Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 25-27)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } الآية . لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء ، والإخوان ، والعشيرة ، وعن الأموال ، والتجارات ، والمساكن ، رعاية لمصالح الدِّين ، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس ، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين ، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه . وضرب لهذا مثلاً ، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة حنين ، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صارُوا منهزمين ، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا ، فاته الدِّين والدنيا ، ومتى أطاع الله ، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا ، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ ، لأجل مصلحة الدِّين ، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه . قال الواحديُّ : " النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة " , " المواطن " : جمع " مَوْطِن " بكسر العين ، وكذا اسم مصدره ، وزمانه ، لاعتلال فائه كـ " المَوْعد " ، قال : [ الطويل ] @ 2773 - وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي @@ و " حُنَيْن " : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف ، فلذلك صرفه ، وبعضهم جعله اسماً للبقعة ، فمنعه في قوله : [ الكامل ] @ 2774 - نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ @@ وهذا كما قال الآخرُ في " حراء " : اسم الجبل المعروف ، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله : [ الوافر ] @ 2775 - ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا @@ فصل المرادُ بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنها ثمانون موطناً ، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له ، ثم قال " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " أي : واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم ، و " حنين " واد بين مكة والطائف . وقيل : إلى جنب ذي المجاز . قال الرواةُ : لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة ، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان ، خرج متوجهاً إلى حنين ، لقتال هوازن وثقيف ، في اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف من المهاجرين ، وألفان من الطلقاءِ . وقال عطاءٌ : عن ابن عباس " كانوا ستة عشر ألفاً " . وقال الكلبيُّ " كانوا عشرة آلاف " . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، وعلى هوازن : مالكُ بن عوف النضري ، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان ، قال رجلٌ من الأنصار يقال له : سلمة بنُ سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن قلَّةٍ ، وهو المراد من قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل ، وفي رواية : لم يرض الله قوله ، ووكلُوا إلى أنفسهم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري ، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا ، وانكشف المسلمون . قال قتادةُ : وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ . قوله : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " فيه أوجه : أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله : " فِي مَوَاطِنَ " عطف ظرف الزمان من غير واسطة " في " على ظرف المكان المجرور بها ، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان ، أو العكس ، تقول : سرت أمامك ويوم الجمعة ، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله . الثاني : زعم ابنُ عطية : أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ " مَواطِنَ " بتقدير : " وفِي يَوْمِ " ، فحذف حرف الخفض ، وهذا لا حاجة إليه . الثالث : قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو " يَوْمَ حُنينٍ " على " مَواطِنَ " ؟ . قلت : معناه : وموطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين " . الرابع : أن يُراد بـ " المواطِن " : الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان . قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه - : " ويجوزُ أن يُراد بـ " المواطن " : الوقت ، كـ : مقتل الحسين ، على أنَّ الواجب أن يكون : " يَوْمَ حُنينٍ " منصوباً بفعل مضمر ، لا بهذا الظَّاهر ، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله : " إِذْ أَعجَبَتْكُمْ " بدلٌ من " يَوْمَ حُنَينٍ " ، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر ، لم يصحَّ ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به " . قال شهابُ الدِّين : " لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين ، وعلى تأويل " المواطن " بالوقت ، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر ؟ وأمَّا قوله : " على أنَّ الواجب أن يكون " إلى آخره ؛ كلامٌ حسنٌ ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان ، فإذا جعلنا " إذْ " بدلاً من " يَوْم " كان معمولاً له ؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه ؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة ، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة ، إلاَّ أنَّه قد ينقدح ، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن ، حتَّى يلزم ما قاله " . ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ : الجميع ، كما يُراد بالقلة العدمُ . قوله : " بِمَا رَحُبَتْ " " ما " مصدريةٌ ، أي : رَحْبُها وسعتها . وقرأ زيد بن علي في الموضعين " رَحْبَت " بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يسكنون عين " فَعُل " فيقولون : في " شَرُف " " شَرْف " . و " الرُّحْب " بالضمِّ : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع ، يقال : رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةً ، وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : رَحُبَتكم الدار " فعلى التضمين ، لأنه بمعنى " وسعتكم " . فصل قوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، أي : فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم . والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم ، وإنما يغلبون بنصر الله ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، ثم قال : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع رحبها ، و " ما " ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم . قال البراء بن عازب : كانت " هوازن " رماة ، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث . قال [ البراء ] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول : " " أنَا النبيُّ لا كذِبْ ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب " وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار ، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِي : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرةِ ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً ، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحَصَى ، فرماهم بها ، وقال : " شَاهتِ الوُجوهُ " فما زال أمرهم مدبراً ، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنَزلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } . " والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ ، ويوجب الأمنة ، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك ، وإذا أمن ؛ سكن وثبت ؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن . ثم قال تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة ، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة ، كما هو في قصة بدر ، فقال سعيد بن جبير : " أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة " ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر . وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم ؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا ، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر ، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين . ثم قال تعالى : { وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم ، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى ؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر ، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه . قوله : { وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ } [ النور : 2 ] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه ، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي ؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية . قوله { ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } أي : أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم ، بأن يزيل عن قلبهم الكفر ، ويخلق فيه الإسلام ، وقال القاضي : معناهُ : أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى ، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم " وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ قوله : " ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ " ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التوبة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى ، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله { فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] ثم قال : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ } أي : لمن تاب { رَّحِيمٌ } لِمَنْ آمن وعمل صالحاً .