Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 44-48)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الآية . أي : لا يستأذنوك في التخلف { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } . قوله : " أَن يُجَاهِدُواْ " فيه وجهان : أظهرهما : أنَّهُ متعلقُ " الاستئذان " ، أي : لا يستأذنوك في الجهادِ ، بل يمضُون فيه غير مترددين . والثاني : أن متعلق " الاستئذان " محذوف و " أن يُجاهدُوا " مفعولٌ من أجله ، تقديره : لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا ، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه . وقال بعضهم : لا بدّ في الكلام من إضمار آخر ؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز ، فلا بدَّ من إضمار ، والتقديرُ : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله : { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية ، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود . قوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } الآية . بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر ، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه ، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه ، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء ، إنَّما كان بسبب الشك والريب ، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله : { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 4 ] ثم قال : { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : متحيرين . قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } . قرأ العامة " عُدَّة " بضمِّ العين وتاء التأنيث ، وهي الزَّادُ والراحلةُ ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ . وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان ، وابنه معاوية " عُدَّهُ " كذلك ، إلاَّ أنَّهُ جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب ، يعود على " الخُرُوجِ " . واختلف في تخريجها ، فقيل : أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث ، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ ، كالتَّنوين ، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى : { وَإِقَامَ ٱلصَّلاَة } [ الأنبياء : 73 ] . ومنه قول زهير : [ البسيط ] @ 2785 - إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا @@ يريد : عدة الأمْرِ . وقال صاحبُ اللَّوامح " لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء ، فأسقطها ، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء ، ولا تقديرها ، هو " البئرُ الذي يخرج في الوجه " . وقال أبو حاتم : " هو جمع " عُدَّة " ، كـ : " بُرّ " جمع " بُرّة " ، و " دُرّ " جمع " دُرَّة " والوجهُ فيه " عُدَد " ولكن لا يوافق خطَّ المصحف " . وقرأ زر بن حبيش ، وعاصم في رواية أبان " عِدَّهُ " بكسر العين ، مضافة إلى هاء الكناية . قال ابن عطيَّة : هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ ، كـ " الذَّبْح " ، و " القِتْل " . وقُرىء أيضاً " عِدَّة " بكسر العين ، وتاء التأنيث ، والمرادُ : عدة من الزَّاد والسلاح ، مشتقاً من " العَدَدِ " . قوله : { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ، فلذلك قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف موقعُ حرفِ الاستدراك ؟ قلتُ : لمَّا كان قوله : { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ } معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو . قيل : { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } كأنه قيل : ما خرجوا ، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم ، : ـ كـ " ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ " . انتهى . يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد " لكن " موافقٌ لما قبلها ، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين ، أو نقيضين ، أو خلافين ، على خلاف في هذا الأخير ، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور . قال أبُو حيان " وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني : ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ ، ولكن أساء - ، لأنَّ المثال واقعٌ فيه " لكن " بين ضِدَّيْن ، والآيةُ واقعٌ فيها " لكن " بين متفقين من جهة المعنى " . قال شهابُ الدِّين " مُرادُهم بالنقيضين : النفيُ والإثبات لفظاً ، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً " . والانبعاثُ : الانطلاقُ ، يقال : بعثتُ البعير فانبعث ، وبعثته لكذا فانبعث ، أي : نفذ فيه والتَّثْبِيطُ : التَّعْويق ، يقالُ : ثَبَّطْتُ زيداً ، أي : عُقْتُه عمَّا يريده ، من قولهم : ناقة ثَبِطَة أي : بطيئة السير ، والمراد بقوله : " اقْعُدُوا " : التَّخْلية ، وهو كنايةٌ عن تباطئهم ، وأنَّهم تشبهوا بالنساء ، والصبيان ، والزَّمْنَى ، وذوي الأعذار ، وليس المرادُ قعوداً ؛ كقوله : [ البسيط ] @ 2786 - دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي @@ والمعنى : أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عليه الصلاة والسلام - ، فصرفهم عنه . فإن قيل : خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة ، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة ، فإن كان مفسدة ، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود ؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى : إنه كره انبعاثهم وخروجهم ؟ والجوابُ : أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة ؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ، بقي أن يقال : فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا ، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقولُ : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام ، قد أذن لهم بالقُعُود ، بل يحتمل أن يقال : إنهم استأذنوه في الخروج معه ، فأذن لهم ، وعلى هذا يسقط السؤال . قال أبو مسلم " ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً ؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه " ويؤكد ذلك قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] وقوله تعالى : { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } [ الفتح : 15 ] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم . والجوابُ على طريقة غيره ، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] يوجب أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقولُ : ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة ، وبيانه من وجوه : الأول : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل ، ولهذا قال تعالى { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَاذِبِينَ } [ التوبة : 43 ] . والثاني : أن التقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود ، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ، ولم يغتَرُّوا بقولهم ، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً ، وفاتت تلك المصالح . والثالث : أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا ، فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أي : لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم . الرابع : أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام ، قالوا : إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز ؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ ، وكان الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص ، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك . ثم قال تعالى : { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَاعِدِينَ } . واختلفوا في تأويل هذا القول ، فقيل : هو الشيطان على طريق الوسوسة ، وقيل : قاله بعضهم لبعضٍ . وقيل : قاله الرسُول - عليه الصلاة والسلام - ، لمَّا أذن لهم في التخلف ، فعاتبه الله . وقيل : القائل هو الله تعالى ؛ لأنه كره خروجهم ؛ لأجل الإفساد ، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص . ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي : في جيشكم ، وفي جمعكم . وقيل : " فِي " بمعنى " مع " أي : معكم . قوله : " إِلاَّ خَبَالاً " جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً ، وهو مفرَّغٌ ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين . قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام ، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً ، فإنَّ " الخبال " بعض أعمِّ العام ، كأنه قيل : " ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً " وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً ، والمعنى : ما زادوكم قوةً ولا شدةً ، ولكنْ خبالاً . وهذا يجيءُ على قول من قال : إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبال ، كذا قال أبو حيان . وفيه نظرٌ ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً ، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده ؟ . وتقدم تفسير " الخبال " في آل عمران . قال الكلبيُّ : إلاَّ شراً وقال يمان : إلاَّ مكراً ، وقيل : إلاَّ غيّاً ، وقال الضحاك : إلاَّ غَدْراً . وقرأ ابن أبي عبلة : " ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً " ، أي : ما زادكم خروجهم . قوله : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } . الإيضاعُ : الإسراعُ ، يقال : أوضع البعيرُ ، أي : أسرعَ في سيرهِ ؛ قال امرؤ القيس : [ الوافر ] @ 2787 - أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ غَيْبٍ ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ @@ وقال آخر : [ منهوك الرجز ] @ 2788 - يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ أخُبُّ فيها وأضَعْ @@ ومفعول : " أوْضَعُوا " محذوف ، أي : أوضعوا ركائبهم ؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي . قال الواحديُّ " قال أكثر أهل اللُّغةِ : إن الإيضاع حمل البعير على العدو ، ولا يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً . يقال : وضع البعيرُ : إذا عدا ، وأوضعه الراكب : إذا حمله عليه " . وقال الفرَّاءُ : " العرب تقول : وضعتْ النَّاقةُ ، وأوضع الراكبُ ، وربَّما قالوا للرَّاكب : وضَعَ " . وقال الأخفشُ وأبو عبيد : يجوزُ أن يقال : أوضع الرَّجُلُ : إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته . روى أبو عبيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم " أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر " . قال الواحديُّ " والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد " والمراد من الآية : السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة . و " الخِلال " جمع " خَلَل " ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين . ومنه قوله : { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ النور : 43 ] ، وقرىء " مِنْ خلله " وهي مخارج صب القطر . ويستعار في المعاني فيقال : في هذا الأمْر خلل . وقرأ مجاهدٌ ، ومحمد بن زيدٍ " ولأوْفَضُوا " ، وهو الإسراع أيضاً ؛ من قوله تعالى : { إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] . وقرأ ابنُ الزبير " ولأرْفَضُوا " بالفراء والفاء والضاد المعجمة ، من : رفض ، أي : أسرع أيضاً ؛ قال حسَّان : [ الكامل ] @ 2789 - بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ @@ وقال : [ الكامل ] @ 2790 - … والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ @@ يقال : رَفَضَ في مشيه رفْضاً ، ورَفَضاناً . فإن قيل : كتب في المصحفِ " ولاَ أوْضَعُوا " بزيادة ألف . أجاب الزمخشريُّ " أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي ، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن ، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً ، وفتحتها ألفاً أخرى ، ونحوه { أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ } [ النمل : 21 ] . يعني : في زيادة الألف بعد " لا " وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر " . قوله : " يَبْغُونكُم " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، من فاعل " أوْضَعُوا " أي : لأَسْرعُوا فيما بينكم ، حال كونهم باغين ، أي : طالبين الفتنة لكم ، ومعنى الفتنة : افتراقُ الكلمة . قوله : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول " يَبْغُونكُمْ " أو من فاعله ، وجاز ذلك ؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما . ويجوزُ أن تكون مستأنفةً ، والمعنى : أنَّ فيكم من يسمع لهم ، ويُصْغِي لقولهم . فإن قيل : كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم ؟ فالجوابُ : لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم ، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل ؛ فيؤثر قولهم فيهم ، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعين الإجلال والتَّعظيم ؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد : وفيكم جواسيس منهم ، يسمعون لهم الأخبار منكم ، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً ، وفي الثاني للتعليل ، أي : لأجلهم . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم ، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات . فصل { لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ } . أي : طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم ، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه . وقال ابنُ جريج : هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين ، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ، ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلأُمُورَ } . قرأ مسلمة بن محارب " وقلبُوا " مخففاً . والمرادُ بتقليب الأمر : تصريفه وترديده ، لأجل التدبر والتأمل فيه ، أي : اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل : فلان حُوَّلٌ قلبٌ ، أي : يتقلب في وجوه الحيل . ثم قال تعالى : { حَتَّىٰ جَآءَ ٱلْحَقُّ } أي : النصرُ والظفرُ . وقيل : القرآن . { وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللَّهِ } دين الله . { وَهُمْ كَارِهُونَ } حالٌ ، والرَّابط الواو ؛ أي : كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله .