Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 95-102)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ } الآية . لمَّا حكى عنهم أنَّهم يعتذرون إليكم ، ذكر هنا أنَّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمانِ الكاذبة " إذَا انقَلبْتُم " انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروجِ . " لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ " أي : لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم . ثم قال تعالى : { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } قال ابن عباس : يريد ترك الكلام والسلام . وقال مقاتل : قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : " لا تُجالسُوهم ولا تكلموهم " . ثمَّ ذكر العلَّة في وجوب الإعراض عنهم ، فقال : " إنَّهُم رجْسٌ " والمعنى : أن خبث بواطنهم رجس روحاني ، فكما يجبُ الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية ؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى . وقيل : إنَّ عملهم قبيحٌ . { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : منزلهم . قال الجوهريُّ : المأوى : كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً ، وقد أوى فلانٌ إلى منزله يأوي أويًّا ، على " فُعُول " ، وإوَاءً ، وأوَيْتُه إذا أنزَلْتَهُ بك ، فعلتُ وأفعلتُ ، بمعنى عن أبي زيدٍ . ومَأوِي الإبل - بكسر الواو - لغةٌ في مأوى الإبل خاصَّةً ، وهو شاذ . قوله : " جَزَاءً … " يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر ، أي : يُجْزونَ جزاء ، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة ؛ لأنَّ كونهُم يأوونَ في جهنم في معنى المجازاة ، ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله . قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } الآية . لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم ، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم ، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم ، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن : { ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } . قوله تعالى : { ٱلأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية . لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها ، ونائباً عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد . قال قتادةُ : " لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن " وقيل : لأنَّهم أقسَى قلباً ، وأكذبُ قولاً ، وأغلظُ طبعاً ، وأبعد عن استماع التنزيل ، ولذا قال تعالى في حقِّهم : " وأجْدَرُ " أي : أخلق . " أَلاَّ يَعْلَمُواْ " . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم ، ترتب على ذلك أحكام : منها : أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة : " … ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ " ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ، لتحقق التهمة . وأجازها أبو حنيفة ؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول ، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً ، وهو الصحيحُ . قوله : " ٱلأَعْرَابُ " صيغة جمعٍ ، وليس جمعاً لـ " عَرَب " قاله سيبويه ، وذلك لئلاَّ يلزم أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد ، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص ، سواء سكن البوادي ، أم سكن القرى . وأمَّا الأعراب ، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط ، وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الفاتحة : 2 ] ، أوَّل الفاتحة . ولهذا الفرق نسب إلى " الأعْراب " على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على " أعَارِيب " . قال أهلُ اللغة : " يقال : رجلٌ عربيّ ، إذا كان نسبه في العربِ ، وجمعه العربُ ، كما يقال : يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع ، فيقال : اليهُودُ والمجُوسُ ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً ، ويطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العربِ ، أو من مواليهم . ويجمع الأعرابي على الأعراب ، والأعاريب ، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي ، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ ، غضب ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسلام " حُبُّ العربِ من الإيمانِ " وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية . وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنَّما هُمْ عرب ، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب ، قال عليه الصلاة والسلام " لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً " . فصل قال بعضُ العلماء : الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة ، قالوا : لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق ؛ وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق ، دفعاً للإجمال . قالوا : إذا ثبت هذا فقوله : " الأعرابُ " المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب ، كانوا يوالون منافقي المدينة ، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم . فصل سمي العربُ عرباً ، لأنَّ أباهُم : يعربُ بنُ قطعان ، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا بـ " عربة " وهي تهامة ، فنسبوا إلى بلدهم ، وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول ، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم " جُرهم " فربي بينهم ، وكانوا عرباً قبل إسماعيل ، ولأن " يعرب " من ولد إسماعيل ، وكان حميلاً عربياً . وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في " جُرهم " حين نزلوا عند هاجر بمكَّة . والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود ، وطسْم ، وجديس ، وجرهم ، والعماليق ، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً ، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر ، وبنوه قبيلة يقال لها " وبار " هلكوا بالرمل . انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [ الرجز ] @ 2835 - وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ @@ وأمَّا الثالثُ ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه ، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون ، أنَّ سام بن نوح أبو العرب ، وفارس ، والروم ، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح . قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة ، وغيرها من الألسنةِ ، لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] . ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة ، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ . قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم ؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم ، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم ، وعذوبة عباراتهم . فصل اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين : الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً ، والسبب فيه وجوه : أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش . وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يزيدُ في التيه ، والتَّكبر ، والفخر ، والطيش عليهم . وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا ، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً . ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبياناته الشافية ، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره ؟ وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ . و " أشَدّ " أصله : أشدد ، وقد تقدم . وقوله " كُفْراً " نصب على الحال ، و " نِفَاقاً " عطف عليه ، و " أجْدَرُ " عطف على " أشَدّ " . الحكم الثاني : قوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ … } " أجْدَر " أي : أحَقُّ وأولى ؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ ، وحقيقٌ وأحقُّ ، وخليقٌ وأخلقُ ، وقمنٌ بكذا ، كلُّه بمعنى واحد ، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً ، فهو جَديرٌ ، ويُثَنَّى ويُجمع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ] @ 2836 - بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا @@ وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة ، وأنَّها من الجدار ، أي : الحائط ، فقال : " والجديرُ : المُنتهى ، لانتهاء الأمر إليه ، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ " . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من : " الجَدْر ، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا . وقوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } أي : بألاَّ يعلمُوا ، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي ، مع سيبويه والفراء . والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بما في قلوب خلقه : " حَكِيمٌ " فيما فرض عليهم من فرائضه . قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً } . نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم . " مَنْ " مبتدأ ، وهي إما موصولةٌ ، وإمَّا موصوفةٌ . و " مَغْرَماً " مفعول ثانٍ ؛ لأنَّ " اتَّخَذَ " هنا بمعنى " صيَّر " . والمَغْرَمُ : الخسران ، مشتق من الغرام ، وهو الهلاك ؛ لأنَّه سببه ، ومنه : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل أصله الملازمةُ ، ومنه الغريمُ : للزومه من يطالبه ، والمغرم : مصدر كالغرامةِ ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ . قال عطاءٌ : لا يرجُون على إعطائه ثواباً ؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً ، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً . و " يتربَّصُ " عطفٌ على " يتَّخِذ " ، فهو إمَّا صلة ، وإما صفة . والتَّربُّصُ : الانتظارُ . وقوله : { بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ } فيه وجهان : أظهرهما : أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها . والثاني : أنها حالٌ من " الدَّوائر " قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر . و " الدَّوائرِ " جمعُ " دائرةٍ " وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها ، وأصلها : " دَاوِرَة " ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ ، أي : أحَاطَ ، ومعنى " تَربُّص الدَّوائر " أي : انتظار المصائب ؛ قال : [ الطويل ] @ 2837 - تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا @@ قال يمانُ بن رئابٍ : " يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر المشركون " . قوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين ، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو هنا : " السُّوءِ " ، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ . وأمَّا الأولى في الفتح ، وهي " ظنَّ السوءِ " . فاتفق على فتحها السبعةُ . فأمَّا المفتوح فقيل : هو مصدر . قال الفرَّاءُ : " فتحُ السِّين هو الوجه ؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ : سُؤتُه سَوْءاً ، ومَساءةً ، وسَوائِيَةً ، ومَسَائِيَةٌ ، وبالضَّم الاسم ، كقولك : عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب " . قال أبُو البقاء : " وهو الضَّرَرُ ، وهو مصدر في الحقيقة " . يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح ، في أنَّهُ مصدرٌ ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ . وقال مكي : " مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة ، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر " . وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر . ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر . وقال غيره : المضمومُ العذاب والضرر ، والمفتوح : الذم ، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح { ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } [ الفتح : 6 ] وقوله : { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] ، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين . وقال الزمخشري فأحسن : " المضمومُ : العذاب ، والمفتوحُ ذمٌّ لـ " دائرة " كقولك : رجُل سوءٍ ، في نقيض رجل عدل ؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا " . يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ، ثم أضيفَتْ لصفتها ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ } [ مريم : 28 ] . قال أبُو حيَّان " وقد حكي بالضَّمِّ " ؛ وأنشد الأخفشُ : [ الطويل ] @ 2838 - وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ @@ وفي " الدائرة " مذهبان : أظهرهما : أنها صفةٌ على فاعلة ، كـ " قائمة " . وقال الفارسيُّ : " يجوز أن تكون مصدراً كالعافية ، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء ، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء ؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ ، والمعنى : يدور عليهم البلاءُ والحزنُ ، فلا يرون في محمد ، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم " . ثم قال : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ } لقولهم ، { عَلِيمٌ } بنيَّاتهم . قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية . لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً ، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر . قال مجاهدٌ : هم بنو مقرن من مزينة . وقال الكلبيُّ هم أسلم ، وغفار ، وجهينة . وروى أبو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " لأسْلمُ وغفارٌ ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ " . قوله : { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ } فـ " قُرُباتٍ " مفعولٌ ثانٍ لـ " يتَّخذَ " كما مرَّ في { مَغْرَماً } [ التوبة : 98 ] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من " قُربَات " ، مع اختلافهم في راء " قُرْبة " كما سيأتي ، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً لـ " قُرْبة " بالضَّم ، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ ، ويحتملُ أن تكون جمعاً للساكنها ، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً ، كـ " غُرُفَات " ، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة ، وشروطها عند قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] أول البقرة . قال الزجاجُ : يجوزُ في " القُرُبَات " أوجه ثلاثة ، ضم الراء ، وإسكانها ، وفتحها . والمعنى : أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ . قوله : " عِندَ ٱللَّهِ " في هذا الظرف ثلاثة أوجه : أظهرها : أنَّه متعلقٌ بـ " يتَّخذ " والثاني : أنَّهُ ظرف لـ " قُرُبات " ، قاله أبو البقاءِ . وليس بذلك . الثالث : أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ ، لأنَّه صفةٌ لـ " قربات " . قوله : { وَصَلَوَاتِ ٱلرَّسُولِ } فيها وجهان : أظهرهما : أنَّها نسق على " قُربات " ، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري ، فإنَّه قال : " والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول ، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ ، كقوله : " اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى " والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره - : أنها منسوقةٌ على " ما يُنفقُ " ، أي : ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة . قوله : { أَلاۤ إِنَّهَا قُرْبَةٌ } الضمير في " إنَّها " قيل : عائدٌ على " صَلواتِ " . وقيل : على النَّفقات أي : المفهومة من " يُنفِقُون " . وقرأ ورشٌ " قُرُبَة " بضمِّ القاف والرَّاء ، والباقون بسكونها ، فقيل : لغتان . وقيل : الأصلُ السكون ، والضَّم إتباع . وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف ، هل يجوزُ تثقيل " فُعْل " إلى " فُعُل " ؟ وأنَّ بعضهم جعل " يُسُرا ، عُسُرا " بضمِّ السين فرعين على سكونها ، وقيل : الأصلُ " قُرُبة " بالضَّمِّ ، والسكون تخفيف ، نحو : كتب ورسل ، وهذا أجْرَى على لغة العرب ، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة . وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه . قال معناه الزمخشريُّ ، قال : وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ } لسيِّآتهم " رَّحِيمٌ " بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات . قوله تعالى : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ } الآية . " وَالسَّابقُون " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّه مبتدأ ، وفي خبره ثلاثة أوجه : أظهرها : أنَّه الجملة الدعائية من قوله : { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ } . والثاني : أنَّ الخبر قوله : " الأوَّلون " ، والمعنى : والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة . الثالث : أنَّ الخبر قوله : { مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار ، ذكر ذلك أبو البقاءِ . وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ . الثاني من وجهي " السَّابقين " : أن يكون نسقاً على " مَنْ يُؤمِنُ باللهِ " ، أي : ومنهم السابقون ، وفيه بعدٌ ، والجمهور على جرِّ " الأنْصارِ " نسقاً على " المُهاجِرينَ " يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين . وقرأ جماعة كثيرة أجلاَّء : عمرُ بنُ الخطَّابِ ، وقتادةُ ، والحسنُ ، وسلامُ ، وسعيدُ ابنُ أبي سعيدٍ ، وعيسى الكوفيُّ ، وطلحة ، ويعقوب " والأنصارُ " برفعها ، وفيها وجهان : أحدهما : أنَّه مبتدأ ، وخبره " رضِيَ الله عنهُم " . والثاني : عطفه على " السَّابقُون " ، وقد تقدَّم ما فيه ، فيُحكم عليه بحكمه . قوله : " بإِحْسانٍ " متعلقٌ بمحذوف ، لأنَّه حالٌ من فاعل " اتَّبَعُوهُم " . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يرى أن الواو ساقطة من قوله : " وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم " ويقول : إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله ، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ : إنَّها بالواو ، فقال : ائتوني بأبيّ ، فأتوه به ، فقال له : تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وأوسط الحشر { وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] وآخر الأنفال { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ } [ الأنفال : 75 ] . وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو ، فقال : من أقْرأكَ ؟ فقال : أبيّ ، فدعاه ، فقال : أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع ، قال : صَدقْتَ ، وإن شئت قل : شهدنَا وغبْتُم ، ونصَرْنَا وخذلْتُم ، وآوَيْنَا وطَرَدْتم ، ومن ثمَّ قال عمرُ : لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة ، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا . فصل لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله ، وما أعد لهم ، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها ، وهي منازلُ السَّابقين الأولين . واختلفوا فيهم ، فقال ابنُ عبَّاس ، وسعيدُ بنُ المسيب ، وقتادة ، وابن سيرين ، وجماعة : هم الذين صلُّوا إلى القبلتين ، وقال عطاءُ بن أبي رباح : هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان ، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية . وقال أبو مسلم : من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم . وقال ابنُ الخطيبِ : " والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة ، والنصرة ، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً " . واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة ، والنصرة أم يتناول بعضهم ؟ فقال قومٌ : إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا ، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة ، لأنَّ كلمة " مِنْ " للتَّبعيض . ومنهم من قال : بل يتناولُ جميع الصحابةِ ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين ، وكلمة " مِنْ " في قوله " مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ " ليست للتَّبعيض ، بل للتبيين ، كقوله : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس . روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال : قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ : ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينهم ؟ وأردت الفتن ، فقال : إنَّ الله قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة ؟ قال : سبحان الله ! ألا تقرأ قوله : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ } [ التوبة : 100 ] إلى آخر الآية ؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - الجنَّة والرضوان ، وشرط على التابعين شرطاً ، قلت : وما ذاك الشَّرط ؟ فقال : شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان ، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك ، أو يقال : المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول ، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً ، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه . قال حميدُ بن زياد : فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط ، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي : أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة ، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة ، ثم البدريُّون ، ثم أصحاب أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية . فصل واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جابر : أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ . قال مجاهدٌ وابن إسحاق : أسلم وهو ابن عشر سنين . وقال ابنُ عباسٍ ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي : أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق . وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير : أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة . وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول : " أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ ، ومن العبيد زيد بن حارثة " . قال ابن إسحاق : لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله ، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً ، وكان تَاجِراً ، ذا خُلِقٍ ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ ، لعلمه وحُسن مجالسته . فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله ؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمُوا وصلُّوا معه ، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهلاء سباق الأنصار . ثمَّ بعثَ رسُول الله ، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن ؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان . والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم ، وفارقُوا أوطانهم ، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه ، وآووا أصحابه . { وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } [ التوبة : 100 ] قيل : هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي بـ " مِنْ " للتبعيض . وقيل : هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة . وقال عطاءٌ : الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء . ثم جمع الله في الثَّواب فقال : { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ } وقرأ ابنُ كثير : " تَجْري من تحْتِهَا " بـ " مِن " الجارَّة ، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة . والباقون " تَحْتها " بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم . وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع . قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ … } خبر مقدَّم ، و " مُنَافقُونَ " مبتدأ ، و " مِنَ الأعْرابِ " لبيان الجنسِ . " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " يجوزُ أن يكون نسقاً على " مَنْ " المجرورة بـ " مِنْ " ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ ، وهو " مُنافقُونَ " بهما ، كأنَّه قيل : المنافقون من قوم حولكم ، ومن أهل المدينة ، وعلى هذا هو من عطف المفردات ، إذ عطفت خبراً على خبر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : " مَرَدُوا " مستأنفاً لا محلَّ له . ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله : " مُنافقُونَ " ويكونُ قوله " ومِنْ أهْلِ المدينةِ " خبراً مقدماً ، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع " مِنْ " التَّبعيضية ، وقد مرَّ تحريره ، نحو : " مِنَّا ظعن ، ومِنَّا أقامَ " والتقدير : ومن أهلِ المدينةِ قومٌ ، أو أناسٌ مرَدُوا ، وعلى هذا فهو من عطف الجمل . ويجوز أن يكون " مَرَدُوا " على الوجه الأوَّلِ صفةً لـ " مُنَافِقُون " وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله : " ومِنْ أهلِ المدينةِ " ، والتقدير : وممَّن حولكم ، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون . قال ذلك الزجاجُ ، وتبعه الزمخشريُّ ، وأبو البقاء ، واستبعده أبو حيَّان ، للفصل بين الصِّفة وموصوفها . قال : " فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ ، وفي القصر العاقل " . يعني ففصلت بين " زيد " ، و " العاقل " بقولك : " وفي القصر " . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني ، وإقامة صفته مقامه بقوله : [ الوافر ] @ 2839 - أنَا ابْنُ جَلاَ … … @@ قال أبُو حيَّان : " إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع " مِنْ " مُطَّردٌ ؛ وقوله : [ الوافر ] @ 2840 - أنَا ابْنُ جَلاَ … … @@ ضرورة ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 2841 - يَرْمِي بِكَفَّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ @@ والبيت المشار إليه ، هو قوله : [ الوافر ] @ 2842 - أنَا ابنُ جَلاَ وطلاَّعُ الثَّنَايَا مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي @@ وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات : أحدها : ما تقدم . والآخر : أنَّ هذه الجملة محكيّة ؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ ، فإنَّ " جَلاَ " فيه ضمير فاعل ، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا : شَابَ قَرْنَاهَا ، وذَرَّى حَبّاً ، وقوله : [ الرجز ] @ 2843 - نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ @@ والثالث : وهو مذهب عيسى بن عمر : أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير ، وإنَّما لم يُنوَّن ؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك ، فلو سُمِّي بـ " ضرب ، وقتل " منعهما ، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة ، نحو : جَمَل ، وجَبَل . والمراد بأهل المدينةِ : الأوس والخزرج . و " مَرَدُوا " أي : مَهَرُوا ، وتمرَّنُوا ، وثبتوا على النفاق . وقال ابن إسحاق : لجوُّا فيه وأبوا غيره . وقال ابنُ زيدٍ : أقاموا عليه ولم يتوبوا . وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ ، عند قوله : { شَيْطَاناً مَّرِيداً } [ النساء : 117 ] . قوله : " لا تَعْلمُهُم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً لـ " مُنَافِقُون " ، ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه ؛ فيتعدَّى لاثنين ، أي : لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين ؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب ، لا يطلع عليه . وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد ، قاله أبُو البقاءِ . وأمَّا " نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ " فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها ، لما تقدَّم في الأنفال ، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى ، وهو محذُورٌ لما تقدَّم . قوله : " سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ " تقدَّم الكلامُ في نصب { مَرَّةٍ } [ التوبة : 13 ] ، وأنَّه من وجهين ، إمَّا المصدرية ، وإمَّا الظرفية ، فكذلك هذا ، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد ، وعليه الأكثر ، واختلفُوا في تفسيرها ، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية ، بل يُراد بها التَّكثيرُ ، كقوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } [ الملك : 4 ] ، أي : كرَّاتٍ ، بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] ، أي : مزدجراً ، وهو كليلٌ ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات ، ومثله " لبَّيْكَ ، وسعْديكَ ، وحنَانيْكَ " . وروى عياشٌ عن أبي عمرو " سنُعذِّبْهُم " بسكون الباءِ ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ كـ { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] وبابه ، وإن كان باب " ينْصُركُم " أحسن تَسْكِيناً ، لكون الرَّاءِ حرف تكرار ؛ فكأنه توالى ضمَّتان ، بخلاف غيره ، وقد تقدَّم تحريره . وقال أبُو حيَّان : وفي مصحف أنس " سيُعذِّبهُم " بالياءِ ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ ، فكيف يقال هذا ؟ ! فصل وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين : فقال السُّديُّ والكلبيُّ : قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيباً يوم الجمعة فقال : " اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ … " فأخرج من المسجد ناساً ، وفضحهم ، فهذا هو العذابُ الأولُ . والثاني : عذاب القبر . وقال مجاهدٌ : الأولُ القتل والسبي ، والثاني عذاب القبر ، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين . وقال قتادةُ : بالدبيلة في الدُّنيا ، وعذاب القبر . وقال ابن زيد : الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا ، والأخرى عذاب القبر . وعن ابن عبَّاسٍ : الأولى إقامة الحدود عليهم ، والأخرى عذاب القبر . وقال ابنُ إسحاق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ، ودخولهم فيه من غير حسبة ، ثم عذاب القبر . وقيل : أحدهما ضرب الملائكة وجوههم ، وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، ثم عذاب القبر ، وقيل : الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار ، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي : عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ : الأولى أخذ الزكاة من أموالهم ، وعذاب القبر . قوله تعالى : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } الآية . " وآخرون " نسقٌ على " مُنافِقُون " أي : وممَّن حولكم آخرون ، أو من أهلِ المدينة آخرون . ويجوزُ أن يكون مبتدأ ، و " اعترفُوا " صفته ، والخبر قوله : " خلطُوا " . قوله : " وآخَرَ " نسقٌ على " عَمَلاً " . قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً ، فما المخلُوط به ؟ قلتُ : كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به ؛ لأنَّ المعنى : خلط كل واحدٍ منهما بالآخر ، كقولك : خلَطْتُ الماءَ واللَّبن ، تريدُ : خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه . وفيه ما ليس في قولك : خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً ، واللَّبنَ مخلوطاً به ، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين ، ومخلوطاً بهما ، كأنَّك قلت : خلطتُ الماءَ باللبن ، واللبن بالماءِ " . ثمَّ قال " ويجوزُ أن يكون من قولهم : بِعْتُ الشَّاة : شاةً ودرهماً ، بمعنى : شاة بدرهم " . قال شهابُ الدِّينِ : " لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى " وقال أبُو البقاءِ : " ولو كان بالباءِ جاز أن تقول : خلطتُ الحنطة والشعير ، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير " . قوله : " عَسَى ٱللَّهُ " يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً ، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً لـ " آخرون " ويكون قوله " خلطُوا " في محلِّ نصب على الحالِ ، و " قَدْ " معه مقدَّرةٌ ، أي : قد خلطوا . فتلخَّص في : " آخرُونَ " أنَّهُ معطوف على " مُنافِقُون " ، أو مبتدأ مخبر عنه بـ " خَلطُوا " ، أو بالجملة الرجائية . فصل قيل : إنَّهم قوم من المنافقين ، تابُوا عن النِّفاقِ ؛ لأنَّهُ عطف على قوله { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } والعطفُ يوهم التَّشريكَ ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة . وقيل : إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك ، كسلاً ، لا نفاقاً ، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا . وروي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام . وروى عطية عن ابن عباس : كانوا خمسة ، أحدهم أبو لبابة . وقال سعيد بن جبير : كانوا ثمانية . وقال قتادةُ والضحاك : كانوا سبعة . وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة . وقال قومٌ : نزلت في أبي لبابة خاصة ، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس : أنهم كانوا عشرة ، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد ، فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ودخل المسجد وصلى ركعتين ، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ ، فرآهم موثقين ، فسأل عنهم ؛ فقالوا : هؤلاء تخلَّفُوا عنك ، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطلقهم ويرضى عنهم ، فقال : " وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم " ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم ، فقالوا : يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك ، فتصدق بها عنَّا وطهرنا ، فقال : " ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً " ؛ فنزل قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] الآية . والاعترافُ : عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ ، ومعناه : أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم . والعمل الصَّالح : هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم . والعمل السيّىء : هو تخلُّفهم . وقيل : العمل الصَّالح : خروجهم مع الرسُول - عليه الصلاة والسلام - إلى سائر الغزوات ، والعمل السيّىء : تخلفهم عن غزوة تبوك . فصل قالوا : إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً ؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي بـ " لعل ، أو عسى " ، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً ؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل ، فهذا المعنى هو فائدة ذكر " عَسَى " . والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة ، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي ، والعزم على تركه في المستقبل . فصل دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط ، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح والثَّواب ، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب ؛ لأنَّ قوله تعالى : { خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر ، لأنه وصفه بالاختلاط ، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهما ، لأن الاختلاط صفة للمختلطين ، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال ؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط . فصل قوله : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل . وقوله : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي ، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة ؛ بل كان مقدماً على التوبةِ ، والتوبة إنما حصلت بعده .