Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 47-54)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } . نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخرٌ . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك ، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني " . ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ ، فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً - وكان في بدر موسم من مواسم العرب ، يجتمعُ لهم بها سوق كل عام - فنُقيم بها ثلاثاً ، فننحر الجزور ، ونطعم الطَّعام ، ونسقى الخمر ، وتعزف علينا القيانُ ، وتسمع بنا العربُ ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً . فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان ، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النِّية ، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه . واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء : أحدها : البطر . قال الزَّجَّاجُ : البَطَرُ : الطغيان في النعمة وترك شكرها . وثانيها : الرِّئاءُ ، وهو إظهار الجميل ليرى ، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً . والفرق بينه وبين النفاق : أنَّ النفاق : إظهار الإيمان مع إبطان الكفر ، والرئاء : إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية . وثالثها : صدهم عن سبيل اللَّهِ ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - . قوله : " بَطَراً ورِئاءَ " منصوبان على المفعول له ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع نصبٍ على الحال ، من فاعل : " خَرَجُوا " ، أي : خَرُجوا بطرينَ ومُرائين ، و " رئَاءَ " مصدرٌ مضاف لمفعوله . قوله " ويَصُدُّونَ " : يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون عطفاً على : " بَطَراً ورِئَاءَ " وحذفَ المفعولُ للدَّلالةِ عليه . فإن قيل : " يَصُدُّون " فعل مضارع ، وعطف الفعل على الاسم غير حسن . فذكر الواحديُّ في الجواب ثلاثة أوجه : الأول : أن " يَصُدُّون " بمعنى : صادين ، أي : بطرين ومرائين وصادين . والثاني : أن يكون قوله " بَطَراً ورِئَاءَ " حالان على تأويل : مبطرين ومرائين ، ويكون قوله " ويصدون " أي : وصادين . الثالث : أن يكون قوله " بَطَراً ورِئَاءَ " بمنزلة : يبطرون ويراؤون . قال ابنُ الخطيبِ : " إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل ؛ لأنَّهُ تارةً يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها . وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبَّر عن الأولين بالمصدر ، وعن الثالث بالفعل . قال : إنَّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني ، ذكر أنَّ الاسم يدلُّ على التَّمكين والاستمرار ، والفعل على التجدد والحدوث ، مثاله في الاسم قوله تعالى { وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة ، ومثال الفعل قوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [ يونس : 31 ] وذلك يُدلُّ على أنه تعالى يوصل الرِّزق إليهم ساعة فساعة . وإذا عرفت ذلك فنقول : إنَّ أبا جهلٍ ورهطهُ كانوا مجبولين على البطرِ ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل اللَّهِ فإنما حصل في الزَّمانِ الذي ادَّعى محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيه النبوة ، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد بصيغة الفعل " . واعلم أنَّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديُّ ؛ لأنَّ الواحدي إنَّما أراد من حيث الصِّناعة ، لا من حيث المعنى . ثم قال : { وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : أنه عالم بما في دواخل القلوب ، وذلك كالتَّهديدِ والزَّجر عن الرئاء . قوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } الآية . وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها ، وفي العامل في " إذْ " وجوه : قيل : تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم ، وقيل : عطف على ما تقدم من تذكير النعم ، وتقديره : واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن . وقيل : هو عطف على قوله : { خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ } تقديره : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم ؛ فتكون الواو للحال ، و " قد " مضمرة بعد الواو ، عند من يشترط ذلك والله أعلم فصل في هذا التَّزيين وجهان : الأول : أن الشيطان زيَّن بوسوسته من غير أن يتحوَّل في صورة إنسان ، وهو قول الحسن والأصم . والثاني : أنَّه ظهر في سورة إنسان . قالوا : إن المشركين حين أرَادُوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة ؛ لأنَّهُم كانوا قتلوا منهم واحداً ، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم ، فتصوَّر لهم إبليسُ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين ، ومعه راية ، وقال لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ من النَّاسِ وإني جار لكم ، مجيركم ، من بني كنانة ، { فَلَمَّا ترَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ } أي : التقى الجمعان ، رأى إبليسُ الملائكة نزلوا من السماء ، فعلم أنْ لا طاقةَ لهم بهم { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فلما نَكَصَ ، قال الحارثُ : أتَخْذلنا في هذه الحال ؟ . فقال : إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا . قوله { لاَ غَالبَ لَكُمُ } لكم خبر " لا " فيتعلق بمحذوف ، و " اليَوْمَ " منصوب بما تعلَّق به الخبر ، ولا يجوزُ أن يكون " لكم " أو الظرف متعلقاً بـ " غَالِبَ " ؛ لأنه يكون مُطَوَّلاً ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب نَصْباً . قوله " مِنَ النَّاس " بيان لجنس الغالبِ . وقيل : هو حالٌ من الضَّميرِ في " لَكُمُ " لتضمُّنه معنى الاستقرار ، ومنع أبو البقاءِ أن يكون " من النَّاس " حالاً من الضمير في " غَالِبَ " ، قال : " لأنَّ اسمَ " لا " إذا عمل فيما بعده أعرب " والأمر كذلك . قوله { وَإنِّي جَارٌ لَّكُمْ } يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله { لا غالبَ لَكُمْ } فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة ، ويجوزُ أن تكون الواو للحال ، وألف " جارٌ " من واو ، لقولهم : " تَجاورُوا " وقد تقدَّم تحقيقه [ النساء : 36 ] . و " لكم " متعلِّقٌ بمحذوف ؛ لأنَّهُ لـ " جارٌ " ، ويجُوز أن يتعلَّق بـ " جار " لما فيه من معنى الفعل ، ومعنى " جار لكم " أي : مجير لكم من كنانة . قوله { فَلَمَّا ترَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ } أي : التقى الجمعان ؛ { نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ } " نَكَصَ " : جواب " لمَّا " والنُّكُوص : قال النضر بنُ شميلٍ : الرُّجوع قَهْقَرَى هارباً ، قال بعضهم : هذا أصله ، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه ، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع ، وإن لم يكن قَهْقَرَى ؛ قال الشاعر : [ البسيط ] @ 2721 - هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا @@ وقال مُؤرِّج : " النُّكُوصُ : الرجوعُ بلغة سُلَيْم " ؛ قال : [ البسيط ] @ 2722 - لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ @@ فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق الرُّجوع ؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ ، وفيه نظر ؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر ، رجوعُ القَهْقَرَى ، كخوف الفَار . و " عَلَى عَقبَيْهِ " حال ، إمَّا مؤكدةٌ ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى ، أو مُؤسِّسةٌ ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ . ثم قال : { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ } . قيل : رأى الملائكة فخافهم . وقيل : رأى أثر النُّصْرَة والظَّفر في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة . وقيل : رأى جبريل فخافه . وقيل : لمَّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنَّ أنَّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر ، وأشفق على نفسه ، وقيل " أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ " من الرأي . وقوله : { إنَّي أخَافُ اللَّه } قال قتادة : " قال إبليس { إنِّي أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ } وصدق ، وقال { إنَّي أَخَافُ اللَّهُ } وكذب ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة ، فأوردهم وأسلمهم " . وقال عطاءٌ : إنّي أخاف اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك . وقال الكلبيُّ : خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله ، فلا يطيعوه . وقيل : معناه إنِّي أخافُ الله ، أي : أعلم صدق وعده لأوليائه ؛ لأنه كان على ثقة من أمره ، وقيل : معناه إنِّي أخاف الله عليكم . وقوله : { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } . قيل : انقطع الكلام عند قوله " أخَافُ اللَّه " ثم قال { وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ويجُوز أن يكون من بقيِّة كلام إبليس . روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا رُئيِ الشيطانُ يوماً هُو فيه أصغرُ ، ولا أدحرُ ، ولا أحقَرُ ، ولا أغْيَظُ مِنْهُ في يَوْمِ عرفةَ ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا رَأى من تنزُّلِ الرَّحْمَة وتجاوزُ الله عن الذُّنُوبِ العظام ، إلاَّ ما كان من يَوْمِ بدرٍ " . فقيل : وَمَا رأى يَوْمَ بدرٍ ؟ قال : " أما إنَّهُ رَأى جبريلَ وهُوَ يَنْزعُ المَلائِكَة " ، حديث مرسل . قوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ } العامل في " إذْ " إمَّا " زيَّن " ، وإمَّا " نَكَصَ " وإما " شديدُ العقاب " وإما " اذكروا " . قال ابنُ الخطيب : " وإنما لم تدخل الواو في قوله " إذْ يقُولُ " ودخلت في قوله " وإذْ زَيَّن " ؛ لأنَّ قوله : " وإذْ زيَّن " عطف التزين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء النَّاس . وأما قوله { إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ } فليس فيه عطف على ما قبله ، بل هو ابتداء كلام منقطع عما قبله " . فصل المنافقون : قوم من الأوس والخزرجِ ، وأمَّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم ، وكانوا بمكَّة مستضعفين ، قد أسلموا وحبسهم أقرباؤهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدرٍ أخرجوهم كُرْهاً ، فلمَّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا وارتدوا ، وقالوا { غَرَّ هؤلاءِ دينُهُمْ } . و { غرَّ هؤلاء دينهم } منصوب المحل بالقول . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : " معناه أنه خرج بثلاث مائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل " وقيل المرادُ : إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم ، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموتِ ، ويثابون على هذا القَتْلِ . فقالوا : غرَّ هؤلاء دينهم . فقتلوا جميعاً ، منهم : قيسُ بنُ الوليد بن المغيرة ، وأبُو قيس بنُ الفاكه بن المغيرة المخزوميان ، والحارثُ بن زمعة بن الأسود بن المطلب ، وعلي بنُ أميّة بن خلف الجمحيُّ ، والعاصي بن منبه بن الحجَّاج . ثم قال : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي : يسلم أمره إلى اللَّه ، ويثقُ به ، فإنَّ اللَّهَ حافظه وناصره ؛ لأنَّهُ عزيز لا يغلبه شيء ، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه ، والرحمة والثواب إلى أوليائه . قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } الآية . لمَّا شرح أحوال الكُفَّار ، شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يصل إليهم . قرأ ابن عامر والأعرج " تَتَوفَّى " بتاء التأنيث ، لتأنيث الجماعة ، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان ، أظهرهما - لموافقة قراءة من تقدَّم - : أنَّ الفاعل هم الملائكة ، وإنما ذُكِّرَ للفصل ؛ ولأنَّ التأنيث مجازي . والثاني : أنَّ الفاعل ضمير الله تعالى : لتقدم ذكره و " الملائكةُ " مبتدأ ، و " يَضْرِبُونَ " خبره ، وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان : أحدهما : أنَّها حالٌ من المفعول . والثاني : أنَّها استئنافيةٌ ، جواباً لسؤالٍ مقدر ، وعلى هذا فيوقف على " الَّذين كَفَرُوا " بخلاف الوجهين قبله . وضعَّف ابنُ عطية وجه الحالِ بعدم الواو ، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من " واو " نظماً ونثراً ، وعلى كون " الملائكةُ " فاعلاً ، يكون " يَضْربُونَ " جملةً حاليةً ، سواءً قرىء بالتأنيث أم بالتذكير ، وجوابُ " لَوْ " محذوفٌ للدلالة عليه ، أي : رأيت أمراً عظيماً . فصل المعنى : ولو عاينت ؛ لأنَّ " لو " ترد المضارع إلى الماضي ، كما ترد " إن " الماضي إلى المضارع . قال الواحديُّ - رحمه الله - : " معنى يتوفى الذين كفروا ، يقبضون أرواحهم " قيل : عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم . وقيل : أراد المشركين الذين قتلوا ببدر ، كانت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم . قال سعيدُ بن جبيرٍ ، ومجاهد : يريدُ : أستاههم ولكن الله تعالى حَييٌّ يُكَنِّي . وقال ابن عباس " كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف وإذا ولَّوْا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم " وقال ابن جريح " يريدُ ما أقبل منهم وما أدبر يضربون أجسادهم كلها " . والمراد بالتوفي : القتل . قوله { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } هذا منصوب بإضمار قول الملائكة ، أي : يضربونهم ويقولون لهم : ذوقوا . وقيل : الواو في " يَضْربُونَ " للمؤمنين أي : يَضْربونهم حال القتال ، وحال توفِّي أرواحهم الملائكة . قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد ، يضربون بها الكُفَّار ، فتلتهب النَّار في جراحاتهم ؛ فذلك قوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } ، وقال الحسن - رضي الله عنه - : " هذا يوم القيامة ، تقولُ لهم خزنةُ جهنم : ذوقوا عذاب الحريقِ " وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - : " يقولون لهم ذلك بعد الموت " . قوله : { ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } . أي : ذلك الضرب الذي وقع بكم ، أو عذاب الحريق : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة - عليهم السلام - . قال الواحديُّ : " يجوز أن يقال " ذلك " مبتدأ ، وخبره { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ويجوز أن يكون خبره محذوفاً ، والتقدير : ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم ، ويجوزُ أن يكون محل " ذلك " نَصْباً والتقدير : فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم " . فصل فإن قيل : قوله { ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } يقتضي أنَّ فاعل هذا الفعل هو اليد ، وذلك ممتنع لوجوه ، أولها : أنَّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم ، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها : أن اليد ليست محلاًّ للمعرفة والعلم ، فلا يتوجَّه التكليف عليها ، فلا يمكن إيصال العذاب إليها . فالجوابُ : أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل ، والقدرة هي المؤثرة في العمل ، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة . واعْلَمْ أن الإنسان جوهر واحد ، وهو الفعال ، وهو الدراك ، وهو المؤمن ، وهو الكافر وهو المطيعُ ، وهو العاصي ، وهذه الأعضاء آلات لهُ ، وأدوات له في الفعل ؛ فأضيف الفعل في الظَّاهر إلى الآله ، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذاتِ الإنسان . فإن قيل : إنَّه جعل هذا العقاب ، إنَّما تولَّد من الفعل الذي صدر عنه ، والعقاب إنما يتولَّد من العقائد الباطلة . فالجوابُ : أنَّا بيَّنا أنَّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد ، فأطلق على المسبب اسم السَّببِ وهذا من أشهر وجوه المجاز . قوله : { وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } . في محل " أنَّ " وجهان : أحدهما : النصبُ بنزع الخافض يعني : بأنَّ اللَّهَ . والثاني : أنَّكَ إن جعلت قوله : " ذلك " في موضع رفع ، جعلت " أنَّ " في موضع رفع أيضاً ، أي : وذلك أنَّ الله . قال الكسائيُّ : " ولو كسرت ألف " أنَّ " على الابتداء كان صواباً ، وعلى هذا التقدير يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله " . فصل قالت المعتزلةُ : لو كان اللَّه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً ، وأيضاً قوله تعالى : { ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } يدلُّ على أنه تعالى إنَّما لم يكن ظالماً بهذا العذاب ؛ لأنَ العبد قدَّم ما استوجب عليه هذا العذاب ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالماً في هذا العذاب ، وأيضاً : لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً ، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مُسْتَقْصَاةً في آل عمران . قوله تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } الآية . لمَّا بيَّن ما أنزله بأهل بدر من الكفَّار عاجلاً وآجلاً ، أتبعه بأن بيَّن أنَّ هذه طريقته وسنته ودأبه في الكل فقال : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } . قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما " هو أن آل فرعون أيقنوا أنَّ موسى نبي الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصِّدق فكذَّبوه ، فأنزل الله عقوبته ، كما أنزل بآل عمران " . { والذينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي : كعادة الذين من قبلهم ، وتقدَّم الكلامُ على " كَدَأبِ " في آل عمران . ثم قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } والغرضُ منه : التَّنبيه على أن لهم عذاباً مُدخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل ، ثمَّ ذكر ما يجري مجرى العلَّة في العقاب الذي أنزله بهم ، فقال : { ذلكَ بأنَّ اللَّهَ } ، " ذلك " مبتدأ وخبر أيضاً ، كنظيره أي : ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أنَّ اللَّه . قوله " لَمْ يَكُ " قال أكثرُ النحاةِ : إنَّما حذفت النون ؛ لأنَّها لم تشبه الغُنَّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً ، فحذفت تشبيهاً بها ، كما تقولُ : لَمْ يَدْعُ ، ولمْ يَرْمِ . قال الواحدي - رحمه الله تعالى - : " وهذا ينتقض بقولهم : لَمْ يَزنْ ، ولمْ يَخنْ ، ولم يسمع حذف النون ههنا " . وأجاب علي بن عيسى فقال : إنَّ " كان " و " يكون " أم الأفعال ، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى " كان " ، فقولنا : ضرب ، معناه : كان ضرب ، ويضرب معناه : يكون ضرب ، وهكذا القول في الكُلِّ ؛ فثبت أنَّ هذه الكلمة أم الأفعال ، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات ، فاحتملت هذا الحذف ، بخلاف قولنا : لم يخُنْ ، ولم يزن ، فإنَّه لا حاجة إلى ذكرها كثيراً ، فظهر الفرق . فصل معنى الآية إنَّ الله لا يُغَيِّر ما أنعم على قوم ، حتى يُغَيِّرُوا ما بهم بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غيَّر اللَّهُ ما بهم ، فسلبهم النعمة فصل قال القاضي " معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، وتسهيل السبل ، والمقصودُ : أن يشتغلوا بالعبادة والشُّكْرِ ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق ، فقد غيَّروا نعم اللَّهِ على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن " . قال : " وهذا من أوكد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحداً بالعذاب والمضرة ، وأنَّ الذي يفعله لا يكون إلاّ َجزاء على معاصٍ سلفت ، لو كان تعالى خلقهم ، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنَّارِ كما يقوله القومُ لما صحَّ ذلك " . وأجيب : بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي ؛ إلاَّ أنَّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفةُ اللَّهِ تعالى مُعَلَّلَةً بفعل الإنسان ؛ لأنَّ حكمَ اللَّهِ بذلك التغيير وإرادته ، لمَّا كان لا يحصل إلاَّ عند إتيان الإنسان بذلك الفعل ، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل للَّه تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة ، فحينئذٍ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات اللَّهِ تعالى ، ويكون الإنسان مغيراً صفة اللَّهِ ومؤثراً فيها ، وذلك محال في بديهة العقل ؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، بل الحقُ أنَّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات ، فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال . ثم قال : { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لأقوالهم ، عليم بأفعالهم . قوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } . فإن قيل : إنه تعالى ذكر : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } مرتين ، فما فائدته ؟ فالجوابُ من وجوه ، منها : أنَّ الكلام الثَّاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول ؛ لأنَّ الأول فيه ذكرُ أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم ، وذلك تفصيل ، ومنها : أنَّهُ أريد بالأوَّلِ ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت ، وبالثاني ما ينزلُ بهم في القبر وفي الآخرة ، ومنها : أنَّ الكلام الأول هو قوله : { كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } والكلام الثاني هو قوله : { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } فالأوَّلُ إشارة إلى أنَّهم أنكروا دلائل الإلهية ، والثاني إشارة إلى أنَّهُ سبحانه ربَّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة ، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها ، وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول الأخذ ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدلُّ على أنَّ للكفر أثراً عظيماً في حصول الإهلاك ، ومنها : أنَّ الأول دَأبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا ، وهذا دأبٌ في أن لم يُغيِّر اللَّهُ نعمتهم حتَّى يُغيروها هم . ومنها : قال الكرمانيُّ : " يحتملُ أن يكون الضميرُ في : " كفرُوا " في الآية الأولى عائداً على قريش ، والضمير في : " كذَّبُوا " في الثانية عائداً على آل فرعون والذين من قبلهم ، كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ، أهلكنا بعضهم بالرجفةِ ، وبعضهم بالخسف ، وبعضهم بالريحِ ، وبعضهم بالغرق ، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيفِ لما كذبوا ، وأغرقنا آل فرعون " . { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } جمع الضمير في : " كانوا " ، وجمع : " ظالمين " مراعاةً لمعنى " كُل " لأنَّ " كُلاًّ " متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاةُ لفظها تارةً ، ومعناها أخرى . وإنَّما اختير هنا مراعاةُ المعنى ؛ لأجل الفواصل ، ولو رُوعي اللَّفظُ فقيل مثلاً وكلٌّ كان ظالماً ، لَمْ تتَّفِق الفواصل .