Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 67-71)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } الآية . لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم ، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة . قوله : { بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر ، أي : من جنس بعض ، فـ " من " هنا لبيان الجنس وقيل : للتبعيض ، أي : إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ ، وقيل : أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال : " يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ " . هذه الجملةُ لا محلَّ لها ؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله : " بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ " ، وكذلك ما عطف على " يَأْمُرُون " ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح ، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن ، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية ، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي : يمسكونها عن الصَّدقة ، والإنفاق في سبيل الله . { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى . وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره ، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم ، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر ، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل ، وهو ما ذكرنا من التَّرك ؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي ، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ ، كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ثم قال : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الكاملُونَ في الفِسْقِ . قوله تعالى : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } الآية . قال القرطبيُّ وغيره : يقالُ : وعد الله بالخير وعْداً ، ووعدَ بالشَّر وعيداً . وقيل : لا يقال من الشر إلاَّ " أوْعدته " و " توعدته " وهذه الآية رد عليه . لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم ، أي : جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله ، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه ، فقال : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ } الآية . وقوله : " خالدين " حالٌ من المفعول الأول للوعد ، وهي حالٌ مقدرةٌ ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد . وقوله : " هِيَ حَسْبُهُم " لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية . والمعنى : أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها ، ولا يمكنُ الزيادة عليها . ثم قال : { وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ } أبعدهم الله من رحمته ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائم . فإن قيل : معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً . فالجوابُ : من وجهين : الأول : أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً ، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم . وقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ . فإن قيل هذا مشكل ؛ لأنه قال في النَّار المخلدة : " هِيَ حَسْبُهُم " وكونها حسباً يمنع من ضمّ شيء آخر إليه . فالجوابُ : أنَّها حسبهم في الإيلام ، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم . والثاني : أنَّ المراد بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم ، وما يحذرونه من أنواع الفضائح . قوله : { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } . فيه أوجه : أحدها : أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ ، تقديره : أنتم كالذين ، فهي خبر مبتدأ محذوف . الثاني : أنَّها في محلِّ نصب . قال الزجاجُ : المعنى : وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ بـ " وَعَدَ " . قال ابن عطيَّة " وهذا قلقٌ " . وقال أبو البقاءِ : ويجُوز أن يكون متعلقاً بـ { تَسْتَهْزِءُونَ } [ التوبة : 65 ] . وفي هذا بعدٌ كبيرٌ . وقوله : " كانُوا أشدَّ " تفسيرٌ لشبههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم ، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ ، قال : " التَّشبيهُ من جهة الفعل ، أي : فعلتم كما فعل الذين من قبلكم " فتكون الكافُ في موضع نصب . وقال أبو البقاءِ : " الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ ، تقديره : وعداً كوعد الذين " . وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم ، والوجه الذي تقدم عن الفراء ، وشبَّهه بقول النمر بن تولب : [ الكامل ] @ 2811 - … كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا @@ بإضمار : " لَمْ أرَ " . قوله : " كَمَا اسْتَمْتَعَ " الكافُ في محلِّ نصب ، نعتاً لمصدر محذوف ، أي : استمتاعاً كاستمتاع الذين . قوله : { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } الكافُ كالَّتي قبلها . وفي " الَّذِي " وجوهٌ : أحدها : أنَّ المعنى : وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا ، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً ، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ ، فحذف المصدرُ الموصوفُ ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره : خاضوه ، والأصل : خاضوا فيه ؛ لأنَّهُ يتعدَّى بـ " في " فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ ، فاتصل الضميرُ بالفعل ، فساغ حذفه ، ولولا هذا التَّدريجَ لما ساغَ الحذف ، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت . الثاني : أنَّ " الذي " صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع ، أي : وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا ، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل . قال بعضُ المفسِّرين : " الَّذي " اسم ناقص مثل " ما ، ومن " ، يعبَّر به عن الواحد والجمع ، كقوله تعالى : { كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة : 17 ] ثم قال { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] . الثالث : أن " الَّذي " من صفة المصدر ، والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر . وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح ، إذ لا محذور فيه . والرابع : أنَّ " الذي " تقعُ مصدرية ، والتقدير : وخضتم خوضاً . ومثله : [ البسيط ] @ 2812 - فَثَبَّتَ اللهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا @@ أي : كنَصْرهم . وقول الآخر : [ البسيط ] @ 2813 - يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا @@ أي : ككون . وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء ، ويونس ، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ " فإن قلت : أيُّ فائدة في قوله : { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } ، وقوله { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغنٍ عنه ، كما أغْنَى " كالَّذِي خَاضُوا " ؟ قلت : فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا ، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به ، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم ، وأمَّا { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه ، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني : أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ : وخاضُوا ، فخضتم كالذي خاضوا " . وفي قوله { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر ، لنُكتَةٍ ، وهو أنَّه كان الأصلْ : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم ؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم ، كقوله : { لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] ، وكقوله قبل ذلك : { ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ، ثم قال : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم ، يدُلُّ به على عكسه ، وهو التَّحقير . فصل معنى الآية : إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر ، والنهي عن المعروف ، وقبض الأيدي عن الخيرات ، و { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } بَطْشاً ومنعَةً ، { وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا ، باتباع الشَّهوات ، ورضوا به عوضاً عن الآخرة ، { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ } ، والخلاق : النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير . { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } وسلكتم سبيلهم " وخُضْتُم " في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله ، والاستهزاء بالمؤمنين ، " كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ " أي : كما خاضوا . { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ } أي : بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ ، وفي الآخرة ؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب . { َأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء ، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة ، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم . روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ ، وذِرَاعاً بذرَاع ، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ " قيل : يا رسول الله اليهود والنصارى قال : " فَمَنَّ ؟ " وفي رواية أبي هريرة : فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ ؟ فلهذا قال في المنافقين " بَعْضُهم من بَعْضٍ " ، وقال في المؤمنين : " بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض " أي : في الدِّين واتفاق الكلمة ، والعون ، والنصرة ، " يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ " بالإيمان والطَّاعة والخير ، وقد تقدَّم الكلام على " يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ " . " ويَنْهونَ عن المُنكَرِ " عن الشِّرك والمعصية ، وما لا يعرف في الشَّرع " ويُقِيمُونَ الصَّلاة " المفروضة { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ } فالسين للاستقبال ، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة . وادَّعَى الزمخشريُّ : أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد ، نحو : سأنتقم منك ، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك ، ونظيره { سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } [ مريم : 96 ] { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ } [ الضحى : 5 ] { سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [ النساء : 152 ] . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب ؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة ، والحكيمُ هو المدبر أمر عباده على ما تقتضيه الحكمة .