Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 103-106)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } قال الحسنُ : هذا راجع إلى الذين تابُوا ؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة ؛ فأوجب الله تعالى أخذها ، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم ، فتكون جارية مجرى الكفارة . وليس المراد منها الصدقة الواجبة ، وإنَّما هي كفارة الذنبِ . وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين ، ويدلُّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً " فلو كانت واجبة لم يقل ذلك . وأيضاً روي أنه عليه الصلاة والسلام : أخذ الثلث وترك الثلثين . والواجبةُ ليست كذلك . وقيل : إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم ، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ ، وحسن إسلامهم ، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم . وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين . وقيل : هذا كلام مبتدأ ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء ، وعليه أكثر الفقهاء ، واستدلُّوا بقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها ؛ لأنَّ " مِنْ " للتبعيض ، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به ، بل المصرح به قوله : " صدقَة " ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان ، وإن كان في غاية القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة ، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم ، حتى يكون قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة ، لكي يزول الإجمالُ . وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض ، وفي ست وثلاثين بنت لبون ، إلى غير ذلك ، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال ، وظهر تعلق الآية بما قبلها ، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها . قوله : { … مِنْ أَمْوَالِهِمْ … } يجوزُ فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بـ " خُذْ " ، و " مِنْ " تبعيضية . والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حالٌ من " صدقةً " ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها ، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً . والصَّدقة : مأخوذة من الصِّدْقِ ، وهي دليل على صحَّة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ . قوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ } يجوزُ أن تكون التَّاء في " تُطَهِّرُهمْ " خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وأن تكون للتنبيه ، والفاعل ضمير الصدقة ، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " خُذْ " . ويجوز أن تكون صفةً لـ " صَدقَةً " ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد ، تقديره : تُطهِّرُهُم بها ، وحذف " بها " ، لدلالة ما بعده عليه . وعلى الثاني تكون الجملة صفة لـ " صدقة " ليس إلاَّ ، وأمَّا " تُزَكِّيهم " فالتاء فيه للخطاب لا غير ، لقوله " بها " ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من " تُزكِّيهم " إلى الصَّدقة . وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل " خُذ " على قولنا : إنَّ " تَطهِّرهُم " حال منه ، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب . ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا : إنَّ " تُطهِّرهم " صفةٌ ، والعائدُ منها محذوفٌ . وجوَّز مكيٌّ أن يكون " تُطهِّرُهُم " صفةً لـ " صَدقةً " ، على أنَّ التَّاء للغيبة ، و " تُزكِّيهم " حالاً من فاعل " خُذْ " ، على أنَّ التاء للخطاب ، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ ، أي : صدقة مطهِّرة ، ومُزكياً بها ، ولو كان بغير واوٍ جاز ، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى ، فلو كانت " وتُزكِّيهم " عطفاً على " تُطهِّرُهم " للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه ؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما ، ولكن يجوزُ ذلك على أن " تُزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، وتكون الواوُ للحالِ ، تقديره : وأنت تزكِّيهم ، وفيه ضعفٌ ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم . وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل " خُذْ " على أن تكون التاءُ للخطابِ ، وأن تكونا صفتين لـ " صَدقَة " على أنَّ التاء للغيبة ، والعائد محذوفٌ من الأولى ، وأن يكُون " تُطهِّرهُم " حالاً ، أو صفة ، و " تُزكِّيهم " حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ ، وأن يكون " تزكِّيهم " خبر مبتدأ محذوف ، والواوُ للحال . وقرأ الحسنُ " تُطْهرُهم " مُخَفَّفاً من " أطهر " عدَّاهُ بالهمزة . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذَّمة ، لقوله { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فلو مات أخذَت من التَّركة . وقال الشَّافعيُّ : إنَّها تتعلَّق بالذِّمة ، فلو فرط حتى هلك النصاب ، وجبت الزَّكاةُ ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق . ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام ؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ . وهو قول أبي حنيفة . وإذا قلنا : تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي ، وفي مال المديُونِ . فصل معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر . والتَّزكية : مبالغة في التطهر ، وقيل : التَّزكية بمعنى الإنماءِ ، وقيل : الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية ، والرسول يزكيهم ، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء . ولذلك يقولُ السَّاعي له : آجرك اللهُ فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت ، وجعله لك طهوراً . قوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ } . قرأ الأخوان ، وحفص " إنَّ صلاتكَ " ، وفي هود { أَصَلَٰوَتُكَ تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] بالتَّوحيد - والباقون " إنَّ صلواتك " ، " أصَلواتُك " بالجمع فيهما ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا : الدُّعاء ، وفي تيكَ : العبادة . قال أبو عبيدٍ : وقراءة الإفراد أوْلَى ؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر ، قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } [ البقرة : 43 ] والصلواتُ جمع قلَّة ، تقول : ثلاث صلوات ، وخمس صلوات . قال أبو حاتم : وهذا غلطٌ ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة ، قال تعالى : { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } [ لقمان : 27 ] ولم يرد التَّقليل ، وقال : { وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ } [ سبأ : 37 ] ، وقال { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ } [ الأحزاب : 35 ] . والسَّكَنُ : الطمأنينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : رحمة لهم . وقال أبو عبيدة : تَثْبِيتاً لقلوبهم ؛ ومن الطمأنينة قوله : [ البسيط ] @ 2844 - يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي @@ فـ " فَعَل " بمعنى " مفعول " ، كالقبض بمعنى : المقبوض ، والمعنى : يَسْكُنون إليها . قال أبُو البقاءِ : " ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ " . لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى " فاعل " ، لقوله : " لهم " . ولو كان كما قال لكان التَّركيب " سكنٌ إليها " أي : مَسْكُون إليها ، فقد ظهر أنَّ المعنى : مُسَكِّنة لهم . فصل قال ابنُ عبَّاسٍ : معنى الصَّلاةِ عليهم : أن يدعو لهم . وقال آخرون : معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان ، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال : " اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى " . واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة ، قال بعضهم : يجبُ . وقال بعضهم : يستحبُّ . وقال بعضهم : يجب في صدقة الفرضِ ، ويستحب في التَّطوع . وقيل : يجب على الإمام ، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي . ثم قال : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . قوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الآية . لمَّا قال في الآية الأولى { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 102 ] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم ، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده ، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات ، أي : يقبلها . قال أبُو مسلمٍ قوله : " أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ " وإن كان بصيغة الاستفهام ، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس ، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب ، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا : أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته ، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره ، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم . ثم زاده تأكيداً بقوله : { هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } . وقرأ الحسن بخلاف عنه " ألَمْ تعْلمُوا " قال أبُو حيَّان : " وفي مصحف أبَيّ " ألَمْ تَعْلمُوا " بالخطاب ، وفيه احتمالات ، أحدها : أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا : ما هذه الخاصّيّة التي اختصَّ بها هؤلاء ؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ ، والمرادُ : التَّائبون ، وأن يكون على إضمار قولٍ ، أي : قل لهم يا محمد : ألمْ تعلمُوا " . قوله : " هُوَ يَقْبَلُ " " هو " مبتدأ ، و " يَقْبَلُ " خبره ، والجملةُ خبر " أنَّ " ، و " أنَّ " وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين ، أو مسدَّ الأول . ولا يجوزُ أن يكون " هو " فصلاً ، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، قوله : " عَنْ عبادِهِ " معلقٌ بـ " يَقْبَلُ " وإنَّما تعدَّى بـ " عَنْ " فقيل : لأنَّ معنى " مِنْ " ومعنى " عَنْ " متقاربان . قال ابنُ عطيَّة : " وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه ، نحو : " لا صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى ، ومِنْ غنى " ، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره ، وعن أشره وبطره " . وقيل : لفظة " عَنْ " تُشْعر ببعدٍ ما ، تقول : جلسَ عن يمين الأمير ، أي : مع نَوْعٍ من البُعْدِ . والظَّاهِرُ أنَّ " عَنْ " للمجاوزة على بابها ، والمعنى : يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم ، فإذا قلت : أخذت العلم عن زيد ؛ فمعناه المجاوزةُ ، وإذا قلت " منه " فمعناه ابتداء الغاية . قال القاضي : " لعلَّ " عَنْ " أبلغ ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت " قوله : " وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ " فيه سؤالٌ : وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى ، وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عليه الصلاة والسلام - ، وقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ " خذها من أغنِيائهم " يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير ، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ ؟ . والجوابُ من وجهين : الأول : أنَّهُ تعالى لمَّا قال { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو ، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله ، والمقصود منه : التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ونظيره قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . والثاني : أنَّهُ أضيف إلى الرسول ، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها ، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس ، وأضيف إلى الفقير ، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم } [ الأنعام : 60 ] ، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، فأضيف إلى الله بالخلق ، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل ، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت ، فكذا ههنا . قوله : " هُوَ ٱلتَّوَّابُ " يجوزُ أن يكون فصلاً ، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله . فصل روى أبو هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ : " والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً ، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم " ، ثم قرأ : { أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } . قوله تعالى : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } الآية . قال ابنُ الخطيبِ : " هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب ؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً ، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] ، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - القدح في إلهيّة الصَّنم ؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب ، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين ، فمن شاء أحرقه ، ومن شاء كسره ، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً ؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات ، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار ، فقال : الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات ، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين ، ولا يرى تضرُّع المساكين ، فأيُّ فائدة في عبادته ؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الطَّعن في قول من يقول : إنَّ إله العالم موجب بالذَّات . أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً ، وكان عالماً بالجزئيات ، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنَّ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك ، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة ، فقوله : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } ترغيبٌ عظيم للمُطيعين ، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال : اجتهدُوا في المستقبل ، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً . أمَّا حكمه في الدُّنيا ، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون ، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا ، والثواب في الآخرة ، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة ، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده " . فصل دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد ، هي الإبصار ، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ ، كقولك : رأيتُ زيداً فقيهاً ، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد ، فتكون بمعنى الإبصار ، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [ مريم : 42 ] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء ، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال : { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم ؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته ، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها : الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرُّؤية إلى عملهم ، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب ، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر ، وإلى أعمال الجوارح ، كالحركات والسَّكنات ؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له : فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله { وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف ؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه ، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك . فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه ، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ : رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال ، لقوله : { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال ، أي : فسيوصل لكم جزاء أعمالكم ، وقد يجابُ : بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله : { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز . فصل ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين : الأول : أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدحِ والتَّعظيم ، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون ، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه ، فكأنه قيل : إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق ، فاعمل الأعمال الصالحة لله تعالى ، وإن كنت من الضُّعفاءِ المشغولين بثناء الخلقِ ، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ ، وهو الرسول والمؤمنون . الثاني : ما ذكره أبو مسلم : أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة ، لقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 143 ] ، والرسول شهيد الأمَّة ، لقوله : { وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم ، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين ، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد . قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . قال ابنُ عباسٍ : الغيبُ : ما يسرونه والشهادة : ما يظهرونه . قال حكماءُ الإسلامِ : الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة ، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول ؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة ؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة . فصل إن حملنا قوله تعالى : { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } على الرُّؤية ، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله : { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } ، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب ، كان قوله { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } جارياً مجرى التفسير لقوله { فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ } ومعناه : بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها . وقوله : { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } أي : ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ . { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها ؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم . قوله تعالى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ } الآية . قرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو ، وابنُ عامرٍ ، وأبُو بكرٍ عن عاصم " مُرْجؤونَ " بهمزة مضمومة بعدها " واو " ساكنة . والباقون " مُرجَوْنَ " دون همز ، وهذا كقراءتهم في الأحزاب " ترجىء " [ الأحزاب : 51 ] بالهمز ، والباقون بدونه . وهما لغتان ، يقال : أرْجَأتُه ، وأرْجَيْتُه ، كـ : أعْطَيْته . ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة ؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً ، كـ : قرأت ، وقرَيْت ، وتوضَّأت وتوضَّيت . والإرجاء : التأخير . وسميت المرجئةُ بهذا الاسم ؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله . وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان . قوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ } يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ ، و " مُرْجَونَ " يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين ، وإمَّا متوباً عليهم ، و " إمَّا " هنا للشَّك بالنسبة للمخاطب ، فناسٌ يقولون : هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم . وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين . فصل اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام : أحدها : المنافقون الذين مردُوا على النفاق . والثاني : التَّائبون وهم المُرادُون بقوله : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ } [ التوبة : 102 ] وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم . والثالث : الذين بقوا موقوفين ، وهم المذكورون في هذه الآية ، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني ، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها . قال ابنُ عبَّاسٍ : نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا : كعبُ بنُ مالكٍ ، ومرارةُ بن الربيع ، وهلالُ بنُ أميَّة ، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة ، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة ، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم ، حتَّى شفّهم القلقُ ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر ؛ فجعل أناس يقولون : هلكُوا ، وآخرون يقولون : عسى الله أن يغفر لهم ، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله ، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم ، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } " عَليمٌ " بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين " حَكِيمٌ " بما يحكم فيها . فإن قيل : إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ ، وتخلفهم عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ ، بل قال : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ . فالجوابُ : لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، وعلى هذا ، فلا تكونُ توبتهم صحيحة ، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم ؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية ، فحينئذٍ صحَّت توبتهم . فصل احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين ، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة ، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة ؛ فهو قسم ثالث . فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره ، دلَّ على بطلانه . وأجيب : بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين ، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد ؛ فذلك مشكوكٌ فيه ، قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] فقطع بغفران ما سوى الشرك ، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ ، بل في حقِّ من يشاء ؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء ، عدم العفو على الإطلاق ، وأيضاً فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم ، ألا ترى قوله تعالى { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38 ، 39 ] وهم المؤمنون { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } [ عبس : 40 - 42 ] فذكر المؤمنين والكافرين ، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث ، لم يدل عند الجُبَّائيُّ على نفيه ؛ فكذا ههنا .