Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 41-43)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } الآية . لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } نصبهما على الحال من فاعل " انفرُوا " . قال الحسنُ ، والضحاكُ ، ومجاهد ، وقتادة وعكرمة : " شُباناً وشُيوخاً " . وعن ابن عباسٍ : نشاطاً وغير نشاط . وقال عطيةُ العوفي : ركباناً ومشاةً . وقال أبو صالحٍ : " خفافاً من المال ، أي : فقراء و " ثقالاً " أي : أغنياء " . وقال ابن زيد " الثقيل : الذي له الضيعة ، والخفيف : الذي لا ضيعة له " . وقيل : " خفافاً " من السلاح أي : مقلين منه ، و " ثِقالاً " مستكثرين منه . وقال مرة الهمداني : صحاحاً ومراضاً . وقال يمان بن رباب " عزاباً ومتأهلين " ، وقيل غير ذلك . والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه ؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي ؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات ، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أعَلَيَّ أنَّ أنفر ؟ قال : " ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ " فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ، ووقف بين يديه ؛ فنزل قوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } [ النور : 61 ] . وقال مجاهدٌ : " إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول ، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين ، ويقول قال الله تعالى : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً " . وعن صفوان بن عمرو قال : كنت والياً على حمص ، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه . وعن الزهري : خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له : إنَّك عليل صاحب ضرر ، فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع . وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور ، فقال : أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] والقائلون بهذا القول يقولون : إنَّ هذه الآية نسخت بقوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ } [ النور : 61 ] وبقوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ } [ التوبة : 91 ] وقال عطاء الخراساني نسخت بقوله { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] . ولقائل أن يقول : اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك ، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً ، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان ، بل من فروض الكفايات ، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج ، لزمه خفافاً وثقالاً ، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير . وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ . وأيضاً فقوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] دليل على أنَّ قوله : { ٱنْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً ، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف ، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف ، فدلَّ على عدم النسخ فيها . قوله : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . فيه قولان : الأول : أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس ، ومن لم يكن له ذلك ، لم يجب عليه الجهاد . والثاني : أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي ، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه ؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء . ثم قال : { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . فإن قيل : كيف يصح أن يقال : الجهادُ خير من القعُودِ عنه ، ولا خير في القعود ؟ فالجوابُ : من وجهين : الأول : أنَّ لفظ " خير " يستعمل في شيئين : أحدهما : بمعنى : هذا خير من الآخر . والثاني : أنه خير في نفسه ، كقوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] . وقوله : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وعلى هذا سقط السُّؤال . والثاني : سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره ، إلا أن التقدير : أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها ، ولذلك قال تعالى : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } . قوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً } الآية . لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ ، وأمرهم بالنَّفير ، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً } اسم " كان " ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق ، أي : لو كان ما دعوتَهم إليه . والعرض : ما عرض لك من منافع الدُّنيا ، والمراد هنا : غنيمة قريبة المتناول ، { وَسَفَراً قَاصِداً } أي : سَهْلاً قريباً ههنا . " لاَّتَّبَعُوكَ " لخرجوا معك . ومثل بالقاصد ، لأنَّ المتوسط ، بين الإفراد والتفريط ، يقال له : مُقتصدٌ . قال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] ومعنى القاصد : ذو قصد ، كقولهم : لابنٌ ، وتامرٌ ، ورابحٌ { وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ } . قرأ عيسى بن عمر ، والأعرج " بَعِدَت " بكسر العين . وقرأ عيسى " الشِّقَّة " بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ : هما لغة تميم . والشُّقَّة : الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها ، اشتقاقاً من المشقَّة . وقال الليثُ ، وابن فارسٍ : هي الأرضُ البعيدة المسير ، اشتقاقاً من الشِّق ، أو من المشقَّة ، والمعنى : بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك . قوله : { وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ } الجارُّ متعلقٌ بـ " سَيَحْلِفُونَ " . وقال الزمخشريُّ " بِاللهِ " متعلقٌ بـ " سَيحْلفُونَ " ، أو هو من جملة كلامهم ، والقولُ مرادٌ في الوجهين ، أي : سَيحْلِفُون ، يعني : المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون : باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون : لو اسْتَطعْنَا . وقوله : " لَخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسم ، و " لَوْ " جميعاً . قال أبو حيان : قوله : " لخَرجْنَا " سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، و " لو " جميعاً " ؛ ليس بجيد ، بل للنحويين في هذا مذهبان : أحدهما : أنَّ " لَخَرجْنَا " جوابُ القسم وجوابُ " لَوْ " محذوفٌ ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط ، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط ، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ . والآخر : أنَّ " لخَرجْنَا " جوابُ " لَوْ " و " لَوْ " وجوابها جواب القسم ، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ . أمَّا أنَّ " لخَرَجْنَا " سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك ، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب " لو " ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ ، وجواب " لو " . وقرأ الأعمشُ ، وزيدُ بنُ عليٍّ " لوُ استطَعْنَا " بضم الواو ، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل ، وشبَّها واو " لَوْ " بواو الضَّمير ، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو " لَوْ " حيث كسرُوها ، نحو : { اشْتَرَواْ ٱلضَّلاَلَةَ } [ البقرة : 16 ] ، لالتقاء الساكنين . وقرأ الحسنُ : { ٱشْتَرَوَاْ ٱلضَّلاَلَةَ } ، و { لَوِ ٱسْتَطَعْنَا } بفتح الواو تخفيفاً . ولو قلت : " وأنا قائمٌ " حالاً من ضمير " ليفعلنَّ " لم يجز ، وكذا عكسه ، نحو : حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم ، تريد : قائماً ، لم يجز . وأمَّا قوله : " وجاء به على لفظ الغائب ؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم " فمغالطةٌ ، ليس مخبراً عنهم بقوله : " لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا " ، بل هو حاكٍ لفظ قولهم . ثمَّ قال : ألا ترى لو قيل : لو استطاعوا لخرجوا ، لكان سديداً … إلى آخره . كلامٌ صحيحٌ ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم ، بل حكايةٌ ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله ، لاشتراكهما في العامل ، لو قلت : قال زيدٌ : خرجت يضربُ خالداً ، تريد : اضرب خالداً ، لم يجز . ولو قلت : قالت هندٌ : خرج زيد أضرب خالداً ، تريد : خرج زيد ضاربًا خالداً ، لم يَجُزْ ، انتهى . الرابعُ : أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ ، أخبر اللهُ عنهم بذلك . فصل معنى الآية : أنَّه لو كانت المنافع قريبة ، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع ، ولكن طال السفرُ ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة ، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم ، فلهذا تخلَّفُوا ، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم : { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف ، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف ، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق ، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام " اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ " ثم قال : { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج ، فكانوا كاذبين في أيمانهم . فصل قالوا : الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون ، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل ، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب ، فكان معجزاً . قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } الآية . لمَّا بيَّن تعالى بقوله : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو ، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا ؟ فلمَّا قال بعده : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } دلَّ هذا ، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه . قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } " لِمَ " ، و " لَهُمْ " كلاهما متعلقٌ بـ " أذِنْتَ " ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف ؛ فالأولى للتعليل ، والثانية للتبليغ . وحذفت ألفُ " ما " الاستفهامية لانجرارها ، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام ، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ ، يجوزُ أن يكون القُعود ، أي : لِمَ أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام . ويجوزُ أن يكون الخروج ، أي : لِمَ أذنت لهم في الخروج ، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل ، وغيره ، يدلُّ عليه : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] . قوله : " حتَّىٰ يتبيَّن " يجوزُ في " حتى " أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ ، إمَّا بمعنى " إلى " ، وإمَّا بمعنى اللام ، و " أنْ " مضمرةٌ بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوفٍ . قال أبُو البقاءِ : " تقديرهُ : هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ ، أو ليتبيَّن ، وقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } يدُلُّ على المحذوف ، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق " حتَّى " بـ " أذِنْتَ " لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التَّبيين ، وذلك لا يُعاتبُ عليه " وقال الحوفيُّ : " حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيَّن له العُذْر " . وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ . فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسلام تحت قوله تعالى : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم ، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمَّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ ، وإلاَّ امتنع أن يقول له : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنَّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } [ المائدة : 44 - 47 ] الآيات . وذلك باطل بصريح القول . فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلاَةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوَاتِ } [ مريم : 59 ] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد . فإن قيل : الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ؟ فالجوابُ : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً ، لقوله تعالى : { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } [ التوبة : 43 ] والحكم الممدود إلى غاية بـ " حتّى " يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا . فإن قالوا : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي ؟ . فالجواب : ما ذكرتموه محتمل ؛ إلاَّ أنه على تقديركم ، يصير تكليفه ، أن لا يحكم ألبتة ، حتى ينزل الوحي ، فلمَّا ترك ذلك ، كان كبيرة ، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه ، لقوله : " ومن اجتهد فأخطأ فله أجر " فكان حمل الكلامِ عليه أولى . فصل دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت ، وعدم العجلة ، والتَّأنِّي ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه . فصل قال قتادةُ : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال : { فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 62 ] . فصل قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا ؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ ؛ فأذن له ، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ ؛ فأذن له ، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً ، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين ، وكانوا يثيرون الفتنَ ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة ، قال القاضي " هذا بعيدٌ ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين ، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم " .