Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 45-46)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ } الآية . لمَّا ذكر نعمه على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين يوم بدر ، علَّمهم - إذا التقوا - نوعين من الأدبِ ، الأوَّل : الثَّبات وهو أن يُوَطِّنُوا أنفسهم على اللَّقاء ، ولا يحدثوها بالتولِّي . والثاني : أن يذكروا اللَّه كثيراً ، فقال : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواَْ } فيه ، أي : جماعة كافرة " فاثبتُوا " لقتالهم . { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً } ادعوا الله بالنصر والظفر بهم . وقيل : المرادُ أن يذكروا الله كثيراً بقلوبهم ، وبألسنتهم . ثم قال تعالى : { لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : كونوا على رجال الفلاح . فإن قيل : هذه الآية تُوجب الثَّبات على كلِّ حال ، وهذا يُوهمُ أنَّها ناسخةٌ لآية التَّحرف والتحيُّز . فالجوابُ : أنَّ هذه الآية توجب الثَّبات في الجملة ، وهو الجدّ في المحاربة ، وآيةُ التحرّف والتحيّز لا تقدحُ في حصول الثبات في المحاربة ، بل الثبات في هذا المقصود ، لا يحصل إلاَّ بذلك التحرف والتحيز ، ثمَّ أكد ذلك بقوله : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } فيما يأمر به ؛ لأن الجهاد لا ينفع إلاَّ مع التَّمسُّك بسائر الطاعات ، " ولاَ تَنَازعُوا " لا تختلفوا ، فإنَّ النزاعَ يوجب أمرين . أحدهما : الفشل ، وهو الجُبن والضَّعف . والثاني : " تَذْهبَ ريحُكُمْ " . قال مجاهدٌ : نصرتكم . وقال السُّديُّ : جراءتكم وجدكم . وقال مقاتل : حدَّتكم . وقال النضرُ بنُ شُميلٍ : قُوَّتكم . وقال الأخفشُ : دولتكم . و " الرِّيح " هاهنا - كنايةٌ عن بقاء الأمر وجريانه على المرادِ ؛ تقول العربُ : " هَبَّت ريحُ فلان " إذا أقبل أمره على ما يريدُ ، وهو كنايةُ عن الدَّوْلة والغلبة ؛ قال : [ الوافر ] @ 2717 - إذَا هَبَّتْ رياحُكَ فاغْتَنِمْهَا فإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا @@ ورواه أبو عبيدٍ " رُكُوداً " . وقال آخر : [ البسيط ] @ 2718 - أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثَ غَفْلتِهِم أو تَعْدُوانِ فإنَّ الرِّيحَ للْعَادِي @@ وقال : [ البسيط ] @ 2719 - قَدْ عَوَّدتْهُمْ ظبَاهُمْ أن يكُونَ لَهُمْ ريحُ القتالِ وأسْلابُ الَّذينَ لَقُوا @@ وقيل : الريح : الهيبةُ ، وهو قريبٌ من الأولِ ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 2720 - كَمَا حَميناكَ يوْمَ النَّعْفِ من شَطَطٍ والفَضلُ لِلْقومِ منْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ @@ وقال قتادة وابن زيد : " هو ريح النصر ، ولم يكن نصر قط إلاَّ بريحٍ يبعثُهَا اللَّهُ تضرب وجوه العدوّ " . ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " نُصِرْتُ بالصَّبَا وأهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ " . وقال النعمانُ بنُ مقرن : " شَهِدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذَا لم يُقاتِل في أول النَّهارِ ، انتظر حتَّى تزولَ الشَّمسُ ، وتهب الريح ، وينزل النّصر " . قوله " فَتَفْشَلُوا " يحتملُ وجهين : أحدهما : نصبٌ على جواب النَّهي . والثاني : الجزم عطفاً على فعل النَّهْي قبله ، وقد تقدَّم تحقيقهما في " وتَخُونُوا " قبل ذلك ، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر " ويَذْهَبْ " بياء الغيبة وجزمه ، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة . وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة " ويَذْهَبَ " بياء الغيبة ونصبه . وقرأ الحسنُ " فَتَفْشِلُوا " بكسر الشين ، قال أبو حاتمٍ : " هذا غيرُ معروفٍ " وقال غيره : إنَّها لغةٌ ثانية . فصل احتجَّ نُفَاة القياسِ بهذه الآية فقالوا : القياس يفضي إلى المنازعةِ ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية ؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة ، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس . وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية ، وقالوا : قوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه ، ثم أتبعه بقوله : { وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله ، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل ، وكلُّ ذلك حرام . والجوابُ : بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة . قوله : " ولا تنَازَعُوا " معطوف على قوله : " فاثْبُتُوا " وهو جواب الشَّرطِ في قوله : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ ، فلا حجة فيها ، وأيضاً : فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة ، وذلك لا يترتَّب على القياس . ثم قال : { وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر . كما قال في آية أخرى : { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } [ آل عمران : 200 ] . عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له ، قال : كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى " أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو ، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ ، ثمَّ قام في النَّاسِ ، فقال : " يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوِّ ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهُم فاصْبِرُوا ، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالٍ السُّيُوفِ " ثم قال : " اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ ، ومُجْرِي السَّحابِ ، وهازِمَ الأحْزابِ ، اهزمْهُمْ ، وانْصُرْنا عليْهِمْ " " .