَهْلك من هلك عن بيِّنةٍ } إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة ، والمراد من البيِّنةِ : المعجزة ، ثم قال : { وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : يسمع دعاءكم ، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم . قوله : { إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } . النَّاصب لـ " إذْ " يجوزُ أن يكون مضمراً ، أي : اذكُرْ ، ويجوزُ أن يكون " عليم " ، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ ، ويجوزُ أن تكون " إذْ " هذه بدلاً من " إذْ " قبلها ، والإراءة هنا حُلُمية . واختلف فيها النُّحاةُ : هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ ، أو لاثنين ، كالظَّنِّيَّة ؟ . فالجمهورْ على الأوَّلِ . فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً ، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول ، و " هُمْ " مفعولٌ ثان ، و " قَلِيلاً " حال ، وعلى الثَّاني يكون " قَلِيلاً " نصباً على المفعول الثالث ، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً ، أي : من غير دليل تقول : أراني الله زيداً في مَنَامِي ، ورأيتك في النوم ، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ ، لما حُذفَ اقتصاراً ؛ لأنه خبر في الأصل . فصل المعنى : إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك ، أي : نَوْمك . قال مجاهد : أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقالوا : رُؤيَا النَّبي حق ، القومُ قليل ، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم . فإن قيل : رؤية الكثير قليلاً غلط ، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك ؟ . فالجوابُ : أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ ، ويحكم ما يريدُ ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون . وقال الحسنُ : هذه الإراءة كانت في اليقظة ، قال : والمراد من المنامِ : العين ؛ لانَّها موضع النَّوْمِ . { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم " ولتنَازَعْتُمْ " اختلفتم " فِي الأمْرِ " أي : في الإحجام والإقدام { ولـكنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } أي : سَلَّمكُم من المخالفة والفشل . وقيل : سلَّمهم من الهزيمة يوم بدر . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . قال ابنُ عبَّاسٍ : عليم بما في صدوركم من الحُبِّ لِلَّهِ تعالى وقيل : يعلم ما في صدوركم من الجراءة ، والجُبن والصَّبر والجزع . قوله تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُهُمْ } الإراءةُ - هنا - بصرية ، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ ، لاتصالها بضمير ، ولا يجوزُ التَّسكينُ ، ولا الضَّمُّ من غير واوٍ ، وقد جوَّز يونس ذلك فيقول : " أنْتُم ضرَبْتُمهُ " بتسكين الميم وضمها ، وقد يتقوَّى بما روي عن عثمان - رضي الله عنه - : " أراهُمُنِي الباطِلُ شَيْطَاناً " وفي هذا الكلام شذوذ من وجهٍ آخر ، وهو تقديمُ الضمير غير الأخصِّ على الأخصِّ مع الاتصال . فصل قال مقاتل - رضي الله عنه - " إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى في المنام أنَّ العدد قليلٌ قبل لقاء العدو ، وأخبر أصحابه بِمَا رأى ، فلمَّا التقوا ببدر قلَّل اللَّهُ المشركين في أعين المؤمنين " . قال ابنُ مسعودٍ : " لقد قللُوا في أعيننا حتى قلتُ لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال أراهم مائة ، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاً " . " ويُقَلِّلُكُمْ " يا معشر المؤمنين " فِي أعينهم " . قال السُّدي : " قال ناسٌ من المشركين إنَّ العير قد انصرفت ، فارجعُوا ، فقال أبو جهلٍ : الآن إذ برز لكم محمدٌ وأصحابه ؟ فلا ترجعوا ، حتَّى تستأصلوهم ، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال " ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين : تصديق رُؤيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولتقوى قلوبهم ، وتزداد جراءتهم على المشركين ، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعينِ المشركين : لئلاَّ يُبالغُوا في الاستعداد والتأهُّب والحذر ، فيصيرُ ذلك سَبَباً لاستيلاء المؤمنين عليهم . ثم قال : { لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } . فإن قيل : ذكرُ هذا يفْهَمُ من الآية المتقدمة ، فكان ذكره - ههنا - محض التكرار . فالجوابُ : أنَّ المقصودَ من ذكره في الآية المتقدمة ، هو أنَّهُ تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالَّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره ، أنه إنَّما فعل ذلك ، لئلاَّ يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصيرُ ذلك سَبَباً لانكسارهم . ثمَّ قال { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } والغرضُ منه التَّنبيه على أنَّ أحوال الدُّنْيَا غير مقصودة لذاتها ، بل المراد منها ما يصلحُ أن يكون زاداً ليوم المعاد .