Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 89, Ayat: 6-14)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ } . قرا العامة : " بعاد " : مصروفاً ، " إرم " بكسر الهمزة ، وفتح الراء ، والميم . فـ " عاد " اسم لرجل في الأصل ، ثم أطلق على القبيلة أو الحي ، وقد تقدم في الكلام عليه ، وأما : " إرَمَ " فقيل : اسم قبيلة . وقيل : اسم مدينة [ اختلفوا في تعيينها ، فقيل : " إسكندرية " ، وقيل : " دمشق " ، وهذان القولان ضعيفان ؛ لأنها منازل كانت من " عمان " إلى " حضرموت " ، وهي بلاد الرمال والأحقاف ، وأما " الإسكندرية " و " دمشق " ، فليستا من بلاد الرمال ] . فإن كانت اسم قبيلة كانت بدلاً ، أو عطف بيان ، أو منصوبة بإضمار : " أعني " ، وإن كانت اسم مدينة ، فتعلق الإعراب من : " عاد " وتخريجه على حذف مضاف ، كأنه قيل : بعاد أهل إرم . قاله الزمخشري . وهو حسن ، ويبعد أن يكون بدلاً من : " عاد " ، بدل اشتمال ، إذ لا ضمير ، وتقديره قلق وقد يقال : إنه لما كان المراد بـ " عاد " : مدينتهم ؛ لأن " إرم " قائمة مقام ذلك ، صح البدل . وإرَمَ : اسم جد عاد ، وهو عادُ بنُ عوصِ بنِ إرمَ بْنِ نوحٍ عليه الصلاة والسلام ؛ قال زهيرٌ : [ البسيط ] @ 5193 - وآخَـرينَ تَـرَى المَـاذيَّ عُدَّتهُـمْ مِـنْ نسْـجٍ دَاوُد أوْ مَـا أوْرثَـتْ إرَمْ @@ وقال ابن قيس الرقيات : [ المنسرح ] @ 5194 - مَـجْـداً تَـلِيـداً بَـنـاهُ أوَّلـهُ أدْركَ عـاداً وقَـبْلـهَـا إرَمَـا @@ وقرأ الحسن : " عاد " غير مصروف . قال أبُو حيَّان : مضافاً إلى " إرَمَ " ، فجاز أن يكون " إرَمَ " أباً ، أو جداً ، أو مدينة . قال شهاب الدين : يتعين أن يكون في قراءة الحسن ، غير مضاف ، بل يكون كما كان منوناً ، ويكون " إرَمَ " بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ : أعني ، ولو كان مضافاً لوجب صرفه وإنما منع " عاد " اعتباراً بمعنى : القبيلة ، أو جاء على أحد الجائزين في : " هند " وبابه . وقرأ الضحاكُ في رواية : " بِعادَ أرَمَ " ممنوع الصرف ، وفتح الهمزة من : " أرم " . قال مجاهد : من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام التي هي الأعلام . وعنه أيضاً : فتح الهمزة ، وسكون الراء ، وهو تخفيف " أرِم " بكسر الراء ، وهي لغة في اسم المدينة ، كما قرئ : { بِوَرِقْكُمْ } [ الكهف : 19 ] ، وهي قراءة ابن الزبير ، وعنه في : " عاد " مع هذه القراءة : الصرف وتركه . وعنه - أيضاً - وعن ابن عباسٍ : " أرَمَّ " بفتح الهمزة والراء والميم المشددة جعلاه فعلاً ماضياً ، [ يقال : أرم العظم أي بَلِيَ ، وأرم وأرمه غيره ، فأفعل يكون لازماً ومتعدياً في هذا ] . و " ذات " على هذه القراءة مجرورة صفة لـ : " عاد " ويكون قد راعى لفظها تارة في قوله : " إرَمَ " ، فلم تلحق علامة التأنيث ، ويكون : " أرم " معترضاً بن الصفة والموصوف ، أي : أرمت هي ، بمعنى : رمَتْ وبَليتْ ، وهو دعاء عليهم ، ويجوز أن يكون فاعل : " أرم " ضمير الباري تعالى ، والمفعول محذوف ، أي : أرمها الله تعالى ، والجملة الدعائية معترضة - أيضاً - وراعى معناها أخرى في : " ذات " فأنث . وروي عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : " ذاتَ " بالنَّصْب ، على أنها مفعول بـ " أرم " وفاعل " أرم " ضمير يعود على الله - تعالى - ، أي : أرمها الله ، ويكون : " أرم " بدلاً من : " فعَل ربُّك " وتبييناً له . وقرأ ابنُ الزُّبيرِ : " بعادِ أرمَ " بإضافة : " عاد " إلى : " أرمِ " مفتوح الهمزة مكسور الراء ، وقد تقدم أنه اسم مدينة . وقرأ : " إرمَ ذَات " ، بإضافة : " إرم " إلى : " ذات " . وروي عن مجاهدٍ : " أرَم " يعني : بفتحتين ، مصدر " أرَمَ ، يَأرم " ، أي : هلك ، فعلى هذا يكون منصوباً بـ : " فَعَلَ ربُّك " نصب المصدر التشبيهي ، والتقدير : كيف أهلك ربك عاداً إهلاك ذات العماد ؟ وهذا أغرب الأقوال . و " ذَاتِ العمادِ " : إن كان صفة لقبيلة ، فمعناه : أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها ، أو هو كناية عن طول أبدانهم [ كقولهم : رفيع العماد طويل النجاد قاله ابن عباس رضي الله عنهما ] ، وإن كان صفة للمدينة ، فمعناه : أنها ذات عُمُد من الحجارة . قوله : { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ } : يجوز أن يكون : تابعاً ، وأن يكون : مقطوعاً ، رفعاً ونصباً . والعامة على : " يُخْلَق " مبنياً للمفعول ، " مِثْلُهَا " مرفوع على ما لم يسم فاعله . وعن ابن الزُّبيرِ : " يَخْلقُ " مبنياً للفاعل ، " مِثْلها " منصوب به ، وعنه أيضاً : " نَخْلقُ " بنون العظمة . فصل في الكلام على إرم وعاد قال القرطبيُّ : من لم يضف جعل " إرم " : اسم " عاد " ، ولم يصرفه ؛ لأنه جعل " عاداً " اسم أبيهم ، و " إرم " : اسم القبيلة ، وجعله بدلاً منه ، أو عطف بيان . ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم ، أو اسم بلدتهم ، وتقديره : بعادٍ أهل إرمَ ، كقوله : { وَسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، ولم تنصرف - قبيلة كانت ، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث . والإرم : العلم ، أي : بعاد أهل ذات العلم ، والخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد عام ، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً ، إذا كانوا في بلاد العرب ، وحجر ثمود موجود اليوم ، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب ، واستفاضت به الأخبار ، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب . قوله : " بعَادٍ " ، أي : بقوم عاد . قال أبو هريرة : كان الرجل من قوم عادٍ ، يتخذ المصراع من حجارة ، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة ، لم يستطيعوا أن يقلوه . [ وإرم قال ابن إسحاق : هو سام بن نوح عليه السلام . وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال : عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام . قال ابن إسحاق : كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام ، وأرفخشذ بن سام ؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة ] . وإرم : قال مجاهد : " إرم " هي أمة من الأمم ، وعنه أيضاً : ان معنى " إرم " : القديمة ، وعنه أيضاً : القوية . وقال قتادةُ : هي قبيلة من عاد . وقيل : هما عادان ، فالأولى : هي " إرم " ، قال تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [ النجم : 50 ] ، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح : عاد كما يقال لبني هاشم : هاشم ، ثم يقال للأولين منهم : عاداً الأولى ، وإرم : تسمية لهم باسم جدهم ، ولمن بعدهم : عاد الأخيرة ؛ قال ابن الرقيَّات : [ المنسرح ] @ 5195 - مَـجْـداً تَـلِيـداً بَـنـاهُ أوَّلـهُ أدْركَ عـاداً وقَـبْلـهَـا إرَمَـا @@ وقال معمر : " إرم " : إليه مجمع عاد وثمود ، وكان يقال : عاد وإرم ، وعاد وثمود ، وكانت القبائل تنسب إلى إرم ، " ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد " . قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء : كان الرَّجل منهم ، طوله خمسمائة ذراع ، والقصير منهم ، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه . وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً : أن طول الرجل منهم ، كان سبعين ذراعاً . قال ابن العربي : وهو باطل ؛ لأن في الصحيح : " أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ " . وزعم قتادةُ : أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً . قال أبو عبيدة : " ذَاتِ العمادِ " : أي : ذات الطول ، يقال : رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس ، ومجاهد . وعن قتادة : كانوا عماداً لقومهم ، يقال : فلان عميد القوم وعمودهم : أي : سيدهم ، وعنه أيضاً : كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث ، ويطلبون الكلأ ، ثم يرجعون إلى منازلهم . وقيل : المعنى : ذات الأبنية المرفوعة على العمد ، وكانوا ينصبون الأعمدة ، فيبنون عليها القصور . وقال ابن زيد : ذَاتِ العِمادَ " يعني : إحكام البنيان بالعمد . قال الجوهري : " والعماد : الأبنية الرفيعة ، تذكر وتؤنث ، والواحدة : عمادة " . وقال الضحاك : " ذات العماد " أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] . فصل في الضمير في " مثلها " والضمير في : " مِثلُهَا " يرجع إلى القبيلة ، أي : لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة ، وعظم أجساد . وعن الحسن وغيره : وفي حرف عبد الله : " التي لم يخلق مثلهم في البلاد " . وقيل : يرجع إلى المدينة ، والأول أظهر وعليه الأكثر . فصل قال القرطبيُّ : " رُويَ عن مالك رضي الله عنه أن كتاباً وجد بـ " الاسكندرية " فلم يدر ما فيه ، فإذا فيه " أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ ، الذي رفَعَ العِمَادَ ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ " قال مالك : إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة " . وروي : أنه كان لعاد ابنان : شدَّاد ، وشديد ، ثم مات شديد ، وخلص الأمر لشداد ، فملك الدنيا ، ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة ، فقال : أبني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن ، في ثلاثمائة سنة ، وكان عمره تسعمائة سنة ، وهي مدينة عظيمة ، قصورها من الذهب ، والفضة ، وأساطينها من الزَّبرجد والياقوت ، وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة ، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا . وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له ، فوقع عليها ، فحمل مما قدر عليه مما هنا ، وبلغ خبره معاوية ، فاستحضره ، فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك ، أحمر أشقر ، قصير ، على حاجبه خال ، وعلى عقبه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت ، فأبصر ابن قلابة ، وقال : هذا والله ذلك الرجل . فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين ، وهم : عاد ، وثمود ، وقوم فرعون ، على سبيل الإجمال حيث قالوا : " فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ " ، ولم يبين كيفية ذلك العذاب ، وبين في سورة : " الحاقَّة " ، ما أبهم في هذه السورة ، فقال تعالى : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 5 ، 6 ] إلى قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } [ الحاقة : 9 ] . قوله : { وَثَمُودَ } . قرأ العامة بمنع الصرف . وابنُ وثابٍ : يصرفه ، والذي يجوز فيه ما تقدم في : " التي لم يخلق " . و " جَابُوا " أي : قطعوا ، ومنه : فلان يجوب البلاد ، أي : يقطعها سيراً ؛ قال : [ البسيط ] @ 5196 - مَا إنْ رَأيْتُ قَلُـوصاً قَبْلَهَا حَملـتْ سِتِّيـنَ وسْقـاً ولا جَابـتْ بِـهِ بَلـدَا @@ وجَابَ الشيء يجوبه : أي : قطعه ، ومنه سمي جيب القميص ؛ لأنه جيب ، أي : قطع . وقوله : " بالوَادِ " : متعلق إما بـ " جابوا " أي : فيه ، وإما بمحذوف على أنه حال من " الصَّخْر " ، أو من الفاعلين . وأثبت في الحالين : ابنُ كثيرٍ وورشٌ بخلاف عن قنبل ، فروي عنه إثباتها في الحالين ، وروي عنه : إثباتها في الوصل خاصة ، وحذفها الباقون في الحالين ، موافقة لخط المصحف ، ومراعاة للفواصل كما تقدم في " يسر " . فصل في تفسير الآية قال ابنُ عبَّاسٍ : كانوا يجوبون البلادن ويجعلون من الجبال بيوتاً ، لقوله - تعالى - : { يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } [ الحجر : 82 ] . وقيل : أول من نحت من الجبال ، والصخور والرخام : ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة ، كلها من الحجارة . وقوله تعالى : { بِٱلْوَادِ } أي : بوادي القرى . قاله محمد بن إسحاق . [ وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة ، قال : " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة " تبوك " على وادي ثمود ، وهو على فرس أشقر ، فقال : " أسرعوا السير ؛ فإنكم في واد ملعون " " . وقيل : الوادي بين جبال ، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل ، ومنفذاً ، فهو واد ] . قوله : { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } ، أي : الجنود والعساكر والجموع . قاله ابن عباس . وسمي " ذي الأوتاد " لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا . وقيل : ذي الأتاد ، أي : ذي الملك الثابت . كقوله : [ الرجز ] @ 5197 - فـي ظِـلِّ مَلـكٍ رَاسـخِ الأوْتَـادِ @@ وقيل : كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا ، تجبّراً منه وعتواً ، كما فعل بامرأته آسية ، وماشطتها . قال عبدُ الرحمنِ بن زيدٍ : كانت له صخرة ترفع بالبكرات ، ثم يؤخذ له الإنسان ، فيوتد له أوتاد الحديد ، ثم يرسل تلك الصخرة عليه . وروى قتادةُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ : أن تلك الأوتاد ، كانت ملاعب يلعبون تحتها . قوله : { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ } : يجوز فيه ما جاز في : " الذين " قبله ، من الإتباع والقطع على الذم . قال ابن الخطيب : يحتمل أن يرجع الضَّمير إلى فرعون خاصة ؛ لأنه يليه ، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم ، وهو الأقرب . وأحسن الوجوه في إعرابه : أن يكون في محل نصب على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على : " هم الذين طغوا " مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون . يعني : عاداً ، وفرعون ، وثموداً طغوا ، أي : تمردوا وعتوا ، وتجاوزا القدر في الظلم والعدوان ، ثم فسر تعالى طغيانهم بقوله : { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } . قال الكلبيُّ : القتل ، والمعصية لله تعالى . قال القفال : والجملة أن الفساد ضد الصلاح ، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر ، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم ، فمن عمل بغير أمر الله ، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد . قوله : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } . أي : أفرغ عليهم ، وألقى ، يقال : صبَّ على فلان خلعة ، أي : ألقاها عليه ؛ قال النابغة : [ الطويل ] @ 5198 - فَصـبَّ عَليْـهِ اللَّـهُ أحْسـنَ صُنْعهِ وكَـانَ لَـهُ بَيْـنَ البَريَّـةِ نَاصِـراً @@ وقوله تعالى : { سَوْطَ عَذَابٍ } أي : نصيب عذاب ؛ وقيل : شدته ؛ لأن السوط عندهم ما يعذب به . قال الشاعر : [ الطويل ] @ 5199 - ألَـمْ تَـرَ أنَّ اللَّـهَ أظهـرَ دينـهُ وصَـبَّ علـى الكُفَّـارِ سـوْطَ عـذابِ @@ والسوط : هو الآلة المعروفة . قيل : سمي سوطاً ؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي : يختلط ؛ قال كعب بن زهير : [ البسيط ] @ 5200 - لَكنَّهَـا خُلَّـةٌ قَـدْ سِيـطَ مـنْ دَمِهَـا فَجْـعٌ ووَلْـعٌ وإخـلافٌ وتَبْديـلُ @@ وقال آخر : [ الطويل ] @ 5201 - أحَـارِثُ إنَّـا لو تُسَـاطُ دِماؤُنَـا تَزايلـنَ حتَّـى لا يَمَـسُّ دَمٌ دَمَـا @@ [ وقيل : هو في الأصل مصدر : ساطه يسوطه سوطاً ، ثم سميت به الآلة ] . وقال أبو زيد : أموالهم بينهم سويطة ، أي : مختلطة . فالسَّوطُ : خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه سمي : المسواط ، وساطه : أي خلطه ، فهو سائط ، وأكثر من ذلك ، يقال : سوط فلان أموره ؛ قال : [ الطويل ] @ 5202 - فَسُطْهَـا ذَمِيـمَ الـرَّأي غَيْـرَ مُوفَّـقٍ فَلسـت عَلى تَسْويطهَـا بمُعَـانِ @@ قال الفرَّاء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أن السَّوطَ : هو عذابهم الذي يعذبون به ، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه غاية العذاب . وقال الزجاج : أي : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب . [ ويقال : ساط دابته يسوطها أي : ضربها بسوطه . وعن عمرو بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها ] . قال قتادة : كل شيء عذب الله به ، فهو سوط عذاب . [ واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم . قال القاضي : وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه ] . قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } ، أي : يرصد عمل كل إنسان ، حتى يجازيه به . قال الحسن وعكرمة : والمِرْصادَ : كالمرصد ، وهو : المكان الذي يترقب فيه الرَّصد ، جمع راصد كحرس ، فالمرصاد " مفعال " من : " رصده " ، كميقات من وقته ، قاله الزمخشري . وجوَّز ابنُ عطيَّة في المرصاد : أن يكون اسم فاعل ، قال : كأنه قيل : " لبالراصد " ، فعبر ببناء المبالغة . ورده أبو حيَّان : بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء ، إذ ليس هوفي موضع دخولها ، لا زائدة ، ولا غير زائدة . قال شهابُ الدِّين : قد وردت زيادتها في خبر : " إنَّ " كهذه الآية ؛ وفي قول امرئ القيس : [ الطويل ] @ 5203 - … فإنَّـكَ ممَّـا أحْدثَـتْ بالمُجـرِّبِ @@ إلاَّ أنَّ هذه ضرورة ، لا يقاس عليه الكلام ، فضلاً عن أفصحه . فصل تقدم الكلام في : " المرصاد " ، عند قوله : { كَانَتْ مِرْصَاداً } [ النبأ : 21 ] ، وهذا مثلٌ لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه ، كما قيل لبعض العرب : أين ربك ؟ قال : بالمرصاد . وقال الفراء : معناه : إليه المصير . وقال الزجاج : يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب . وقال الضحاك : يرصد أهل الظلم ، والمعصية .