Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 49-53)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية . { مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي } كقوله : " يَا صالحُ ائتنا " من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة ، وإبدالها واواً ، لضمة ما قبلها ، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى . وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة ، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً . قال أبو جعفرٍ " إذا دخلت " الواو " و " الفاء " على " ائذن " فهجاؤها : ألف وذال ونون ، بغير ياء . أو " ثم " فالهجاءُ : ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ . والفرق : أنَّ " ثُمَّ " يوقف عليها وينفصل ، بخلافهما " . قال شهابُ الدِّين " يعني إذا دخلت واوُ العطف ، أو فاؤه ، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها ، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً ، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ ، فتكتب " فأذَنْ " ، و " أذَنْ " فهذه الألف هي صورة الهمزة ، التي هي فاء الكلمة " . وإذا دخلت عليها " ثم " كُتِبَتْ كذا : ثم ائتُوا ، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة . قال شهابُ الدين : وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع " ثم " يختصُّ بهذه اللَّفظة ، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً ، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع " ثم " هكذا : " ثُمَّ أتُوا " ، وكان القياس على " ثُم ائْذَنْ " " ثم ائْتُوا " ، وفيه نظرٌ ، وقرأ عيسى بن عمر ، وابن السَّميفع ، وإسماعيل المكي ، فيما روى عنه ابن مجاهد " ولا تُفْتِنِّي " بضم حرف المضارعة ، من " أفتنه " رباعياً . قال أبُو حاتم " هي لغة تميمٍ " وقيل : أفتنه : أدخله فيها ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين ، فقال : [ الطويل ] @ 2791 - لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ @@ ومتعلق " الإذن " : القعودُ ، أي : ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو ، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك . أي : لا تهلكني بخروجي معك ، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ ، ولا طاقة لي به . وقيل : لا تفتنِّي ؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي ، وقيل : " نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا تجهَّز لغزو تبوك ، قال له : " يا أبا وهب ، هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ يعني : الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء " فقال جدُّ : يا رسول الله ، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ ، ائذن لي في القعود ، ولا تفتنِّي بهنّ ، وأعينكم بمالي . قال ابن عباسٍ : " اعتلَّ جدُّ بن قيس ، ولم تكن علته إلا النفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " قد أذنت لك " ، فأنزل الله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لِّي } الآية . " قوله : { أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } أي : في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم ، وخلافهم أمر الله ورسوله . وفي مصحف أبي " سَقَطَ " لأنَّ لفظة " مِنْ " موحد اللفظ ، مجموع المعنى ، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض ، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض ؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } مطبقة عليهم . قوله : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ } نصر وغنيمة " تَسُؤهُمْ " تُحزنهم ، يعني المنافقين { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } نكبة وشدة ومكروه ، يفرحوا ، و { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } أي : حذرنا ، " ويتَولَّوا " يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم { وَّهُمْ فَرِحُونَ } مسرورون . ونقل عن ابن عبَّاسٍ " أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ ، والمصيبة في يوم أحدٍ ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه ، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة ، وعلى كل مصيبة " . قوله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ } قال عمر بن شقيق : سمعت " أعين " قاضي الرَّيِّ يقرأ " لن يُصيبنَّا " بتشديد النون . قال أبُو حاتمٍ : ولا يجوزُ ذلك ؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع " لَنْ " ، ولو كانت لطلحة بن مصرف ، لجاز ، لأنها مع " هل " ، قال الله تعالى { هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } [ الحج : 15 ] . يعني أبو حاتم : أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام ، وابن مصرف يقرأ " هَلْ " بدل " لَنْ " ، وهي قراءة ابن مسعود . وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت " لن " على " لم " و " لا " النافيتين ، و " لم " و " لا " يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما . أمَّا " لا " فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال . وأما " لم " فقد سمع ذلك فيها ؛ وأنشدوا : [ الرجز ] @ 2792 - يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا @@ أراد : " يَعْلمَنْ " فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة ، كالتنوين . وقرأ القاضي أيضاً ، وطلحة " هَلْ يُصَيِّبنا " بتشديد الياء . قال الزمخشريُّ : ووجهه أن يكون " يُفَيْعِل " لا " يُفَعِّل " لأنَّهُ من ذوات الواو ، كقولهم : الصَّواب ، وصَابَ يَصوبُ ، ومَصَاوب ، في جمع " مصيبة " فحقُّ " يُفَعِّل " منه " يُصَوِّب " ، ألا ترى إلى قولهم : صوَّب رأيه ، إلاَّ أن يكون لغة من يقول : صَابَ السَّهْمُ يصيبُ ؛ كقوله : [ المنسرح ] @ 2793 - … أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ @@ يعني : أن أصله " يُصَوْيب " فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياءً ، وأدغم فيها . وهذا كما تقدم في " تَحَيَّزَ " أنَّ أصله " تَحَيْوزَ " ، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول : صَاب السَّهم يصيب ، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة " فَعَّل " . فصل المعنى : قل لهم يا محمد { لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } أي : علينا ، وقدره في اللوح المحفوظ ، أو يكون المعنى " لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا " أي : في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو ، والاستيلاء عليهم . وقال الزجاج : المعنى : إذا صرنا مغلوبين ، صرنا مستحقين للأجر العظيم ، والثَّواب الكثير ، وإن صرنا غالبين ، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير ، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول . ثم قال : " هُوَ مَوْلاَنَا " ناصرنا ، وحافظنا . قال الكلبي " هو أوْلَى بنا من أنفسنا ، في الحياة والموت " . { وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ } وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك ، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية . فصل { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } الآية . هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، أي : " هَلْ تَربَّصُونَ " ، أي : تنتظرون ، " بنا " أيها المنافقون ، { إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } إمَّا النصر والغنيمة ، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر ، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة ، وإمَّا الشهادة ، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة . قوله : { إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } مفعول " تربَّص " ، فهو استثناء مفرغ . وقرأ ابن محيصنٍ : " إلاَّ ٱحْدَى " بوصل ألف " إحدى " ؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل ؛ فهو كقول الشاعر : [ الرجز ] @ 2794 - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا @@ وقول الآخر : [ الكامل ] @ 2795 - يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا @@ قوله : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } إحدى السوأتين إمَّا { أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ } فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية ، { أَوْ بِأَيْدِينَا } أي : بأيدي المؤمنين ، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق ، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ ، ومفعول : التربص " أَن يُصِيبَكُمُ " ثم قال : " فَتَرَبَّصُوۤاْ " أي : إحدى الحالتين الشريفتين " إِنَّا معكم مُّتربصونَ " أي : مواعيد الله من إظهار دينه ، واستئصال من خالفه ، فقوله : " فَتَرَبَّصُوۤاْ " وإن كان صيغة أمر ، إلاَّ أنَّ المراد منه : التهديد ، كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [ الدخان : 49 ] . قوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها } الآية . " طوعاً ، أو كرهاً " مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين ، أو كارهين . وقرأ الأخوان " كُرهاً " بالضَّمِّ ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء . وقال أبُو حيان هنا : " قرأ الأعمش وابن وثاب " كُرهاً " بضم الكاف " . وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة . قال الزمخشري : هو أمرٌ في معنى الخبر ، كقوله : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [ مريم : 75 ] ، ومعناه لن يُتقبَّل منكم ؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً ، ونحوه قوله تعالى : { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ؛ وقول كثير عزة : [ الطويل ] @ 2796 - أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة … @@ أي : لن يغفر اللهُ ، استغفرت لهم ، أو لم تستغفر . ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا ، أم أسَأتِ ؛ وفي معناه قول القائل : [ الطويل ] @ 2797 - أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ @@ وقال ابن عطيَّة " هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم . وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط " قال أبُو حيَّان " ويقَدْح في هذا التَّخريجِ ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط ، كان الجواب كجواب الشرط . فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب : " فلن يتقبل " بالفاء ، لأنَّ " لَنْ " لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه ؛ ألا ترى جزمه الجواب ، في قوله : اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ " . قال شهابُ الدِّينِ " إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى ، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات ، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه " . وقوله : " إنَّكمُ " وما بعده جارٍ مجرى التعليل . وقوله : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عليه الصلاة والسلام - لا يتقبل تلك الأموال منهم ، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى . قيل : نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود ، وقال : أعينكم بمالي ، والمرادُ بالفسق هنا : الكفر ، لقوله بعده { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ } [ التوبة : 54 ] .