Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 84, Ayat: 6-15)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ } . قيل : المراد جنس الإنسان ، كقولك : يا أيها الرجل ، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس . قال القفال : وهو أبلغ من العموم ؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين ، بخلاف اللفظ العام . وقيل : المراد منه رجل بعينه ، فقيل : هو محمد - عليه الصلاة والسلام - ، والمعنى : أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده ، وتحمل الضرر من الكفَّار ، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل . وقال ابنُ عبَّاسٍ : هو أبيّ بن خلفٍ ، وكدحه : هو جده واجتهاده في طلب الدنيا ، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر . فصل في المراد بالكدح الكَدْحُ : قال الزمخشريُّ : جَهْدُ النفس ، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها ، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه ، ومعنى " كادح " أي : جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت . انتهى . وقال ابن نفيلِ : [ الطويل ] @ 5137 - ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أمُوتُ ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ @@ وقال آخر : [ الكامل ] @ 5138 - ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ @@ وقال الراغب : وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان . وقال الخليل : الكدحُ دون الكدم . فصل في معنى الآية معنى " كادحُ إلى ربِّك " أي : ساع إليه في عملك . والكدحُ : عمل الإنسان وجهده في الخير والشر . قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ : عامل لربك عملاً ، وقوله تعالى : { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي : إلى لقاء ربك ، وهو الموت ، أي : هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن . وقال القفال : تقديره : أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك . قوله : " فمُلاقِيهِ " : يجوز أن يكون عطفاً على [ " إنك ] كادح " ، والسبب فيه ظاهر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : فأنت ملاقيه ، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط . وقال ابن عطية : فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها ، والتقدير : فأنت ملاقيه . يعني بقوله : " على هذا " أي : على عود الضَّمير على كدحكَ . قال أبو حيَّان : " ولا يتعين ما قاله ، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات " . والضميرُ في " فملاقيه " : إمَّا للربِّ ، أي : ملاقي حكمه لا مفر لك منه . قاله الزجاج . وإمَّا لـ " الكدح " إلا أن الكدحَ عمل ، وهو عرض لا يبقى ، فملاقاته ممتنعة ، فالمراد : جزاءُ كدحكَ . وقال ابنُ الخطيب : المراد : ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال ، ويتأكد هذا بقوله بعده : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } . قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، أي : ديوان أعماله بيمينه . { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، " سوف " من الله واجب ، كقول القائل : اتبعني فسوف تجد خيراً ، فإنه لا يريد الشك ، وإنما يريد تحقيق الكلام ، والحساب اليسير : هو عرض أعماله ، فيثاب على الطاعة ، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ ، ولا يقال : لم فعلت هذا ، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه . قال صلى الله عليه وسلم : " " مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : أوَ لَيْسَ يقُولُ تعَالَى : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } فقال : " إنَّما ذَلِكَ العرضُ ، ولَكِنْ من نُوقِشَ الحسابَ عُذِّب " " . قوله تعالى : { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ } في الجنة من الحُورِ العينِ ، والآدميَّات والذريَّات إذا كانوا مؤمنين [ " مَسْرُوراً " أي : مُغْتَبِطَاً قرير العين ] . قال ابنُ الخطيب : فإن قيل : إنَّ المحاسبة تكون بين اثنين ، وليس في القيامة لأحد مطالبة قبل ربِّه فيحاسبه ؟ . فالجواب : إن العبد يقول : إلهي ، فعلتُ الطاعة الفلانيَّة ، والربُّ - سبحانه وتعالى - يقول : فعلتَ المعصيَّة الفُلانيَّة ، فكان ذلك من الرب - سبحانه وتعالى - ومن العبد محاسبة ، والدليل أنه - تعالى - خصَّ الكفَّار بأنه لا يكلمهم ، فدل ذلك على أنه يكلم المطيعين ، فتلك المكالمة محاسبة . قوله : " مَسْرُوراً " : حال من فاعل " يَنْقَلِبُ " . وقرأ زيد بن علي : " يُقْلَبُ " مبنياً للمفعول من " قلبه " ثلاثياً . قوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } . قيل : نزلت في الأسودِ بن عبدِ الأسودِ . قاله ابنُ عباسٍ . وقيل : عامة . وقال الكلبيُّ : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ، ويجعل اليسرى ممدودة وراء ظهره . وقيل : يحوَّلُ وجهه إلى قفاه ، فيقرأ كتابه كذلك . وقيل : يُؤتَى كتابه بشماله من ورائه ؛ لأنه إذا حاول أخذه بيمينه كالمؤمنين مُنِعَ من ذلك ، وأوتي كتابه بشماله . فإن قيل : أليس أنه تعالى قال في سورة الحاقة : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } [ الحاقة : 25 ] ، فكيف قال هنا : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } ؟ . فالجواب : أنَّه يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره . قوله : { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً } ، أي : ينادي بالويل ، الهلاك إذا قرأ كتابه يقول : يا ويلاه يا ثُبُورَاهُ ، كقوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] . قوله : { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } ، قرأ أبو عمرو وحمزة وعاصم : بفتح الياء وسكون الصاد وتخفيف اللام . والباقون : بضم الياء وفتح اللام والتثقيل ، وقد تقدم تخريج القراءتين في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] . وقرأ أبو الأشهب ونافع وعاصمٌ وأبو عمرو في رواية عنهم : " يُصْلَى " بضم الياء وسكون الصاد من أصلاه . قوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } . قال القفال : مُنعَّماً مستريحاً من التعب بأداء العبادات ، واحتمال مشقة الفرائض من الصلاة والجهاد ، مقدماً على المعاصي ، آمناً من الحساب والعذاب والعقاب ، لا يخاف الله - تعالى - ولا يرجوه ، فأبدله الله بذلك السرور غماً باقياً لا ينقطع . وقيل : إن قوله : { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } ، كقوله تعالى : { وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] ، أي : متنعمين في الدنيا ، معجبين بما هم عليه من الكفر بالله ، والتكذيب بالبعث ، يضحك ممن آمن بالله وصدَّق بالحساب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمن وجنَّةُ الكَافِرِ " . قوله : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } . معنى " يَحُور " أي : يرجع ، يقال : حَارَ يَحُورُ حَوْرَاً ؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ] . @ 5139 - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَمَادَاً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ @@ ويستعمل بمعنى : " صار " ، فيرفع الاسم وينصب الخبر عند بعضهم مستدلاً بهذا البيت ، وموضع نصب " رماداً " على الحال . وقال الراغب : " الحَوْرُ : التردد في الأمر ، ومنه : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " ، أي : من التردد في الأمر بعد المضي فيه ، ومحاورة الكلام : مراجعته ، والمحور : العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه ، والمحار : المرجع والمصير " . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - : ما كنت أدري ما معنى : " حَوْر " حتى سمعت أعرابياً يقول لابنته : " حُورِي " أي : ارجعي . وقال عكرمة وداود بن أبي هند : " يَحُور " : كلمة بالحبشية ، ومعناها : يرجع . قال القرطبي : " ويجوز أن تتفق الكلمتان ، فإنَّهما كلمة اشتقاق ، ومنه : الخبز الحُوارى ، لأنه يرجع إلى البياض " . والحُور أيضاً : الهلاك . قال الراجز : [ الرجز ] . @ 5140 - فِـي بِئْـرِ لا حُـورٍ سَـرَى ولا شَعَـرْ @@ وقوله تعالى : { أَن لَّن يَحُورَ } : " أن لن " هذه " أن " المخففة كالتي في أوَّل سورة القيامة ، وهي سادَّة مسد المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف . وقوله : " بَلَى " جواب للنفي في " لن " ، و " أن " : جواب قسم مقدر ، والمعنى : إنه ظن أن لن يرجع إلينا ولن يبعث ، ثم قال : " بَلَى " أي : ليس كما ظن بلى يحور إلينا ، أي : يبعث . { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } [ قال الكلبي : بصيراً به من يوم خلقة إلى أن يبعثه . وقال عطاء : بصيراً ] بما سبق عليه في أمَّ الكتاب من الشقاوة .