Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 111-116)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية . لمَّا شرح أحوال المنافقين ، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ . قيل : هذا تمثيلٌ كقوله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ : " لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً ، قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ . فقال : " أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا تمنعون منه أنفسكُم وأموالكُم " قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : " الجنَّة " قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ " ، فنزل : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } . قال الحسنُ ، ومجاهدٌ ، ومقاتل : " ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ " . قوله : " بِأَنَّ لَهُمُ " متعلقٌ بـ " اشْتَرى " ، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها ، وسمَّاها أبُو البقاءِ " باء " المقابلةِ ، كقولهم : " باء " العوض ، و " باء " الثمنية . وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش " بِالجنَّةِ " . قال أهلُ المعاني : لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة ؛ لأنه مالك الكل ، ولهذا قال الحسنُ : اشترى أنفساً هو خلقها ، وأموالاً هو رزقها ، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك ، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل ؛ فتذهب روحه ، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة ، فكان هذا استبدالاً وشراءً . قال الحسنُ : " والله بيعة رَابحةٌ ، وكفةٌ راجحةٌ ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة " . وفيه لطيفةٌ ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع ، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى ، والمشتري هو الله ، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة ؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه ؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ . فصل قال القرطبيُّ : " هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده ، وإن كان الكل للسَّيد ، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه ، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره ؛ لأنَّ ماله له ، وله انتزاعه " . فصل أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم ، أو مثل ما خرج عنهم في النفع ، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم ، وأموالهم في طاعته ، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك ، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض ، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء ، فمن العبد تسليم النفس والمال ، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء . فصل قال بعضُ العلماء : كما اشترى من المؤمنين البالغينَ المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم ، وأسقمهم ، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين ، فإنهم لا يكونُون عند شيءٍ أكثر صلاحاً ، وأقل فساداً منهم عند ألم الأطفالِ ، وما يحصلُ للوالدين من الثَّواب فيما ينالهم من الهم ، ثم إنَّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضاً إذا صارُوا إليه . قوله : " يُقَاتِلُون " يجوز أن يكون مستأنفاً ، ويجوز أن يكون حالاً . وقال الزمخشري : " يُقَاتلُون " فيه معنى الأمر ، كقوله : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } [ الصف : 11 ] . وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف ، لأنَّ الطَّلبَ لا يقع حالاً . وقد تقدَّم الخلاف في { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } في آل عمران قرأ حمزة والكسائيُّ : " فيُقْتلُونَ " بتقديم المفعول على الفاعل . وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول . قوله : " وَعْداً " منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ؛ لأنَّ معنى " اشْتَرَى " معنى : وعدهم بذلك ، فهو نظير : " هَذَا ابني حقّاً " . ويجوزُ أن يكُون مصدراً في موضع الحال وفيه ضعفٌ . و " حَقّاً " نعت له . و " عَلَيْهِ " حالٌ من " حَقّاً " ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ لو تأخَّر . قوله : " فِي ٱلتَّوْرَاةِ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ متعلقٌ بـ " اشْتَرَى " ، وعلى هذا فتكُونُ كل أمَّةٍ قد أمِرَت بالجهادِ ، ووعدتْ عليه الجنَّة . والثاني : أنَّهُ متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه صفةٌ للوعد ، أي : وعداً مذكوراً وكائناً في التَّوراة . وعلى هذا فيكون الوعد بالجنَّة لهذه الأمَّة مذكوراً في كتب الله المنزلةِ ، وقال الزمخشريُّ في أثناء الكلامِ : " لا يجُوزُ عليه قبيحٌ قطّ " قال أبُو حيَّان : " استعمل " قَطْ " في غير موضوعه ، لأنَّهُ أتَى به مع قوله " لا يجُوزُ عليه " ، و " قطّ " ظرفٌ ماضٍ ، فلا يعمل فيه إلاَّ الماضي " . قال شهابُ الدِّين " ليس المرادُ هنا زمناً بعينه " . ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ } أي : أنَّ نقض العهد كذبٌ ، ومكرٌ ، وخديعة وكل ذلك من القبائح ، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها ، فالغني عن كلِّ الحاجات أولى أن يكون مُنزهاً عنها . أي لا أحد أوفى بعهده من الله ، وهذا يتضمَّنُ وفاء الباري بالكل فأمَّا وعده فللجميع ، وأمَّا وعيده فمخصوصٌ ببعض المذنبين وببعض الذُّنُوب ، وفي بعض الأحوال . قوله : " فَٱسْتَبْشِرُواْ " فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ؛ لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم و " استفعل " هنا ليس للطلب ، بل بمعنى " أفعل " ، كـ " اسْتوْقَدَ " ، و " أوقد " والمعنى : أظهروا السُّرورَ بذلك ، والبشارة : إظهار السُّرور في البشرة . وقوله : { ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } توكيد ، كقوله : { ٱلَّذِي بَنَوْاْ } [ التوبة : 110 ] ، لينصَّ لهم على هذا البيع بعينه . قوله تعالى : { ٱلتَّائِبُونَ } الآية . لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم ، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات . وقال جماعةٌ : الآية الأولى مستقلة بنفسها ، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية . قوله : " ٱلتَّائِبُونَ " فيه خمسةُ أوجه : أحدها : أنَّهُ مبتدأ ، وخبره " ٱلْعَابِدُونَ " وما بعده أوصاف ، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك . الثاني : أنَّ الخبر قوله " ٱلآمِرُونَ " . الثالث : أنَّ الخبر محذوفٌ ، أي : التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة ، أي من لم يجاهد غير معاندٍ ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ ، قال الزجاجُ : وهو حسن ، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين ، كقوله : { وَكُـلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } [ النساء : 95 ] ويؤيده قوله : { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ . وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة ، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم التائبون ، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى : { مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ ، وابن مسعود ، والأعمش " التَّائبينَ " بالياءِ ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً ؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر ، وقد صرَّح الزمخشري ، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين . الخامس : أنَّ " التَّائبُونَ " بدلٌ من الضمير المتصل في " يُقاتِلُونَ " . ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل : التَّائبُون من كذا لله ، ولا العابدون لله لفهم ذلك ، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي ، مبالغةً في ذلك . ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف ، لمناسبتها لبعضها ، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي ، لتبايُن ما بينهما ، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ ، أو كفٍّ . وكذا " الحَافِظُونَ " عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ ، وهو ظاهرٌ بالتأمل ، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً ، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها . وقيل : إنَّما دخلت الواوُ ؛ لأنها " واوُ " الثمانية ، كقولهم : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو . قال بعض النَّحويين : هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ ، يقولون إذا عدُّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة . قال القرطبيُّ : " وهي لغة قريش " وقال أبو البقاءِ : " إنَّما دخلت " الواو " في الصفة الثامنة ، إيذاناً بأنَّ السبعة عندهم عدد تام ، ولذلك قالوا : سبع في ثمانية ، أي : سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها ، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق " . وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً ، لا تحقيقَ له . فصل في تفسير هذه الصفات قوله " ٱلتَّائِبُونَ " قال ابنُ عبَّاسٍ : التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ : من الشِّرك والنفاق . وقيل : التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ : " الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية ، لجمعه بين الأمرين " وقال الأصوليُّون : التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل ، فالتخصيص تحكم . و " العَابِدُونَ " قال ابنُ عباسٍ " الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم " وقال غيره : المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ " هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء " وقال قتادةُ " قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم " ٱلْحَامِدُونَ " الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء . قال عليه الصلاة والسلام : " أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ " . " ٱلسَّائِحُونَ " قال ابنُ مسعودٍ : الصائمون . وقال ابن عباس " ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام " وقال عليه الصلاة والسلام : " سياحةُ أمتي الصيامُ " . " وعن الحسن " أنَّ هذا صوم الفرض " وقيل : هم الذين يديمون الصيام . قال سفيانُ بنُ عيينة " إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً ، لتركه اللذات كلها ، من المطعم والمشرب والنكاح " وقال عطاءٌ : " السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله " وهو قول مسلم . وقال عكرمةُ : " هم طلبة العلم ، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ " وقوله { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ } يعني : المُصلِّين . وقوله { ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ } بالإيمان { وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } عن الشّرك . وقيل : المعروفُ : السنّةُ ، والمنكر : البدعة . قوله : { وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } القائمون بأوامر الله . وقال الحسنُ " أهلُ الوفاءِ ببيعة الله " . قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } الآيات . لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين ، والمنافقين من جميع الوجوه ، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم ، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم ، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم . قال ابنُ عباسٍ : لمَّا فتح رسُول الله صلى الله عليه وسلم مكَّة ، أتى قبر أمه آمنة ، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها ، فنزلت { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } وعن أبي هريرة قال : " زَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ ، فقال : " اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها ؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي ، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ " . قال قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرنَّ لأبي ، كما استغفر إبراهيم لأبيه " فأنزل الله هذه الآية . وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال : " لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال : يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ " فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة : أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ : على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم " لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ " " فأنزل الله هذه الآية ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وفي رواية قال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ " قُلْ : لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ " ، قال : لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ ، يقُولُونَ : إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ ؛ " فنزل قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] الآية . قال الواحديُّ : " وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً ، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام " . قال ابنُ الخطيب " وليس هذا بمُسْتَبعدٍ ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال : إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، قال : فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان ؟ فقال : أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان ؟ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " . وفي رواية : فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ } إلى قوله { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] . فصل قال القرطبيُّ : " تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم ؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين ؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز ، فإن قيل : صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه : " اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ " فكيف الجمع بين الآية والخبر ؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء ، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال : كأنِّي أنظرُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ " ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ " وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله " . قال القرطبيُّ : " لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه . وجواب ثان : أنَّ المراد بالاستغفار في الآية : الصّلاة . قال عطاءُ بن أبي رباح : الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة . جواب ثالث : أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز ؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم ، ويمكن تألفهم بالقول الجميل ، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات " . قوله : { وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ } كقوله : " أعطوا السائل ولو على فرس " وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة . وقوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } [ التوبة : 113 ] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم . قوله : { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } . في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ : أحدها : أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه . وثانيها : أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات ، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عليه الصلاة والسلام - ، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم ؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل ، وأقوى . وثالثها : أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي : قليل الغضب ، وبكونه أواهاً ، أي : كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس ، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً ؛ فكأنه قيل : إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره ، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر ، فمنع غيره أولى . قوله : " وَعَدَهَآ إِيَّاهُ " . اختلف في الضمير المرفوعِ ، والمنصوبِ المنفصل ، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على " إبراهيم " ، والمنصُوب على " أبيه " ، يعني : أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له ، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ ، وحماد الرَّاوية . وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ " وعدهَا أباهُ " بالباءِ الموحَّدةِ . وقيل : المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب لـ " إبراهيم " . وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ ؛ فذلك طمع في إيمانه . فصل دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه ، لقوله : { وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ } [ الشعراء : 86 ] وقوله : { رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ } [ إبراهيم : 41 ] وقال : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ } [ مريم : 47 ] وقال أيضاً { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة : 4 ] ، والاستغفار للكافر لا يجوز . فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } والمعنى : أن أباه وعده أن يؤمن ؛ فلذا استغفر لهُ ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله ، تبرَّأ منه . وقيل : إنَّ الواعدَ " إبراهيم " وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران : الأول : أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام ، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب ، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة . والثاني : أنَّ من النَّاس من حمل قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق ، قالوا : ويدل عليه قوله : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } [ التوبة : 84 ] . فصل اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ . فقيل : بالإصْرارِ والموت وقيل : بالإصْرارِ وحده . وقيل : بالوحي . فكأنه تعالى يقولُ : لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه ؛ فكونوا كذلك ، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله : { ٱتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] . قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } . الأوَّاهُ : الكثيرُ التأوه ، وهو من يقولُ : أوَّاه ، وقيل : من يقولُ : أوَّهْ ، وهو أنْسَبُ ؛ لأنَّ " أوه " بمعنى : أتوجع ، فـ " الأوَّاهُ " : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك ، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً ؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً ، فقال : يقال : آهَ يَئُوهُ ، كـ " قَامَ يقُومُ ، " أوْهاً " . وأنكر النحويون هذا القول على قطرب ، وقالوا : لا يقال من " أوَّهْ " بمعنى : أتوَجَّعُ ، فعلٌ ثلاثي ، إنما يقال : أوَّه تأويهاً ، وتأوَّه تأوهاً ؛ قال الراجز : [ الرجز ] @ 2850 - فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ @@ وقال المثقبُ العَبْدِيُّ : [ الوافر ] @ 2851 - إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ @@ وقال الزمخشريُّ : " أوَّاه : فعَّال ، مِنْ أوَّهْ ، كـ : " لئّالٍ " من اللُّؤلؤ ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه " . قال أبُو حيان " وتشبيه " أوَّاه " مِنْ " أوَّهْ " كـ " لَئّال " من اللؤلؤ ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ مادة " أوَّهْ " موجودةٌ في صورة " أوَّاه " ، ومادة " لؤلؤ " مفقودةٌ في " لَئّال " ؛ لاختلاف التركيب إذ " لَئّال " ثلاثي ، و " لؤلؤ " رباعيّ ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية " . قال شهابُ الدِّين : " لَئّال " ، و " لؤلؤ " كلاهما من الرُّباعي المكرر ، أي : إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا ، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في " لَئّال " فأدغمت أولاهما في الأخرى ، وفُرق بينهما في " لؤلؤ " وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام : " أوْه عن الرِّبا " كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء ، وربَّما قلبُوا الواو ألفاً فقالوا : آهِ من كذا ، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا " أوّهْ " وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا : " أوّ " وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول " أوَّهْ " . وقال الجوهريُّ : بعضهم يقول " آوَّه " بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية ، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا " أوَّتَاهُ " بمدٍّ وبغير مدّ . فصل قال عليه الصلاة والسلام : " الأوَّاه : الخاشع المُتضرِّع " وعن عمر : " أنَّهُ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوَّاه ، فقال : الدَّعَّاءُ " ويروى " أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بما غيَّر لونه ؛ فأنكر عمر ، فقال عليه الصلاة والسلام : دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ " فقيل يا رسُول الله ، وما الأواهةُ ؟ قال : " الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ " . وقيل : معنى كون إبراهيم أوَّاهاً ، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً ، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ . وعن عبَّاسٍ : الأوَّاه ، المؤمن التَّواب . وقال عطاءٌ وعكرمةُ : هو الموقن . وقال مجاهدٌ والنخعيُّ : هو الفقيه . وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب : هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة . وقال أبُو ذرٍّ : هو المتأوه ؛ لأنه كان يقول " آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ " . و " الحَلِيمُ " معلوم . وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا ؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف ، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده ، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ ، فأنتم بهذا المعنى أولى . قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً } الآية . لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين ، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية ، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين . وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين ، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم ؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ . فصل معنى الآية : ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين { حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } . قال مجاهدٌ : " بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة " . وقال الضحاك : " ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ " . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : هذا في المنسوخ ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ، ولا علمَ لهم بذلك ، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة ؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ ، فقالوا يا رسول الله : قد كنت على دينٍ ونحن على غيره ، فنحن ضلال ؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم } الناسخ ، وقيل : المعنى : أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي : صرفه ومنعه من التوجّه إليه . وقالت المعتزلة : المراد من هذا الإضلال ، الحكم عليهم بالضلال ؛ واحتجُّوا بقول الكميت : [ الطويل ] @ 2852 - وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم … @@ قال ابنُ الأنباري " وهذا التَّأويلُ فاسدٌ ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا : ضلل يضلل ، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ ؛ لأنه يلزم من قولنا : أكفر في الحُكْم صحة قولنا : أضَلّ . وليس كل موضع صح فيه " فعل " صح فيه " أفعل " . فإنَّه يجوزُ أن يقال " كسر " ، و " قتل " ، ولا يجوزُ " أكْسَرَ " ، و " أقْتَلَ " ؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع " . قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } الآية . فيها فوائد : أحدها : أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض ، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم . وثانيها : أنَّ المسلمين قالوا : لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار ؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا ، وأولادنا ، وإخواننا ، فكأنَّهُ قيل : إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم ، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم ؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم . وثالثها : أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال : وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي ، لكوني إلهكم ، ولكونكم عبيداً لي .