Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 60-66)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } الآية . اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عليه الصلاة والسلام في الصدقات ، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها . وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً : منها : قالوا : شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة . فوجب القولُ بوجوبها ؛ لأنَّ شكر المنعم واجب . ومنها : أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة ، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة . ومنها : أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود الذي لأجله خلق المالُ ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة . ومنها : أنَّ الفقراء عيالُ الله ، لقوله تعالى { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] والأغنياء خزان الله ؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى ، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم ، لما ملكوا منها حبة واحدة . ومنها : أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة ، لا يليقُ بحكمة الرحيم ؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير . ومنها : أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها ؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة ؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك . فصل كلمة " إنَّما " للحصر ، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه ، ويدلُّ على أنَّ كلمة " إنَّما " للحصر ؛ لأنها مركبة من " إن " و " ما " ، و " إن " للإثبات و " ما " للنفي ، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم ، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام " إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ " ، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام " إنما الماءُ من الماءِ " ، ولولا إفادتها الحصر ، لما كان كذلك ، وقال تعالى { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } [ النساء : 171 ] فدلَّت على نفي إلهية الغير ؛ وقال الأعشى : [ السريع ] @ 2802 - ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ @@ وقال الفرزدق : [ الطويل ] @ 2803 - أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي @@ فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة " إنَّما " للحصر . وروى زياد بن الحارث الصُّدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي ، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء ، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك " . فصل مذهب أبي حنيفة : أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف ، وهو قول عمر وحذيفة ، وابن عباسٍ ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والنخعي . قال سعيدُ بن جبير : لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية . قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث ، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال : ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية ، مثاله لو وجد خمسة أصناف ، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم ؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم . واختلفوا في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباسٍ ، والحسنُ ، ومجاهدٌ ، وعكرمةُ والزهريُّ : الفقير : الذي لا يسأل ، والمسكين : السَّائل . قال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء : { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] . وقال قتادة : الفقير : المحتاج الزَّمِنُ ، والمسكين : الصحيح المحتاج . وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب . وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن ، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل . واستدل بقوله : { أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] فأثبت لهم ملكاً ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الفقر ، وقال : كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً . وكان يقول : اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً ، فكيف كان يتعوذ من الفقر ، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض ؟ وقال أصحاب الرأي : الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له ، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه ، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ } [ فاطر : 15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه ، وجعل طعام الكفارة له ، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة . وقال إبراهيمُ النخعيُّ : الفقراء هم المهاجرون ، والمسكين من لم يهاجر ، وقيل : لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين ، والمقصود شيءٌ واحد ، وهو قول أبي يوسف ومحمد . وفائدة الخلاف تظهر في مسألة : وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين ، فالذين قالوا : الفقراء غير المساكين ، قالوا : لفلان الثلث ، والذين قالوا : الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف . واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة ، فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك ، والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حدُّه أن يملك مائتي درهم . وقيل : من ملك خمسين درهماً ، لا يحلُّ له أخذ الصدقة . روي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش . قيل : وما يُغنيهِ ؟ قال : " خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها من الذَّهب " ، وهو قول الثوري ، وابن المباركِ ، وأحمد وإسحاق وقالوا : لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين ، وقيل : أربعون درهماً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً " . قوله : { وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة ، يعطون بقدر أجور أمثالهم . وقال مجاهدٌ والضحاكُ : يعطون الثمن ، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً ؛ لأنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال : أما علمت أن مولى القومِ منهم . قوله : { وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } قال ابنُ عباسٍ : هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، وكانوا خمسة عشر رجلاً : أبُو سفيانَ ، والأقرعُ بنُ حابسٍ ، وعيينةُ بن حصنٍ ، وحويطبُ بنُ عبد العزى ، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر ، والحارثُ بنُ هشام ، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ ، وأبُو السنابل ، وحكيم بن حزامٍ ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية ، وعبد الرحمن بنُ يربوع ، والجدُّ بنُ قيس ، وعمرو بنُ مرداس ، والعلاءُ بنُ الحرث ، " أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام ، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل ، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل ، فقال : يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة ، وهكذا حتى بلغ مائة ، ثم قال حكيمٌ : يا رسول الله ، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها ؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : بل التي رغبت عنها ، فقال : والله لا آخذ غيرهافقيل : مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً ، وشقَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العطايا ، لكن ألفهم بذلك . " قال ابنُ الخطيبِ : وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين ، ولا تعلق لها بالصدقات ، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم ، فذكر ذلك مثالاً . واعلم أنَّ المؤلفة قسمان ، مسلمون وكفار ، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها ، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار ؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام ، أو خشية من شرهم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام . قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين ، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة . وقال جماعةٌ من أهل العلم : إنَّ المؤلفة منقطعة ، وسهمهم ساقط ، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي ، وبه قال مالكٌ ، والثوريُّ ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ : سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ ، وهو قول الزهري ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي ثور ، وقال أحمدُ : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك . قوله : وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف ، والتقديرُ : " وفي فك الرقاب " وقد تقدم الكلامُ في تفسير " الرقاب " في قوله : { وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ } [ البقرة : 177 ] . ثمَّ في تفسير " الرقاب " أقوال : أحدها : أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة ، وقال مالكٌ وغيره : إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب ؛ لأن قوله : { وَفِي ٱلرِّقَابِ } يقتضي أن يكون له فيه مدخل ، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه ، وقال الزهريُّ : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين المسلمين ، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا . قال بعض العلماء : والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب ؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } ولمَّا ذكر " الرقاب " أبدل حرف اللام بحرف " في " فقال : " وفِي الرِّقابِ " فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة ، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ . وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم . قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى " فِي " في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ ؛ لأنَّ " في " للوعاء ، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً " . ثم قال : " وتكرير " في " في قوله : { وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين " . قوله : والغَارمينَ قال الزجاجُ : أصل الغرم في اللغةِ : لزوم ما يشق ، والغرام العذاب اللاَّزم ، وسمي العشق غراماً ، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له ، ومنه : فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ ، وسمي الدَّين غراماً ، لكونه شاقاً ، والمرادُ بالغارمين المديونون ، فالدَّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية ؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة ، والمعصية لا تستوجب الإعانة ، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان : دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة ، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين ، والكل داخل في الآية . روى الأصمُّ في تفسيره " أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة : لا نملك الغرَّة يا رسول الله ، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم " وكان حمل على الصدقة يومئذ . قوله : { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } قال المفسِّرون : يعني الغزاة ، قال أكثرُ العلماء : يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة . ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ؛ لأن قوله : { وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } عام في الكل وقال أكثر أهل العلم : لا يعطى منه شيء في الحج . وقال قومٌ : يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج ، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق . قوله : { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة ، وإن كان ذا يسار في بلده . وقال قتادةُ : ابن السبيل : هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ : ابن السبيل : الحاج المنقطع . واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية . واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف ؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف ، فإنَّما يجوز في غير العامل ، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق . فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون والمؤلفة ، والرقاب ، والغارمون ، بصيغة الجمع ، وذكر الصنفين الآخرين ، وهما : في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد ؟ فالجوابُ : أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة ، ولا يقال : هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين ؛ لأنا نقول : لو أفرد في الجميع ، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد ؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع ، وإن أفردهم منكرين ، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد ، أو مسكين واحد ، وكذلك سائرها ، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد ، وهو خلاف الإجماع فصل والسَّبيل : الطريقُ ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها ، ومروره عليها قال بعضُ العلماءِ : إذا كان المسافر غنيّاً في بلده ، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح . ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى . فصل إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية ، هل يقبل قوله أو يقال : أثبت ما تقولُ ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته ، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي . قوله : " فَرِيضَةً " في نصبها وجهان : أحدهما : أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ } في قوة : فرض الله ذلك . والثاني : أنَّها حالٌ من الفقراء ، قاله الكرماني ، وأبُو البقاءِ . يعنيان من الضمير المستكن في الجار ، لوقوعه خبراً ، أي : إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة ، أي : مفروضة . ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة ، وإنَّما دخلت التاء ، لجريانها مجرى الأسماء ، كـ " النَّطيحة " . ويجوزُ أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال ، ونُقل عن سيبويه أنَّ " فريضةً " منصوبٌ بفعلها مقدراً ، أي : فرض الله ذلك فريضةً . ونقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } بمقادير المصالح { حَكِيمٌ } لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح . فصل وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة ، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ، من بني هاشم ومواليهم ، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة ، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً ، أو عاملاً . قوله تعالى : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } الآية . وهذا نوع آخر من طعن المنافقين ، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أذن . نزلت في جماعة من المنافقين ، كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي ، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد : نقول ما شئنا ، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا ، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول ، إنَّما محمدٌ أذنٌ ، أي سامعة ، يقال : فلان " أذنٌ وأذنٌ " على وزن " فُعُل " ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله . وأصله من " أذن " له " أذَناً " إذا استمع ، وقال محمد بن إسحاق بن يسار : " نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث ، وكان رجُلاً أزلم ، ثائر الشعر ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، مشوَّه الخلقة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث . " وكان ينمّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين ، فقيل له : لا تفعل فقال : إنَّما محمد أذن ، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه ؛ فنقول ما شئنا ، ثُمَّ نأتيه فنحلف له ، فيصدقنا ، فنزلت الآية . قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها ، لتكون حجة للرسول ، ولينزجروا ، فقال : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } [ التوبة : 61 ] { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } [ التوبة : 75 ] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب ، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله . ومعنى " أذنٌ " أي : أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور ، بل هو سليمُ القلبِ ، سريع الاغترار بكل ما يسمع . قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } " أذُنُ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة ، وقرأ الحسنُ ، ومجاهدٌ ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم " أذُنٌ " بالتنوين ، " خَيْرٌ " بالرفع ، وفيها وجهان : أحدهما : أنَّها وصف " أذُن " . والثاني : أن يكون خبراً بعد خبر ، و " خير " يجوزُ أن يكون وصفاً ، من غير تفضيل ، أي : أذُنٌ ذُو خير لكم ، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي : أكثر خيراً لكم . وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون " أذُن " مبتدأ ، و " خَيْر " خبرها ، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة ؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً ، أي : أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم ، ويقال : رجَلٌ أذنٌ ، أي : يسمع كل ما يقال ، وفيه تأويلان : أحدهما : أنَّهُ سُمِّي بالجارحة ؛ لأنَّها آلة السماع ، وهي معظم ما يقصد منه ؛ كقولهم للربيئة : عَيْنٌ . وقيل : المرادُ بـ " الأذُن " هنا الجارحة ، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي : ذُو أذن . والثاني : أنَّ الأذن وصفٌ على " فُعُل " ، كـ " أنُف " و " شُلُل " يقال : أذِنَ يَأذَن ، فهو أذُن ؛ قال : [ الطويل ] @ 2804 - وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا @@ ومعنى قراءة عاصم : إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ ، فأذن خير لكم ، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم . ومعنى قراءة الجرِّ : أي : هو أذُنُ خير ، لا أذُنُ شر وقرأ نافع " أذْن " ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن ، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل : عنق وظفر . ثم بيَّن كونه " أذُنُ خَيْرٍ " بقوله : { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام " أذُنُ خَيْرٍ " ، أمَّا قوله { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله ، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل . ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي : يسلمُ للمؤمنين قولهم ، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب . فإن قيل : لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ ، وإلى المؤمنين باللاَّم ؟ . فالجواب : أنَّ المراد بالإيمان بالله ، المراد منه : التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين ، معناه : الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم ، كقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] وقوله { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } [ يونس : 83 ] وقوله : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَٱتَّبَعَكَ ٱلأَرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] وقوله { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [ طه : 71 ] . وقال ابن قتيبة " هما زائدتان ، والمعنى : يصدِّق الله ، ويصدِّق المؤمنين " وهذا مردود ؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد ، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ ، لما غاير بين الحرفين . وقال المبرد : هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل ، كأنَّه قال : وإيمانه للمؤمنين وقيل : يقال : آمنتُ لك ، بمعنى : صدَّقتكَ ، ومنه { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] . قال شهابُ الدِّينِ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها " ما " ، والمعنى : ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ : واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ ، دخلت لتفرِّق بين " يُؤمن بمعنى : يُصدِّق ، وبين " يؤمن " بمعنى : يثبت الإيمان وقوله : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } فهذا أيضاً يوجبُ الخير به ؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم ، ولا يهتكُ أستاركم ، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه " أذُن خَيْرٍ " وقرأ الجمهورُ " ورَحْمَةٌ " رفعاً نسقاً على " أذُنُ " أي : وهو رحمة للذين آمنوا . وقال بعضهم : هو عطفٌ على " يُؤمن " ، لأنَّ " يُؤمن " في محل رفع صفة لـ : " أذُن " ، تقديره : أذُن يؤمن ورحمة . وقرأ حمزة والأعمش " ورحمةٍ " بالجر نسقاً على " خيرٍ " المخفوض بإضافة " أذُنُ " إليه ، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين ، تقديره : أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ . وقرأ ابنُ أبي عبلة : " ورَحْمَةٌ " نصباً على أنَّه مفعول من أجله ، والمعلل محذوف ، أي : يأذن لكم رحمةً بكم ، فحذف لدلالة قوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ } . فإن قيل : كل رحمة خير ، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير ؟ [ فالجواب : إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة ، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير ] كقوله : { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة ، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة ، وخيره بالشَّر ؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم . قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية . وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين ، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، قال قتادةُ والسديُّ : اجتمع ناس من المنافقين ، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقّاً فنحن شرٌّ من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار ، يقال له : عامر بن قيس ، فحقَّروه ، وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلامُ وقال : والله إنَّ ما يقول محمد حق ، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم ، فسألهم ؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة ، فصدقهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم فجعل عامر يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب ، فأنزل اللهُ هذه الآية . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ : نزلت في رهطٍ من المنافقين ، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوهُ يعتذرون ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قوله : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } . إنَّما أفرد الضمير ، وإن كان الأصلُ في العطف بـ " الواو " المطابقة ، لوجوهٍ : أحدها : أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد ، { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً ، تنبيهاً على ذلك . الثاني : أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور ؛ كقول رؤبة : [ الرجز ] @ 2805 - فِيهَا خُطُوطٌ من سوادٍ وبلق كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ @@ أي : كأن ذلك المذكور ، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ . الثالث : قال المبرد : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، تقديره : واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني . الرابع - وهو مذهب سيبويه - : أنَّه حذف خبر الأوَّل ، وأبقى خبر الثَّاني ، وهو أحسنُ من عكسه ، وهو قول المبرِّدِ ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه ؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر : [ المنسرح ] @ 2806 - نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ @@ أي : نحن راضون ، حذف " راضُون " ، لدلالةِ خبر الثاني عليه . قال ابنُ عطية : " مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان ، حذفت الأولى ، لدلالة الثانية عليها " . قال أبُو حيان : " إن كان الضمير في " أنَّهُمَا " عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين ، فكيف يقول " حُذفت الأولى " والأولى لم تحذف ، إنما حذفَ خبرها ؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون " أن يُرضُوهُ " مبتدأ وخبره " أحَقُّ " مقدماً عليه ، ولا يتعيَّنُ هذا القول ؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير : أحقُّ بأنْ تُرضُوه " . قال شهابُ الدِّين : إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول ، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون " أحقُّ " خبراً مقدَّماً ، و " أن يُرْضوهُ " مبتدأ مؤخراً ، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ . ولقد تقدم تحرير هذا في قوله : { فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } [ التوبة : 13 ] . قوله { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم . فصل قال القرطبيُّ " تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف ، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا ، واليمين حق للمدَّعي ، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق " . قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية . والمقصود من هذه الآية : شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك . قرأ الجمهور " يَعْلمُوا " بياء الغيبة ، رَدّاً على المنافقين ، وقرأ الحسنُ ، والأعرجُ " تَعْلَمُوا " بتاء الخطاب ، فقيل : هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين . وقيل : الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2807 - فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ … @@ وقيل : الخطابُ للمؤمنين . وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام ، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم ، يقال له ألمْ تتعلَّم ؟ وإنما حسن ذلك ؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ، وكثر تحذيره من معصية الله ، والترغيب في طاعة الله . وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم ، وعلى الثالث يكون للتقرير . والعلم هنا : يحتمل أن يكون على بابه ، فتسدَّ " أن " مسدَّ مفعولين عند سيبويه ، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش . وأن يكون بمعنى العرفان ، فتسدَّ " أنَّ " مسدَّ مفعوله . و " مَنْ " شرطيَّة ، و " فأنَّ لهُ نار " جوابها . وفتحت " أنَّ " بعد الفاءِ ، لما تقدَّم في الأنعام . والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر " أنَّ " الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ . وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر ، فقال الزمخشريُّ " ويجوزُ أن يكون " فأنَّ لَهُ " معطوفاً " أنَّه " على أنَّ جواب " مَنْ " محذوفٌ ، تقديره : ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ " وقال الجرمي والمبرد : " أنَّ " الثانية مكررةٌ للتَّوكيد ، كأن التقدير : فلهُ نارُ جهنم ، وكُرِّرت " أنَّ " توكيداً ، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوۤءَ } [ النحل : 119 ] ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [ النحل : 119 ] ، قال : والفاءُ على هذا جوابُ الشرط . وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله : بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً ، أو مضارعاً مقروناً بـ " لَمْ " ، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ بـ " لَمْ " وأيضاً فإنَّا نجدُ الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره . ونُقل عن سيبويه أنَّه قال : الثانيةُ بدلٌ من الأولى . وهذا لا يصحُّ عن سيبويه ، فإنَّه ضعيفٌ ، أو ممتنع ، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين : أحدهما : أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ . والثاني : أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب " مَنْ " من الكلام . وقال ابنُ عطية " وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى ، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد ، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط ، وتلك الجملةُ هي الخبرُ ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل ، فهي معنى آخر غير البدل فيقلقُ البدل " . وقال بعضهم : فتحت على تقدير اللام ، أي : فلأنَّ لهُ نار جهنم . وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ ، لا يحتاج إليها . فالأولى ما تقدم ذكره ، وهو أن يكون " أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ " في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها ، كما فعل الزمخشريُّ ، وغيرُه ، أي : فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم . وقدَّرهُ غيره متأخراً ، أي : فأنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها . وهذا لا يلزمه ، فإنَّه يجيز الابتداء بـ " أنَّ " المفتوحةِ من غير تقديم خبره . وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم " أمَّا " ، نحو : أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي ، أو بشرط تقدُّم الخبر ، نحو : عندي أنَّك منطلق . وقيل : " فأنَّ لهُ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : فالواجبُ أنَّ لهُ ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم ، جواباً للشَّرط . وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة ، والحسن ، وابن أبي عبلة : " فإنَّ " بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية ، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام ، وتقدَّم هناك توجيهها . والمحادّة : المخالفةُ ، والمعاندةُ ، ومجاوزةُ الحدِّ ، والمعاداة . قيل : مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد . وقيل : من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم : شاقَّه ، أي : كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه ، أي : كان في عدوة غير عدوته . قال ابن عباس : معناه : يخالف الله وقيل : يحارب الله ، وقيل : يعاند الله ، وقيل : يعادي الله . واختار بعضهم قراءة الكسر ، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار ، ولم يُرْوَ قوله : [ الوافر ] @ 2808 - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ @@ إلاَّ بالكسرِ . وهذا غيرُ لازمٍ ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين ، و " خَالِداً " نصبٌ على الحال . قال الزجاج : " ويجوز كسر " أنّ " على الاستئناف بعد الفاءِ " . وجهنم : من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ : أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام ، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها ، وتقدم معنى الخلود ، والخزي : قد يكون بمعنى النَّدم ، وبمعنى الاستحياء ، والمراد به ههنا : النَّدم ، لقوله : { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } [ يونس : 54 ] . قوله تعالى : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ } الآية . قال قتادة " هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة ، والحافرة ، والمبعثرة ، والمثيرة ، أثارت مخازيهم ومثالبهم " قال ابن عباسٍ : " أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم ، وأسماء آبائهم ، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين ، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً ؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين " . وقال الجبائيُّ : " اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت ، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ " فلم يقوموا ، فقال عليه الصلاة والسلام بعد ذلك " قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ " حتى أتى عليهم ثم قالوا : نعترف ونستغفر فقال : " الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ ، اخرُجُوا عنِّي " فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّةِ . " وقال الأصمُّ : " إنَّ عند رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به ؛ فأخبره جبريل ، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة ، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال : " مَنْ عرفت من القوْمِ " ؟ فقال : لم أعرف منهم أحداً ، فذكر النبيُّ عليه الصلاة والسلام أسماءهم وعدهم له ، وقال : " إنَّ جبريل أخبرني بذلك " فقال حذيفة : ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم ، فقال : " أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم ، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة " " . فإن قيل : الكافرُ منافق ، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عليه الصلاة والسلام - ؟ فالجوابُ ، من وجوه : أحدها : قال أبُو مسلم : " هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي ، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم ، فأخبر الله رسوله بذلك ، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهره ، ويدلُّ على ذلك قوله : استَهْزئُوا " . وثانيها : أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - كان يخبرهم بما يفسرونه ، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم . وثالثها : قال الأصمُّ : إنَّهم كانوا يعرفون كونه رسولاً حقاً من عند الله ، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً . ورابعها : معنى الحذر الأمر بالحذر ، أي : ليحذر المنافقون ذلك . وخامسها : أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته ، والشَّاك خائف ، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم . قوله : " أَن تُنَزَّلَ " مفعولٌ به ، ناصبه " يَحْذَرُ " ، فإنَّ " يَحْذَرُ " متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى : { وَيُحَذِّرْكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً ؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه : [ الكامل ] @ 2809 - حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ @@ وفي البيت كلامٌ ، قيل : إنه مصنوع . وقال المبردُ : إنَّ " حَذِر " لا يتعدَّى ، قال : لأنَّهُ من هيئات النفس ، كـ " فَزِع " . وهذا غير لازم . فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ كـ : " خاف " ، وخشي ، فإنَّ " تُنَزَّل " عند المبرد على إسقاط الخافض أي : مِنْ أن تُنَزَّل . وقوله : " تُنَبِّئُهُمْ " في موضع الرفع صفةً لـ " سورة " . قال الزمخشريُّ " الضميرُ في قوله " عليهم " و " تنبّئهم " للمؤمنين ، و " في قُلُوبهمْ " للمنافقين ، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين ؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، ومعنى " تُنبِّئُهم بما في قلوبهم " أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت ، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها " . ثم قال : { قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ } هذا أمر تهديد ، { إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } . قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } الآية . قال الكلبي ، ومقاتل ، وقتادةُ : " إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين ، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول ، والآخر يضحك . قيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم ، ويفتح مدائنهم ، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك . وقيل : كانوا يقولون : إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن ، وإنما هو قوله وكلامه ، فأطلع اللهُ نبيهُ صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال : " احبسُوا الرَّكبَ عليَّ " فدعاهُم وقال لهُم : " قُلْتُم كذا وكذا " فقالوا : إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب . " قال ابن عمر : " رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه ، وهو يقولُ : " إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ " . ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ " . ولا يلتفتُ إليه . " وقال أبُو مسلم : قوله : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء ، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم : لِمَ فعلتُم ذلك ؟ قالوا : لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب . فصل في بيان أصل الخوض قال الواحديُّ : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى ، والمعنى : إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق ، فأجابهم الرسولُ بقوله : " أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون " . قوله : " … أباللهِ … " متعلقٌ بقوله : " تَستهْزئُونَ " . و " تَسْتهْزِئُونَ " خبرُ " كان " وفيه دليلٌ على تقديم خبر " كان " عليها ؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل ، وقد تقدَّم معمول الخبر على " كان " فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى . وفيه بحث ، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل ، بقوله تعالى : { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 9 ، 10 ] قال : فـ " اليتيم " ، والسائل قد تقدما على " لا " الناهية ، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا يجوز تقديم ما بعد " لا " الناهية عليها ، لكونه مجزوماً بها ، فقد تقدَّم المعمولُ ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر ، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر " ليس " بقوله { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] . فصل فرق بين قولك : أتستهزىء بالله ، وبين قولك : أبالله تستهزىء ، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء ، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله ، كأنه يقول : هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } [ الصافات : 47 ] والمقصود : ليس نفي الغول ، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول . ومعنى الاستهزاء بالله : هو الاستهزاء بتكاليفِ الله ، والاستهزاء بذكر الله ، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ ، كما أنَّ المؤمن يعظمها . والمرادُ بالاستهزء بـ " آيَاتِهِ " هو القرآن ، وسائر ما يدلُّ على الدين ، والرسول معلوم . قوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ } . نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين ، الأول : أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب ، وأصله من : تعذرت المنازل ، أي : دَرَسَتْ ، وامَّحت آثارها ؛ قال ابن أحمر : [ البسيط ] @ 2810 - قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ @@ فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ . والثاني : قال ابنُ الأعرابي : أصله من العذر ، وهو القطع ، ومنه العُذْرة ؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ . ويقولون : اعتذرت المياه ، أي : انقطعت ، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه . قوله : { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً ؛ لأنه استخفاف بالدين ، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى ، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة . فإن قيل : كيف قال { كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } وهم لم يكونوا مؤمنين ؟ فالجواب : قال الحسنُ : أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان . فصل قال ابنُ العربي : " لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً ، أو هزلاً ، وهو كيفما كان كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة ، قال تعالى : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ } [ البقرة : 67 ] . فصل اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق ، قيل : يلزم وقيل : لا يلزم ، وقيل : يفرق بين البيع وغيره . فيلزمُ في النكاح والطلاق ، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء . وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ " قال الترمذيُّ " حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم " . قال القرطبي : " وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق " . قوله : " … إن نَعْفُ " قرأ عاصم " نَعْفُ " بنون العظمة ، " نعذِّب " كذلك ، " طَائفَة " نصباً على المفعول به ، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي ، وزيد بن علي . وقرأ الباقون " يُعْفَ " في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول ، ورفع " طَائفةٌ " ، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده . وقرأ الجحدريُّ " إن يَعْفُ " بالياء من تحت فيهما ، مبنياً للفاعل ، وهو ضميرُ الله تعالى ، ونصب " طائفة " على المفعول به . وقرأ مجاهدٌ " تُعْف " بالتاء من فوق فيهما ، مبنياً للمفعول ، ورفع " طائفة " ، لقيامها مقام الفاعل . وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان : أحدهما : أنَّهُ ضمير الذنوب ، أي : إن تُعْفَ هذه الذنوب . والثاني : أنَّه الجارُّ ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى . قال الزمخشريُّ " الوجه التذكير ؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ ، كما تقول : سِيرَ بالدَّابة ، ولا تقول : سِيرت بالدَّابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك ، وهو غريبٌ " . فصل قال مجاهدٌ : وابن إسحاق : الذي عُفِيَ عنه رجل واحد ، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي ، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض ، وكان يمشي مجانباً لهم ، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه ، وقال : اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ ، وتجب منها القلوبُ ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك ، لا يقولُ أحدٌ : أنا غسلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه . فصل ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة ؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً . قال الزجاجُ : والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة ؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة ، قال تعالى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] . وأقله الواحد ، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه ، وقال تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } [ الحجر : 9 ] . قال ابن الأنباري : العرب توقع لفظ الجمع على الواحد ، فتقولُ : خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال ، وقال تعالى : { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] يعني : نعيم بن مسعود ، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم : { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ }