Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 82, Ayat: 6-8)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي : المتجاوز . والعامة : على " غرَّك " ثلاثياً ، و " ما " الاستفهامية : في محل رفع على الابتداء . وقرأ ابن جبير ، والأعمش : " ما أغَرَّكَ " ، فاحتمل أن تكون استفهامية ، وأن تكون تعجبية ، ومعنى " أغرّه " : أدخله في الغرَّة ، أو جعله غارًّا . فصل في مناسبة الآية لما قبلها لما أخبر في تلك الآية أولى عن وقوع الحشر والنشر ، ذكر هاهنا ما يدل عقلاً ونقلاً على إمكانه ، أو على وقوعه ، وذلك من وجهين الأول : أن الإله الكريم الذي لا يجوز من كرمه أن يقطع مواد نعمه عن المذنبين ، كيف يجوز في كرمه ألا ينتقم من الظالم ؟ . الثاني : أن القادر على خلق هذه البنية الإنسانية ، ثم سوَّاها ، وعدلها ، إمَّا أن يقال : إنه - تعالى - خلقها لا لحكمةٍ ، وذلك عبث ، وهو على الله تعالى محال ؛ لأنه - تعالى - منزَّهٌ عن العبث ، أو خلقها لحكمةٍ ، فتلك الحكمة أن تكون عائدة على الله تعالى ، وذلك باطل ؛ لأنه منزَّهٌ عن الاستكمال والانتفاع ، فتعين أن تكون الحكمة عائدة إلى العبد ، وتلك الحكمة أن تظهر في الدنيا ، فذلك باطل ؛ لأن الدنيا دار بلاء وامتحان لا دار انتفاع وجزاء ، فثبت أن تلك الحكمة إنما تظهر في دار الجزاء ، فثبت أن الاعتراف بوجود الإله الكريم الذي يقدر على الخلق ، والتسوية ، والتعديل يوجب على العاقل أن يقطع بأنه تعالى يبعث الأموات ويحشرهم . فصل في نزول الآية هذا [ خطاب ] لمنكري البعث . روى عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنها نزلت في الوليد بن المغيرة . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في الأشرم بن شريقٍ ، وذلك أنَّه ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه الله تعالى ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وقيل : يتناول جميع العصاة ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومعنى " ما غرَّك " : ما خدعك وسوَّل لك الباطل حتى تركت الوجبات ، وأثنيت بالمحرمات . والمعنى : ما الذي أمَّنك من عقابه ، هذا إذا حملنا الإنسان على جميع العصاة ، فإن حملناه على الكافر ، فالمعنى : ما الذي دعاك إلى الكفر ، وإنكار الحشر والنشر . فإن قيل : كونه كريماً يقتضي ألا يغتر الإنسان بكرمه ؛ لأنه جواد مطلق ، والجواد الكريم يستوي عنده طاعة المطيع ، وعصيان المذنب ، وهذا لا يوجب الاغترار وروي عن عليّ - رضي الله عنه - أنَّه دعا غلامه مرات ، فلم يجبه ، فنظر فإذ هو بالباب ، فقال له : لم لا تجبني ؟ فقال : لثقتي بحلمك ، وأمني من عقوبتك ، فاستحسن جوابه وأعتقه . وقالوا - أيضاً - من كرم الرجل سوء أدب غلمانه ، وإذا ثبت أن كرمه يقتضي الاغترار به فكيف جعله - هاهنا - مانعاً من الاغترار ؟ . فالجواب من وجوه : الأول : أن المعنى لما كنت ترى حلم الله - تعالى - عن خلقه ظننت أن ذلك لا حساب ، ولا دار إلا هذه الدار ، فما الذي دعاك إلى الاغترار وجرَّأك على إنكار الحشر ، والنشر ، فإنَّ ربك كريم ، فهو من كرمه - تعالى - لا يعاجل بالعقوبة بسطاً في مدة التوبة ، وتأخيراً للجزاء ، وذلك لا يقتضي الاغترار . الثاني : أنَّ كرمه تعالى لمَّا بلغ إلى حيث لا يمنع العاصي من أن يطيعه ، فبأن ينتقم للمظلوم من الظالم كان أولى ، فإذاً كان كونه كريماً يقتضي الخوف الشديد من هذا الاعتبار ، وترك الجزاء والاغترار . الثالث : أنَّ كثرة الكرم توجب الجد والاجتهاد في الخدمة ، والاستحياء من الاغترار . الرابع : قال بعضهم : إنما قال : " بربِّكَ الكَريمِ " ليكون ذلك جواباً عن ذلك السؤال حتى يقول : غوني كرمُك ، فلولا كرمك لما فعلت ؛ لأنك لو رأيت فسترت ، وقدرت فأمهلت . وهذا الجواب إنما يصح إذا كان المراد بقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ } ليس هو " الكافر " . فصل في غرور ابن آدم قال قتادةُ - رضي الله عنه - : سبب غرور ابن آدم تسويل الشيطان وقال مقاتل : غرَّه عفو الله حين لم يعاقبه أوَّل مرة . وقال السديُّ : غرَّه عفو الله . وقال ابن مسعودٍ : ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول تعالى : ما غرَّك يا ابن آدم ، ماذا غرَّك يا ابن آدم ، ماذا عملت فيما علمت ؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ . قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } ، يحتمل الإتباع على البدل والبيان ، والنعت ، والقطع إلى الرفع والنصب . واعلم أنه - تعالى - لما وصف نفسه بالكرم ، ذكر هذه الأمور الثلاثة ، كالدلالة على تحقق ذلك الكرم ، فقوله تعالى : { ٱلَّذِي خَلَقَكَ } لا شكَّ أنَّه كرمٌ ؛ لأنه وجود ، والوجود ، خير من العدم ، والحياة خير من الموت ، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله تعالى : " فسوّاك " أي : جعلك سوياً سالم الأعضاءِ ، ونظيره قوله تعالى : { أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] ، أي : معتدل الخلق والأعضاء . قال ذو النون : أي : سخَّر لك المكونات أجمع ، وما جعلك مسخَّراً لشيء منها ، ثم أنطق لسانك بالذكر ، وقلبك بالعقل ، وروحك بالمعرفة ، ومدك بالإيمان وشرفك بالأمر والنهي ، وفضلك على كثير ممن خلق تفضيلاً . قوله : " فعدَلَكَ " . قرأ الكوفيون : " عَدلَكَ " مخففاً ، والباقون : مثقَّلاً . فالتثقيل بمعنى : جعلك مناسب الأطراف ، فلم يجعل إحدى يديك ورجليك أطول ، ولا إحدى عينيك أوسع ، فهو من التعديل ، وهو كقوله تعالى : { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] . قال علماء التشريح : إنَّه - تعالى - ركَّب جانبي الجثة على التساوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه ، لا في العظام ، ولا في أشكالها ، ولا في الأوردة والشرايين ، والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها . وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : جعلك قائماً معتدلاً ، حسن الصُّورةِ ، ولا كالبهيمة المنحنية . وقال أبو عليٍّ الفارسي : " عَدلَكَ " خلقك ، فأخرجك في أحسن تقويم ، مستوياً على جميع الحيوان والنبات ، وواصلاً في الكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم . وأمَّا قراءة التخفيف فيحتمل هذا ، أي : عدل بعض أعضائك ببعض ، ويحتمل أن يكون من المعدول ، أي : صرفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال والأشباه ، وهذا قول الفراء . ثم قال : والتشديد أحسن الوجهين ؛ لأنك تقول : عدلتك إلى كذا ، أي : صرفتك إلى كذا وكذا ، ولا يحسن : عدلتك فيه ، ولا صرفتك فيه . وفي القراءة الأولى : جعل " في " من قوله : " فِي أيِّ صُورةٍ " للتركيب ، وهو حسنٌ . وفي قراءة الثانية جعل " في " صلة لقوله : " فعدلك " ، وهو ضعيف . ونقل القفَّال عن بعضهم : أنَّهما لغتان بمعنى واحد . قوله : " في أيِّ صُورةٍ " ، يجوز فيه أوجه : أحدها : أن يتعلق بـ " ركبك " ، و " ما " : مزيدة على هذا ، و " شاء " صفة لـ " صورة " ، ولم يعطف " ركَّبَك " على ما قبله بالفاء ، كما عطف ما قبله بها ، لأنه بيان لقوله : " فَعَدَلَكَ " ، والتقدير : فعدلك ركبك في أيِّ صورةٍ من الصور العجيبة الحسنة التي شاءها - سبحانه وتعالى - والمعنى : وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وقبح وطول ، وقصر ، وذكورة ، وأنوثة . الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : ركبك حاصلاً في بعض الصور . الثالث : أنه يتعلق بعد ذلك بـ " عَدلَكَ " نقله أبو حيان عن بعض المتأولين ، ولم يعترض عليه ، وهو معترض بأن في " أيِّ " معنى الاستفهام ، فلها صدر الكلام ، فكيف يعمل فيها ما تقدمها ؟ . وكأن الزمخشري استشعر هذا فقال : ويكون في " أيِّ " معنى التعجب ، أي : فعَدلَكَ في أي صورة عجيبة ، وهذا لا يحسن أن يكون مجوِّزاً لتقدُّم العامل على اسم الاستفهام ، وإن دخله معنى التعجب ، ألا ترى أن " كيف ، وأي " ، وإن دخلهما معنى التعجب ، لا يتقدم عاملهما عليهما . وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قصد به الاستئناف ، هل يجوز تقديم عامله أم لا ؟ . والصحيح أنَّه لا يجوز ، ولذلك لا يجوز أن يتقدَّم عامل " كم " الخبرية عليها لشبهها في اللفظ بالاستفهامية ، فهذا أولى ، وعلى تعلقها بـ " عدلك " ، تكون " ما " منصوبة على المصدر . قال أبو البقاء : يجوز أن تكون " ما " زائدة ، وأن تكون شرطية ، وعلى الأمرين الجملة نعت لـ " صورة " ، والعائد محذوف ، أي : ركبك عليها ، و " في " : تتعلق بـ " ركَّبك " . وقيل : لا موضع للجملة ؛ لأن " في " تتعلقُ بأحد الفعلين والجميع كلام واحد ، وإنما يتقدم الاستفهام على ما هو حقه . قوله : بأحد الفعلين ، يعني : " شاء وركبك " ، فيحصل في " ما " ثلاثة أوجه ، الزيادة ، وكونها شرطية ، وحينئذ جوابها محذوف ، والنصب على المصدرية ، أي : واقعة موقع مصدر .