Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 107-110)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً } الآية . قرأ نافع ، وابن عامر " الذين اتَّخَذُوا " بغير " واو " . والباقون بواو العطف . فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم ، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم . فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه : أحدها : أنَّها بدلٌ من " آخرون " قبلها ، وفيه نظر ؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً ، لا يقال في حقِّهم : إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله ؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين ، كـ : أبي عامر الرَّاهب . الثاني : أنَّهُ مبتدأ ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ ، أحدها : أنَّهُ " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ " والعائدُ محذوفٌ تقديره : بنيانه منهم . الثاني : أنَّهُ " لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُم " قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل . الثالث : أنه " لا تقُمْ فيهِ " قالهُ الكسائيُّ . قال ابن عطيَّة : " ويتجه بإضمارٍ ، إمَّا في أول الآية ، وإمَّا في آخرها ، بتقدير : لا تقمْ في مسجدهم " . الرابع : أنَّ الخبر محذوفٌ ، تقديره : يعذبون ، ونحوه ، قاله المهدويُّ . الوجه الثالث : أنَّه منصوبٌ على الاختصاص ، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو . وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم ، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من " آخرون " ؛ لأجل العاطف . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ } ما محلُّه من الإعراب ؟ قلتُ : محله النصب على الاختصاص ، كقوله تعالى : { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] . وقيل : هو مبتدأ ، وخبره محذوفٌ ، معناه : فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا ، كقوله : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } [ المائدة : 38 ] . يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ : فيما يُتْلى عليكم السارق ؛ فحذف الخبر ، وأبقى المبتدأ ، كهذه الآية . قال القرطبي : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً } معطوف ، أي : ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً ، عطف جملة على جملة . قوله : " ضِرَاراً " فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، أي : مُضَارَّةً لإخوانهم . الثاني : أنَّهُ مفعولٌ ثان لـ " اتَّخذوا " قاله أبُو البقاءِ . الثالث : أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل " اتخذوا " ، أي : اتخذوه مضارين لإخوانهم . ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي : يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً . ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ ، أي : ضراراً لإخوانهم ، وكفراً بالله . فصل قال ابنُ عباسٍ ، ومجاهدٌ ، وقتادةُ ، وعامة المفسِّرين : الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وديعة بن ثابت ، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب ، وحارثة بن عامرٍ ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة ، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ ، ونبتل بن الحارث ، وبجاد بن عثمان ، ورجل يقال له : بحزَجٌ ، بنوا هذا المسجد ضراراً ، يعني مضارة للمؤمنين ، والضرار : محاولة الضّر ، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق . و " كُفْراً " قال ابنُ عباسٍ : يريدُ به ضراراً للمؤمنين ، وكُفْراً بالنبي - عليه الصلاة والسلام - ، وما جاء به . قال ابنُ عباسٍ ، ومجاهد وقتادة وغيرهم : إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر ، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم ، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه . وقال غيرهم : اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - . " وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ " أي : يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا : نبني مسجداً فنُصلِّي فيه ؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده ، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة . وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة ، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يتجهَّزُ إلى تبوك ، فقالوا يا رسول الله : إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة ، والليلةِ المطيرةِ ، والليلة الشاتية ، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه ، وتدعو بالبركةِ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " إنِّي على جناح سفرٍ ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه " . فصل قال القرطبيُّ : " تفطَّن مالكٌ - رحمه الله - من هذه الآية وقال : لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين ، خلافاً لسائر العلماء . وروي عن الشَّافعي المنع ؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة ، وإبطالاً لهذه الحكمة ، وذريعة إلى أن نقول : من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة ، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم ، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم " . قوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } . الإرصاد : الانتظارُ ، قاله الزجاجُ : وقال ابنُ قتيبة : الانتظارُ مع العداوةِ . قالوا : والمرادُ به : أبو عامر الرَّاهبُ ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة ، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة ، وتنصَّر ولبس المسوح ، " فلمَّا قدم النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - المدينة قال له أبُو عامرٍ : ما هذا الذي جِئْتَ به ؟ قال : " جئت بالحنيفيّة دين إبراهيم " ، قال أبو عامرٍ : أنا عليها ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم " إنَّكَ لَسْتَ عليهَا " قال بلى ، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ " فقال أبُو عامرٍ ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " آمين " . وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد ، قال أبُو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم ؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلمَّا انهزمت هوازن يئس ، وخرج هارباً إلى الشَّام ، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح ، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم ، فآتي بجندٍ من الرُّوم ، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء ، فذلك قوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ التوبة : 107 ] وهو أبو عامر الفاسق ، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام . " قوله : " مِنْ قبلُ " فيه وجهان : أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره - : أنَّهُ متعلقٌ بقوله : " اتَّخَذُوا " ، أي : اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء . والثاني : أنه متعلقٌ بـ " حَاربَ " ، أي : حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد . قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } " ليَحْلفُنَّ " جوابُ قسم مقدر ، أي : والله ليحْلِفنَّ . وقوله " إنْ أردْنَا " جوابٌ لقوله : " ليَحْلِفُنَّ " فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله " إنْ أرَدْنَا " . و " إنْ " نافية ، ولذلك وقع بعدها " إلاَّ " . و " الحُسْنَى " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : إلاَّ الخصلة الحسنى ، أو إلاَّ الإرادة الحسنى . وقال الزمخشريُّ " مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى ، أو إلا الإرادة الحسنى ، وهي الصلاةُ " . قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله : " إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى " جعله مفعولاً ، وفي قوله : " أو إلاَّ الإرادة الحسنى " علةً ؛ فكأنه ضمَّن " أرادَ " معنى " قَصَدَ " ، أي : ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى . قال " وهذا وجهُ متكلف " وأرادوا بالفعلة الحسنى : الرفق بالمسلمين ، والتوسعة على أهل الضعف ، والعلة ، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله : إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - على أنَّهُم حلفُوا كاذبين . روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم ، فدعا بقميصه ليلبسه ، ويأتيهم ، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار ، وما همُّوا به ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ، ومعن بن عديّ ، وعامر بن السكن ، والوحشي قاتل حمزة ، وقال لهم : " انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ " فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالكٌ : أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي ، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل ، فأشعل فيه ناراً ، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد ، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ ، وتفرَّق عنه أهله ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف ، والنتن ، والقمامة ، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً . ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة ، فيؤمّهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة عين ! أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليّ ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه ، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم ، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن ، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله ، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء . قال عطاءٌ " لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه " . قوله : " لا تقم فيه أبداً " . قال ابن عباس " لا تُصلّ فيه " منع اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ . قال ابنُ جريجٍ : فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة ، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد ، وانهار في يوم الاثنين . ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي ، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم ، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى ، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني . فإن قيل : كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني . فالجواب : علة المنع وقعت بمجموع الأمرين ، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة . فصل قال القرطبي " قال علماؤنا : لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد ، ويجب هدمه ، والمنع من بنائه ، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً ، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ . وكذلك قالوا : لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة ، ويجب منع الثاني ، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه . وقال علماؤنا : كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه " . فصل قال النقاش " ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها ؛ لأنَّها بنيت على شر " . قال القرطبي " وهذا لا يلزمُ ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير ، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا ، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ . وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل ، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم " . فصل قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه ، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب ؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم ، فقال : لا والله ولا نعمة عين ! أليس بإمام مسجد الضرار ؟ فقال له مجمع : يا أمير المؤمنين ، لا تعجل عليَّ ، فوالله لقد صليتُ فيه ، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه ، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن ، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم ، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً ، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً ، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم ؛ فعذرهُ عمر ، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء " . فصل قال القرطبيُّ " قال علماؤنا : إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضّ الشارع على بنائه بقوله : " مَنْ بنَى للهِ مسجداً ، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ " يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره ؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم . كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً ، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير . والضَّابطُ فيه : أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع ، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله ، فأضرَّ ذلك بجاره ، أو غير جاره ، نظر إلى ذلك الفعل ، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين . مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن ، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم ، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة ؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها ، خلافاً للشافعي ، فإنَّ أصحابه قالوا : لو حفر في ملكه بئراً ، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منها ماء البئر الأولى جاز ؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه ؛ فلا يمنع ، ومثله عندهم : لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه ؛ لأنه تصرف في ملكه ، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول . ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه ، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب ؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه " . قوله : " … لمَسْجِدٌ … " فيه وجهان : أحدهما : أنَّها لامُ الابتداء . والثاني : أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره : والله لمسجدٌ أسِّسَ ، أي : بني أصله على التقوى . وعلى التقديرين فيكون " لمَسْجِدٌ " مبتدأ ، و " أسِّسَ " في محل رفع نعتاً له ، و " أحقُّ " خبره . والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف ، أي : أسِّسَ بنيانه ، و " مِنْ أوَّلِ " متعلقٌ به ، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ " مِنْ " تكون لابتداء الغاية في الزمان ؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله : [ الطويل ] @ 2845 - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2846 - تُخَيِّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجاربِ @@ وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف ، أي : من تأسيس أول يوم ، ومن طلوع الصُّبحِ ، ومن مجيء أزمان يوم . قال القرطبي : " مِنْ " عند النحويين مقابلة " مُنذ " ، فـ " منذ " في الزمان بمنزلة " من " في المكان ، أي : من تأسيس أوَّل الأيام ؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو " أسس " ؛ كقوله : [ الكامل ] @ 2847 - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ ؟ @@ أي من مرور حجج ومن مرور دهر ، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ " مِنْ " لا يجر بها الأزمان ، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ بـ " مِنْذُ " ، تقولُ : ما رأيته منذُ شهرٍ ، أو سنة . قال أبو البقاءِ " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله : { لِلَّهِ ٱلأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [ الروم : 4 ] ، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره " . قال شهابُ الدِّين : البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان ، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر ، والخلاف في هذه المسألة قوي ، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ . وقال ابنُ عطيَّة : " ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير ، وأن تكون " من " تجر لفظة " أول " ؛ لأنَّها بمعنى : البداءة ، كأنَّهُ قال : من مبتدأ الأيام ، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو " . وقوله : " أَحَقُّ " ليس للتفضيل ، بل بمعنى " حقيقٌ " ، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ . قال القرطبيُّ " أحقُّ " هو أفعل من الحق ، و " أفعل " لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشتركين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر ، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه ، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه ، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية ، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله ، والآخر حق باطناً وظاهراً ، ومثله قوله تعالى : { أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير ، وأنَّ مصيرها إلى خير ، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون . و " أنْ تقُوم " أي : بأن تقوم . والتاء لخطاب الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - . و " فِيهِ " متعلقٌ به . قوله : " فِيهِ رجالٌ " يجوزُ أن تكون " فيه " صفةً لمسجد و " رِجَالٌ " فاعلٌ ، وأن تكون حالاً من الهاء في " فِيهِ " ، و " رِجَالٌ " فاعلٌ به أيضاً ، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل ، والجارُّ قريبٌ من المفرد . ويجوزُ أن يكون " فيهِ " خبراً مقدَّماً ، و " رِجَالٌ " مبتدأ مؤخر . وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه : أحدها : الوصف . والثاني : الحالُ على ما تقدم . والثالث : الاستئناف . وقرأ عبد الله بن زيدٍ " فِيهِ " بكسر الهاء ، و " فِيهُ " الثانية بضمها ، وهو الأصل ، جمع بذلك بين اللغتين ، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد ، ورفع توهُّم أنَّ " رِجَالٌ " مرفوع بـ " تَقُوم " . وقوله " يُحِبُّون " صفة لـ " رِجَالٌ " ، و " أنْ " مفعول به . وقرأ طلحة بن مصرف ، والأعمش " يَطَّهَّرُوا " بالإدغام ، وعلي بنُ أبي طالب " المُتَطهِّرين " بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين . فصل معنى " أسس " أي : بُني أصله { عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } بُني ووضع أساسه { أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } مُصلياً . واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى ، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت ، وأبو سعيد الخدري : هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال : سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال : مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال : قُلتُ لهُ : كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى ؟ قال : قال أبِي : دخلتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ " يا رسُول الله ، أيُّ المَسْجدينِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى ؟ قال : فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال : " هُوَ مسجدُكُمْ هذا " لِمسجدِ المدينةِ . قال : فقُلتُ : أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره . وهذا قول سعيد بن المسيّب . وقال قوم : إنَّهُ مسجد قباء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال : كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً ، وكان عبدُ الله يفعله ، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ " . وقوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } أي : من الأحداث والجنابات والنجاسات . قال عطاءٌ : كانوا يستنجون بالماءِ ، ولا ينامون الليل على جنابة . روى أبو هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قال : كانوا يستنجون بالماءِ ؛ فنزلت فيهم هذه الآية ، { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } . وروي " أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقف على باب مسجد قباء وقال : " يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم ، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ ؟ " فقالوا : نتبع الأحجار بالماءِ ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } الآية . " قالوا : المرادُ منه : الطهارة بالماء بعد الحجر . وقيل : المرادُ منه : الطَّهارة من الذنوب والمعاصي . وقيل : محمول على الأمرين . فإن قيل : لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات ، ومجاز في البراءة عن المعاصي ، واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة ، والمجاز معاً لا يجوزُ . فالجوابُ : أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر ، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين ، فزال السُّؤال . قوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } . قرأ نافع ، وابن عامر " أسِّسَ " مبنياً للمفعول ، " بُنيانُه " بالرفع ، لقيامه مقام الفاعل . والباقون " أسَّسَ " مبنياً للفاعل ، " بُنيانَهُ " مفعول به ، والفاعل ضمير " مَنْ " وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول ، والثاني مبنياً للفاعل ، و " بُنْيَانهُ " مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم . وقرأ نصر بن علي ، ونصر بن عاصم " أسسُ بُنيانِهِ " . وقرأ أبُو حيوة " أساسُ بُنيانِهِ " جمع " أُسِّ " . وروي عن نصر بن عاصم أيضاً " أَسُّ " بهمزة مفتوحة وسين مضمومة . وقرىء " إسَاسُ " بالكسر ، وهي جموع أضيفت إلى " البُنيانِ " . وقرىء " أسَاسُ " بفتح الهمزة و " أسّ " بضم الهمزة وتشديد السين ، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان . ونقل صاحبُ اللوامح فيه " أسَسُ " بالتخفيف ورفع السين ، " بنيانِهِ " بالجر ، فـ " أسس " مصدر أسس الحائط ، يؤسسُه أسَساً ، وأسًّا . فهذه عشر قراءات ، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ . ويقالُ : كان ذلك على أس الدهر ، كقولهم : على وجه الدهر . ويقال : أسَّ ، مضعفاً : أي : جعل له أسَاساً ، وآسَسَ ، بزنة " فاعل " . و " البُنْيَان " فيه قولان : أحدهما : أنَّهُ مصدر ، كـ : الغُفْران ، والشُّكران ، وأطلق على المفعول كـ " الخَلْق " بمعنى المخلوق ، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ ، يقالُ : هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ ، أي : مضروبه ، ومنسوجه . والثاني : أنَّهُ جمعٌ ، وواحده " بُنْيَانة " ؛ قال الشاعرُ : @ 2848 - كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ @@ يعنون أنه اسم جنسٍ ، كـ : قمح وقمحة . قوله : " عَلَىٰ تَقْوَىٰ " يجوزُ فيه وجهان : أحدهما : أنه متعلقٌ بنفس " أسَّسَ " فهو مفعول في المعنى . والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في " أسَّسَ " أي : قاصداً بنيانه التقوى ، كذا قدَّره أبُو البقاءِ . وقرأ عيسى بن عمر " تَقْوًى " منونة . وحكى هذه القراءة سيبويه ، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ ألفها للتأنيث ، فلا وجهَ لتنوينها ، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق . قال ابنُ جني : قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق ، كـ " أرْطَى " . قوله : " خَيْرٌ " خبر المبتدأ . والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم . و " أمْ " متصلة ، و " مِنْ " الثانية عطف على " مِنْ " الأولى ، و " أسَّسَ بُنْيانَهُ " كالأولى ، قوله : " عَلَىٰ شَفَا جُرفٍ " كقوله : " عَلَىٰ تَقْوَىٰ " في وجهيه . والشَّفا : الشَّفير ، وشفا الشيء حرفه ، يقال : أشْفَى على كذا إذا دنا منه . وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران . وقرأ حمزة ، وابنُ عامرٍ ، وأبو بكر عن عاصم " جُرْفٍ " بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها . فقيل : لغتان . وقيل : السَّاكن فرعٌ على المضموم ، كـ : " عُنْق " في " عُنُق " و " طُنْب " في " طُنُب " . وقيل : العكس كـ : " عُسُر ويُسُر " . و " الجُرُف " البئر التي لم تُطْوَ . وقيل : هو الهُوَّةُ ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية ، قاله أبُو عبيدة . وقيل : هو المكان الذي يأكلهُ الماء ، فيجْرفه ، أي : يذهب به ، ورجُلٌ جراف ، أي : كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ ، قاله الراغبُ . قوله : " هَارٍ " نعت لـ : " جُرُفٍ " ، وفيه ثلاثة أقوال : أحدها - وهو المشهورُ - : أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه ، وذلك أنَّ أصله : هاورٌ ، أو هايرٌ بالواو والياء ؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا : هَارَ يَهُور فانهارَ ، وهَارَ يَهير ، وتهَوَّر البناءُ ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام ، وهي " الراء " على العين - وهي " الواو " أو " الياء " - فصار كـ : غازٍ ، ورامٍ ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما ، فوزنه بعد القلب : " فَالِع " ، ثم تزنُه بعد الحذف بـ " فَالٍ " . الثاني : أنه حذفت عينه اعتباطاً ، أي : لغير موجبٍ ، وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب على لامه ، فيقال : هذا هارٌ ، ورأيت هاراً ، ومررتُ بهارٍ ، ووزنه أيضاً " فال " . والثالث : أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف ، وأنَّ أصله " هَوِر " ، أو " هَيِر " بزنة " كَتِف " ، فتحرك حرف العلة ، وانفتح ما قبله ، فقُلِب ألفاً ، فصار مثل قولهم : كبشٌ صافٌ . أي : صَوِف ، ويومٌ راحٌ ، أي : روحٌ . وعلى هذا ، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله ، كما تقولُ : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررت ببابٍ . وهذا أعدل الوُجُوهِ ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف . ومعنى : " هَارٍ " أي : ساقط متداع منهال . قال الليثُ : الهورُ : مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ ، إذا انصدَعَ من خلفه ، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه ، وهو جرفٌ هارٍ أي : هائر ، فإذا سقط ؛ فقد انهارَ وتَهيَّر . ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو . قوله : " فَٱنْهَارَ " فاعله إمَّا ضميرُ البنيان ، والهاءُ في " به " على هذا ضمير المؤسس الباني أي : فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار ، وإمَّا ضمير الشَّفَا ، وإمَّا ضمير الجرف أي : فسقط الشَّفَا ، أو سقط الجرفُ ، والهاء في " بِهِ " للبنيان ، ويجوزُ أن يكون للباني المؤسس . والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف ؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً ، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انهيارهُ . والباءُ في " به " يجوز أن تكون المعدِّية ، وأن تكون التي للمصاحبة ، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة . وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا ؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ ؛ لأنَّها حال أي : فانهار مصاحباً له . فصل معنى الآية : أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير ، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء ، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم ؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم ، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم ، فالمعنى أنَّ أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه ، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء ، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم ؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال ، { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } . قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } . أي : ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم . و " بُنيَانهُم " يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله ، أي : لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم ، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني ، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف ، أي : بناء بنيانهم ؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً ، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي : لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة . وقوله : " الذي بَنَوا " تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة ، وإنَّما دبَّرُوا أموراً ، من قولهم : كم أبني وتهدمُ ، وعليه قوله : [ الطويل ] @ 2849 - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ ؟ @@ فصل في كونه سبباً للريبة وجوه : الأول : أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضِّرار ، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته . وثانيها : أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - لما أمر بتخريبه ، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداً ، فارتفع أمانهم عنه ، وعظم خوفهم منه ، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم ؟ وثالثها : أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد ، كما حبب العجل إلى قوم موسى ، فلمَّا أمر الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه ؟ قاله ابن عباس . وقال الكلبيُّ : " ريبة " أي : حسرة وندامة ، لأنهم ندموا على بنائه . وقال السُّدي : لا يزال هدم بنيانهم ريبة ، أي : حزازة وغيظاً في قلوبهم . قوله : " إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ " المستثنى منه محذوفٌ ، والتقدير : لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وحفص " تقطَّع " بفتح التَّاء ، والأصل تتقطع بتاءين ، فحذفت إحداهما . وعن ابن كثير " تَقْطع " بفتح الياء وتسكين القاف " قُلوبَهُم " بالنصب ، أي : تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل . وقرأ الباقون " تُقَطَّع " بضمِّها ، وهو مبني للمفعول ، مضارع " قطَّع " بالتشديد . وقرأ أبيّ " تَقْطَع " مخففاً من " قطع " . وقرأ الحسنُ ، ومجاهد وقتادة ، ويعقوب " إلى أن " بـ " إلى " الجارة . وأبو حيوة كذلك ، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى ، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ " تُقَطِّع " بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول ، " قُلُوبَهُم " نصباً على المفعول به ، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم كلَّ تمكُّن . وقيل : الفاعلُ ضمير " الرِّيبة " ، أي : إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله " ولو قُطِّعَتْ " وبها قرأ أصحابه ، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس . والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق . وقيل : معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم . وقيل : حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة . " وَٱللَّهُ عَلِيمٌ " بأحوالهم ، " حَكِيمٌ " في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم .