Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 55-59)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . لمَّا وصف كُلَّ الكفار بقوله : { وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } [ الأنفال : 54 ] أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال : { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ } أي : في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان : الأولى : الكافر المستمر على كفره مصرًّا عليه . الثانية : أن يكون ناقضاً للعهد ، فقوله : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون } إشارة إلى استمرارهم على الكفر ، وإصرارهم عليه ، وقوله : { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } إشارة إلى نقض العهد . قال الكلبيُّ ومقاتلٌ : يعني يهود بني قريظة ، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أي : عاهدنهم . قيل : عاهدت بعضهم ، وقيل : أدخل " مِنْ " لأن معناه : أخذت منهم العهد . { ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } . قال ابنُ عباسٍ " هم بنو قريظة ، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانياً ، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم " ، { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } لا يخافون الله في نقض العهد . قوله " الَّذينَ عاهدَتَّ " يجوزُ فيه أوجه : أحدها : الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله ، أو على النَّعت له ، أو على عطف البيان ، أو النصبُ على الذَّمِّ ، أو الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ قوله " فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم " بمعنى : من تعاهد منهم ، أي : من الكفار ثم ينقضون عهدهم ، فإن ظفرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت ، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رحمه الله تعالى . و " مِنْهُمْ " يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف ، إذ التقدير : الذين عاهدتهم ، أي : كائنين منهم ، فـ " مِنْ " للتبعيض . وقيل : هي بمعنى : " مع " . وقيل : الكلام محمول على معناه ، أي : أخذت منهم العهد . وقيل : زائدةٌ أي : عاهدتهم . والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ ، والأول أصحُّ . { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } . قال ابن عباس " فنكل بهم من خلفهم " . وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : " أنذر بهم من خلفهم " . العامَّةُ على الدال المهملة في " فَشرِّدْ " . وأصل التَّشْريدِ ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ . وقيل : التفريق مع الاضطراب ، والمعنى : فرق بهم جمع كل ناقض ، أي : افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلاً من الحرب والتنكيل ، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن ، " لَعَلَّهُم يذَّكرُون " يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد . وقرأ الأعمش بخلاف عنه : " فَشَرِّذْ " بالذال المعجمة . وقال أبُو حيَّان رحمه الله تعالى : " وكذا هي في مصحف عبد الله " . قال شهاب الدين : " وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ ، أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود ؟ " . قيل : وهذه المادة - أعني : الشين ، والرَّاء ، والذال المعجمة - مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه ، أحدها : أنَّ الذَّال بدلٌ من مجاورتها ، كقولهم : خراديل وخراذيل . الثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ " شذر " ، من قولهم : تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ ، ومنه : الشَّذْر المُلتقط من المعدن ؛ لتفرُّقِهِ ؛ قال : [ الطويل ] @ 2723 - غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ يُحَلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا @@ الثالث : أنه من شذر في مقاله ، إذا أكثر فيه ، قاله أبو البقاءِ ، ومعناه غير لائق هنا . وقال قطرب : " شرّذ " بالمعجمة ، التنكيل ، وبالمهملة : التَّفريق . وهذا يُقَوِّي قول من قال : إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ . قوله " مَنْ خَلْفَهُمْ " مفعول : " شرِّد " . وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة " مِنْ خلفهم " جاراً ومجروراً ، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ ، أي : فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء ، وأناساً يعملون بعملهم ، والضميران في " لَعَلَّهُم يذكَّرُون " الظَّاهِرُ عودهما على " مَنْ خَلْفَهُمْ " ، أي : إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا . وقيل : يعودان على المثقفين ، وليس له معنى طائل . قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } . مفعول انبذ محذوف ، أي : انبذ إليهم عهودهم ، أي : اطرحها ، ولا تكترث بها و " عَلَى سواءٍ " حال إمَّا من الفاعل ، أي انبذها ، وأنت على طريقٍ قصدٍ ، أي : كائناً على عدل ، فلا تَبْغتهُمْ بالقتالِ بل أعلمهم به ، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً ، أي : كائنين على استواء في العلم ، أو في العداوةِ . وقرأ العامَّةُ بفتح السِّين ، وزيد بن علي بكسرها ، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة . فصل المعنى : وإمَّا تعلمنَّ يا محمد " من قومٍ " معاهدين : " خيانةً " نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر ، كما يظهر من قريظة والنضير : " فانبِذْ إليْهِمْ " فاطرح " إليهمْ " عهدهم " على سواءٍ " . يقول : أعلمهم قبل حربك إيَّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتَّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصبِ الحربِ معهم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَآئِنِينَ } هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل ، وهو إعلامهم ، وأن تكون مستأنفة ، سيقت لذمِّ من خان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونقض عهده . قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الآية . قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم " يَحْسبنَّ " بياء الغيبة هنا ، وفي النور في قوله : { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ } [ النور : 57 ] كذلك ، خلا حفصاً ، والباقون بتاء الخطابِ ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران ، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم ، فمنها ، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق ، تقديره : ولا يحسبنَّ هو أي : قبيل المؤمنين ، أو الرسول ، أو حاسب . أو يكون الضمر عائداً على : " مَنْ خَلفهُمْ " . وعلى هذه الأقوالِ ، فيجوزُ أن يكون " الذينَ كفرُوا " مفعولاً أول و " سَبَقُوا " جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً . وقيل : الفعلُ مسندٌ إلى " الذينَ كفرُوا " ثم اختلف هؤلاء في المفعولين ، فقال قوم : الأول محذوفٌ تقديره : ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا ، فـ " هَم " مفعول أول ، و " سَبَقُوا " في محل الثاني : أو يكون التقدير : لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا . وهو في المعنى كالذي قبله . وقال قومٌ : بل " أنْ " الموصولة محذوفة ، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقُوا ، فحذفت " أنْ " الموصولة وبقيت صلتها ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] وقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] . قاله الزجاج : والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا ، وحذف " أن " الموصولة في القرآن ، وفي كلام العرب كثير ، فأمَّا القرآن فكالآيات ، ومن كلام العربِ : تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه ؛ وقوله : [ الطويل ] @ 2724 - ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى … @@ ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله " أنهم سبقوا " . وقال قومٌ : بل " سَبَقُوا " في محلِّ نصب على الحال ، والسادُّ مسدَّ المفعولين : { أنَّهُم لا يعجزُون } ، وتكون " لا " مزيدةً ليصح المعنى . قال الزمشخري - بعد ذكره هذه الأوجه - " وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة " وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول ، وقالوا : لم ينفرد بها حمزةُ ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهُم إسناداً ، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وابن محيصن وعيسى ، والأعمش ، والحسن البصري ، وأبي رجاء ، وطلحة ، وابن أبي ليلى . وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ " لا يحْسبَنَّ " واقع على " أنهم لا يُعْجِزون " وتكون " لا " صلة ، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة ، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة ، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج ؟ . قال شهابُ الدِّين : " هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين ، أعني : " لا يَحْسبنَّ " وقوله : " أنهم لا يعجزون " ، حتى نلزمه ما ذكر " وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ ، أي : لا تحسبنَّ يا محمدُ ، أو يا سامعُ ، و " الذين كفرُوا " مفعول أول ، والثاني : " سبقوا " ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول ، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث ، لأنه بمعنى " القوم " ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ } [ الشعراء : 105 ] . وقرأ الأعمش { ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا } بفتح الباء . وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة ، فحذفها ؛ لالتقاء الساكنين ، كما يحذفُ له التنوين ؛ فهو كقوله : [ المنسرح ] @ 2725 - لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ @@ أي : لا تُهينن ، ونقل بعضهم : { ولا تحسبِ الذينَ } من غير توكيدٍ ألبتَّة ، وهذه القراءةُ بكسر الباء ، على أصل التقاء الساكنين . قوله : " سَبَقُوا " أي : فاتوا . نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين ، فمن قرأ بالياء ، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا ، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب . قوله { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قرأ ابن عامر بالفتح ، والباقون بالكسر . فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة ، أي : لأنهم . واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر ، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي ، أي : لا تحسبنَّهم فائتين ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، أي : لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم ؛ لأنَّهم لا يعجزون ، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان . وقال أبُو البقاء : " إنَّه متعلقٌ بـ " حسب " ، إمَّا مفعولٌ ، أو بدلٌ من سَبَقُوا " . وعلى كلا الوجهين تكون " لا " زائدة ، وهو ضعيفٌ ، لوجهين : أحدهما : زيادة " لا " . والثاني : أن مفعول " حسب " إذا كان جملة ، وكان مفعولاً ثانياً كانت " إنَّ " فيه مكسورة ؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر . وقرأ العامة : " لا يُعْجِزُونَ " بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ ، وهي نونُ الرفع . وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ " يُعْجِزُوني " بنون واحدة ، بعدها ياء المتكلم ، وهي نون الوقاية ، أو نون الرفع ، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في : " أتحاجُّوني " . قال الزجاج : " ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ ، ويجوزُ كسرها ، على أنَّ المعنى : لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى ، لاجتماع النونين " ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة : [ الوافر ] @ 2726 - تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي @@ وقال متمم بنُ نُويرَةَ : [ الكامل ] @ 2727 - ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ @@ قال الأخفشُ : " فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار " . وقرأ ابنُ محيصن أيضاً " يُعجزُونِّ " بنون مشددة مكسورةٍ ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية ، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة ، وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون ، مِنْ " عَجَّزَ " مشدداً . قال أبو جعفرٍ : " وهذا خطأ من وجهين : أحدهما : أنَّ معنى " عَجَّزه " ضعَّفه وضعَّف أمره . والآخر : كان يجب أن يكون بنونين " . قال شهابُ الدِّين : " أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز ، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر ، سيأتي بعضها ، وأمَّا " عجَّز " بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر ، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز ، أو معناه : بَطَّأ ، وثبَّط ، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين " . وقرأ طلحة بكسر النون خفيفة .