Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 86, Ayat: 5-10)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ } ، أي : ابن آدم ، " مَمَّ خُلِقَ " ، وجه الاتصال بما قبله وصية الإنسان بالنظر في أول أمره حتى يعلم أنَّ من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فليعمل ليوم الإعادة والحشر والجزاء ، ولا يملي على الحافظ إلا ما يسرُّه في عاقبه أمره . وقوله تعالى : { مِمَّ خُلِقَ } ، استفهام ، أي : من أيِّ شيء خلق ، وهو جواب الاستفهام . قوله : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } . فاعل بمعنى مفعول [ كعكسه في قولهم : سيل مفعم ] ، كقوله تعالى : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] على وجه . وقيل : " دافِق " على النسب ، أي : ذو دفق أو اندفاقٍ . وقال ابنُ عطية : يصح أن يكون الماء دافقاً ؛ لأن بعضه يدفق بعضاً ، أي : يدفقه ، فمنه دافق ، ومنه مدفوق انتهى . والدَّفقُ : الصَّبُّ ، ففعله متعدٍّ . وقرأ زيد بن علي : " مَدْفُوقٍ " وكأنَّه فسر المعنى . قال القرطبيُّ : الصبُّ : دفقُ الماء ، دفقت الماء ، أدفقُه دفقاً ، أي : صببته فهو ماء دافق ، أي : مدفوق ، كما قالوا : سرٌّ كاتم ، أي : مكتوم ؛ لأنه من قولك : دُفق الماء على ما لم يسم فاعله ، ولا يقال : دَفق الماء ، ويقال : دفق الله روحه : إذا دعى عليه بالموت . قال الفرَّاء والأخفش : " ماءٍ دافقٍ " : أي مصبوب في الرَّحمِ . وقال الزجاج : " مِن ماءٍ ذي انْدفاقٍ " ، يقال : دَارع ، وفَارِس ، ونَابِل ، أي ذو فَرسٍ ودِرعٍ ونَبلٍ ، وهذا مذهب سيبويه . والدَّافق : هو المندفق بشدة قوته ، وأراد ماءين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماءً واحداً لامتزاجهما . وقال ابن عباس : " دافق " لزج . قوله : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } ، أي : هذا الماء من بين الصلب ، أي : الظَّهر وقرأ العامة : " يَخْرجُ " مبنياً للفاعل ، وابنُ أبي عبلة وابن مقسم : مبنياً للمفعول . وقرأ - أيضاً - : وأهل " مكة " : " الصُّلُبِ " بضم الصاد واللام . وقرأ اليماني : بفتحها ؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ] @ 5163 - فِـي صَلـبٍ مِثـلِ العِنـانِ المُـؤدَمِ @@ [ وفيه أربع لغات : " صُلْب ، وصُلُبٌ ، وصَلَبٌ ، وصَالب ، ومنه قوله ] : [ المنسرح ] @ 5164 - تُنْقَـلُ مـن صَالَـبٍ إلـى رحِـمٍ … @@ والترائب : جميع تريبة ، وهي موضع القلادة من عظام الصَّدر ؛ لأن الولدَ مخلوق من مائهما ؛ فماء الرجل في صلبه ، وماء المرأة في ترائبها ، وهو معنى قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [ الإنسان : 2 ] ؛ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ] @ 5165 - مُهْفَهَفةٌ بَيْضاءُ غَيْرُ مُفاضَةٍ تَرَائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ @@ وقال آخر : [ الكامل ] @ 5166 - والـزَّعْـفـرَانُ علـى تَرائِبهَـا شَـرِقٌ بِـهِ اللّبَّـاتُ والنَّـحـرُ @@ وقال المثقب العبديُّ : [ الوافر ] @ 5167 - ومنْ ذَهَبٍ يَلوحُ عَلى تَريبٍ كَلوْنِ العَاجِ لَيْسَ لَهُ غُضُونُ @@ وقال الشاعر : [ الرجز ] @ 5168 - أشْـرَفَ ثَدْيَـاهَـا علـى التَّـريـبِ @@ وعن ابن عباسٍ وعكرمة : الترائب : ما بين ثدييها . وقيل : التَّرائب : التراقي . وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصلب . وحكى الزجاجُ : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر ، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر . وعن ابن عبَّاسٍ : أطراف المرء ، يداه ورجلاه وعيناه ، وهو قول الضحاك . وقيل : عصارة القلب ، وهو قول معمر بن أبي حبيبة . قال ابنُ عطية : وفي هذه الأقوال تحكم على اللغة . وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ : هو الجيد . وقال مجاهد : ما بين المنكبين والصدر . وقال القرطبيُّ : والمشهور من كلام العرب أنها عظام الصَّدْر والنَّحْر . جاء في الحديث : أن الولد يخلقُ من ماء الرجل ، يخرج من صلبه العظم والعصب ، وماء المرأة التي يخرج من ترائبها اللحم والدم . حكى القرطبيُّ : أنَّ ماء الرجل يخرج من الدِّماغ ، ثم يجتمع في الأنثيين ، وهذا لا يعارض : " مِنْ بَيْنِ الصُّلبِ والتَّرائبِ " ؛ لأنه إن نزل من الدِّماغ ، فإنما يمرُّ بين الصلب والترائب . قال قتادةُ : المعنى : يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة . وحكى الفراء : أنَّ مثل هذا يأتي عن العرب ، فيكون معنى ما بين الصلب : من الصلب . والمعنى من صلب الرجل وترائب المرأة ، ثم إنَّا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن ، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيراً ، وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني ، وأيضاً فالمكثر من الجماع يجد وجعاً في صلبه وظهره ، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبساً من الماء . قال المهدويُّ : من جعل المنيَّ يخرج من بين صلب الرجل وترائبه ، فالضمير في " يخرج " للماء ، ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، فالضمير للإنسان . قوله : { إِنَّهُ } . الضمير للخالق المدلول عليه بقوله تعالى : { خُلِقَ } ؛ لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه . قوله : { عَلَىٰ رَجْعِهِ } ، في الهاء وجهان : أحدهما : أنه ضمير الإنسان أي على بعثه بعد موته ، وهو قول ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة ، وهو اختيار الطبري ، لقوله تعالى : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِر } . والثاني : أنه ضمير الماء ، أي : يرجع المنيّ في الإحْليل أو الصلب . قاله الضحاكُ ومجاهدٌ ، والأول قول الضحاك أيضاً وعكرمة . [ وعن الضحاك أيضاً أن المعنى أنه رد الإنسان من الكِبَرِ إلى الشباب ، ومن الشباب إإلى الكبر . حكاه المهدوي . وفي الماوردي والثعلبي : إلى الصِّبا ومن الصِّبا إلى النُّطفة . وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى يخرج لقادر . وقال الماوردي : يحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعثه إلى الآخرة ؛ لأن الكفار يسألون فيها الرجعة ، والرجع مصدر رجعت الشيء أي : رددته ] . قوله : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِر } . فيه أوجه ، وقد رتبها أبو البقاءِ على الخلاف في الضمير ، فقال : على القول بكون الضمير للإنسان ، فيه أوجه : أحدها : أنه معمول لـ " قادر " . إلاَّ أنَّ ابن عطية قال - بعد أن حكى أوجهاً عن النحاة - : " وكل هذه الفرق فرَّت من أن يكون العامل " لقادر " ، لئلاَّ يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحدهُ " . ثم قال : " وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل " لقادر " ، وذلك أنه قال : " إنَّه على رجعهِ لقادرٌ " ؛ لأنه إذا قدر على ذلك في هذا الوقت كان في غيره أقدر بطريق الأولى . الثاني : أن يكون العامل مضمر على التبيين ، أي : يرجعه يوم تبلى . الثالث : تقديره : اذكر ، فيكون مفعولاً به ، وعلى عوده على الماء يكون العامل فيه : اذكر " انتهى ملخصاً . وجوَّز بعضهم أن يكون العامل فيه " نَاصِرٍ " ، وهو فاسد ؛ لأن ما بعد " ما " النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما . وقيل : العامل " رَجْعِهِ " وهو فاسدٌ ؛ لأنه قد فصل بين المصدر ومعموله بأجنبي ، وهو خبر " إنَّ " . وبعضهم يقتصره في الظرف . قوله : " تُبلَى " تختبر وتعرف ؛ قال الراجز : [ الرجز ] @ 5169 - قَـدْ كُنْـتَ قَبْلَ اليَـوْم تَزْدَرينِـي فاليَـومَ أبْـلُـوكَ وتَبْتَلِينِـي @@ أي : أعرفك وتعرفني . وقيل : { تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِر } تخرج من مخبآتها وتظهر ، وهو كل ما استسرّه الإنسان من خير ، أو شر ، وأضمره من إيمان ، أو كفر . قال ابن الخطيب : والسرائرُ : ما أسر في القلوب ، والمراد هنا : عرض الأعمال ، ونشر الصحف ، أو المعنى : اختبارها ، وتمييز الحسن منها من القبيح لترتيب الثواب والعقاب . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائْتَمَنَ اللهُ - تعَالَى - خَلقهُ على أرْبَع : الصَّلاةِ ، والزَّكاةِ والصِّيام ، والغُسْلِ ، وهُنَّ السَّرائِرُ الَّتي يَختبِرُهَا اللهُ - عزَّ وجلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ " ذكره المهدوي . وروى الماورديُّ عن زيدٍ بن أسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأمَانَةُ ثلاثٌ : الصَّلاةُ ، والصَّومُ ، والجنَابةُ ، اسْتأمَنَ اللهُ - تعالى - ابْنَ آدمَ على الصَّلاةِ ، فإن شاء قال : صلَّيْتُ ، ولمْ يُصَلِّ ، واسْتأمنَ اللهُ تعالى ابْنَ آدَم على الصَّوم ، فإنْ شَاءَ قَالَ : [ صُمْتُ ولَمْ يَصُمْ واسْتَأمنَ اللهُ تعالى ابْن آدمَ على الجَنابةِ فإنْ شَاءَ قَال : ] اغْتسَلت ولمْ يَغْتسِلْ ، اقْرَأوا إن شِئْتُم : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِر } " . [ وقال مالك - رضي الله عنه - : الوضوء من السرائر ، والسرائر ما في القلوب يجزي الله به العباد ] . وقال ابن العربيِّ : قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : يغفر للشهيد إلاَّ الأمانة ، والوضوء من الأمانة ، والصلاة والزكاة من الأمانة ، والوديعة من الأمانة ، وأشد ذلك الوديعة ، تمثل له على هيئتها يوم أخذها ، فيرمى بها في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، وإذا أراد ان يخرج بها زلت ، فيتبعها ، فيجعلها في عنقه ، فهو كذلك دهر الداهرين . وقال أبي بن كعب : من الأمانة أن ائتمنت المرآة على فرجها . وقال سفيان : الحيضة والحمل من الأمانة ، إن قالت : لم أحضْ وأنا حامل صدقت ما لم يأت ما يعرف فيه أنها كاذبة . قوله : { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } ، أي : فما الإنسان من قوَّة ، أي : منعةٍ تمنعه ، ولا ناصرٍ ينصره عن ما نزل به . قال ابن الخطيب : ويمكن أن يتمسك بهذه الآية على نفي الشفاعة ، لقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } [ البقرة : 48 ] الآية . والجواب ما تقدم .