Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 72-80)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [ التوبة : 72 ] . والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر ؛ لأنَّهُ تعالى قال بعده { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } والمعطوفُ يجبُ أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنَّات عدنٍ ومناظرهم التي هي البساتين ، وتكون فائدة وصفها بأنَّها عدنٌ ، أنَّها تجري مجرى دار السَّكن والإقامة . وقوله : " خَالِدِينَ " حالٌ مقدَّرة ، كما تقدَّم . وقوله : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : منازل طيبة { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : خلد وإقامة ، وفي " عدن " قولان : أحدهما : أنَّهُ اسم علم لموضع معين في الجنَّةِ . قال عبدُ الله بنُ عمرو " إنَّ في الجنَّة قصراً يقال له عدنٌ ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كلِّ باب خمسة ألاف حرة ، لا يدخله إلاَّ نبيٌّ ، أو صديقٌ أو شهيدٌ " . قال الزمخشريُّ : و " عدن " علم بدليل قوله { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ } [ مريم : 61 ] . والقول الثاني : أنه صفة للجنة . قال الأزهريُّ : " العَدْنُ " مأخوذ من قولك : عَدَنَ بالمكان إذا أقام به ، يَعْدِنُ عُدوناً . وتقول : تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا ، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ، ومنه المعدن ، لمُسْتقرِّ الجواهر . يقال : عدن عُدُوناً ، فله مصدران . هذا أصلُ هذه اللفظة لغة . وذكر المفسِّرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة [ المتقارب ] @ 2814 - وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ @@ أي : ثَبَتَ واستقرَّ . ومنه " عدن " لمدينة باليمن ، لكثرة المقيمين بها . قوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } التَّنكيرُ يفيدُ التقليل ، أي : أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم من الجنَّات ومساكنها . ثم قال : { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي : هذا هو الفوزُ العظيمُ ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا . روى أبو سعيدٍ الخدريُّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة : يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : ربنا وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : " أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً " " . قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } الآية . لمَّا وصف المنافقين بالصِّفاتِ الخبيثةِ ، وتوعدهم بأنواع العقاب ، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة ، ووعدهم بالثَّوابِ ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية . فإن قيل : مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة ، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه . فالجوابُ من وجوه : أحدها : قال الضحاكُ : مجاهدة المنافق : تغليظُ القول ، وهذا بعيدٌ ؛ لأنَّ ظاهر قوله { جَاهِدِ ٱلْكُفَّارَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } يقتضي الأمر بجهادهما معاً ، وكذا ظاهر قوله : { وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ } راجع إلى الفريقين . وثانيها : أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر . فقال ابن مسعودٍ : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ . وقال : لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر . وقال ابنُ عبَّاسٍ : باللِّسانِ وترك الرفق . وثالثها : قال الحسنُ وقتادةُ : بإقامةِ الحدودِ عليهم قال القاضي : وهذا ليس بشيء ؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ . قوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } قال أبُو البقاءِ : إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع ؟ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير : افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم ، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم . والثاني : أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف ، تقديره : واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم . الثالث : أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة ، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم . ولا حاجة إلى هذا كُلِّه ، بل هي جملةُ استثنافية . قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ } الآية . قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلِّ شجرةٍ ، فقال : " إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ " فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ " فانطلق الرَّجُل ؛ فجاء بأصحابه ، فحلفُوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله عز وجل الآية . وقال الكلبيُّ : " نزلت في جلاس بن سويدٍ ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين ، فسمَّاهم رجْساً وعابهم ، فقال جلاسٌ : لئن كان محمد صادقاً ، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس ، وأخبره بما قال جلاس ، فقال الجلاس : كذب يا رسول الله ؛ فأمرهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر ؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله ، ولقد كذب عليَّ عامر ، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد قاله ، وما كذبتُ عليه ، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال : اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا . فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : آمين ، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية ، حتى بلغ { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } ، فقام الجلاسُ ، فقال : يا رسول الله أسمعُ الله قد عرض عليَّ التوبة ، صدق عامرُ بن قيس فيما قاله ، لقد قُلْتُه وأنا أسْتغفرُ الله ، وأتوب إليه ، فقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه . " وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى ٱلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ٱلأَعَزُّ مِنْهَا ٱلأَذَلَّ } [ المنافقون : 8 ] . وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام - ، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية . وقال القاضي : الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك ، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل ، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل ، وقعقة السلاح ، فالتفت ، فإذا قوم متلثمُون . فقال : إليكم يا أعداء الله ، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة ، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج . فإن قيل : قوله : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل ، وهم لم يكونوا مسلمين . فالجوابُ : أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب ؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وقوله : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم ، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ : " هو قولهم إذا قدمنا المدينة ؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه " . قوله : { وَمَا نَقَمُوۤاْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } . في الاستثناء وجهان : أحدهما : أنَّهُ معفول به ، أي : وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم : ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك ، أي : إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا ، فهو تهكمٌ بهم ؛ كقوله : [ الطويل ] @ 2815 - ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ @@ وقول الآخر : [ المنسرح ] @ 2816 - مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْـ ـلا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ @@ والثاني : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف ، تقديره : وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم . وقد تقدَّم الكلامُ على " نَقِمَ " [ الأعراف : 126 ] . قيل : إن مولى الجلاس قتل ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى . وقال الكلبيُّ : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم . قوله : { فَإِن يَتُوبُواْ } أي : من نفاقهم : { يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } أي : يعرضوا عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا } بالخزي ، وفي " الآخرةِ " بالنَّارِ " وَمَا لَهُمْ " في الأَرض { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي : أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير . قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } الآية . " عاهد الله " فيه معنى القسم ، فلذلك أجيب بقوله : " لنصَّدقنَّ " ، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه ، و " اللاَّم " للتوطئةِ ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له . وقال أبُو البقاءِ : فيه وجهان : أحدهما : تقديره : " عاهد ، فقال : لئِنْ آتَانَا " . والثاني : أن يكون " عاهد " بمعنى : قال ، فإنَّ العهد قول . ولا حاجة إلى هذا . قوله : { لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ } قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة . والأعمش بالخفيفة . قال الزجاج الأصل : " لنتَصدَّقنَّ " ، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد ، لقربها منها . قال الليثُ : المُتصدق : المعطي ، والمُتصدق : السائل . قال الأصمعيُّ ، والفرَّاءُ : هذا خطأ ، فالمتصدق هو المعطي ، قال تعالى : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ ٱللَّهَ يَجْزِي ٱلْمُتَصَدِّقِينَ } [ يوسف : 88 ] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين ؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } [ التوبة : 62 ] { وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 58 ] { وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } [ التوبة : 49 ] { وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 75 ] . والمشهور في سبب نزول هذه الآية : ما روى أبو أمامة قال : جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ " ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال : " أمَا لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ " ثمَّ راجعه بعد ذلك ، فقال : يا رسول الله : ادعُ الله أن يرزقني مالاً ، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً " قال : فاتَّخذ غنماً ؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها ، ونزل وادياً من أوديتها ، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر ، ويصلي في غنمة سائر الصلوات ، ثم كثُرتْ ونمتْ ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة ؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار ، فذكرهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : " ما فعل ثعلبةُ ؟ " قالوا : يا رسول الله ؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ويْحَ ثَعلبةَ " فأنزل الله تعالى آية الصدقات ؛ فبعث رسُول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني سليم ، ورجلاً من جهينة ، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها ، وقال لهما : " مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ ، فخذا صدقاتهما " فخرجا حتى أتيا ثعلبة ؛ فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : هذه إلاَّ الجزية ، ما هذه إلاَّ أخت الجزية ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلمَّا رأياها قالا : ما هذه عليك ؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة ، فمرَّا على الناس ، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة ، فقال : أروني كتابكما ؛ فقرأه ثم قال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية ، اذهبا حتَّى أرى رأيي ، قال فأقبلا ، فلما رآهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يكلماه : يا ويْحَ ثعلبةَ ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } الآية على قوله : { وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من أقارب ثعلبةَ ؛ فسمع ذلك ، فخرج حتَّى أتاهُ فقال : ويْحَكَ يا ثعلبة ، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا ، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : " إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ " ؛ فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي " ؛ فرجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى أبا بكر بصدقته ؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عليه الصلاة والسلام - فقبض أبو بكر ، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر ، ثمَّ لم يقبلها عثمان ، وهلك ثعلبةُ في خلافة عثمان . وقال ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بن جبير ، وقتادةُ : أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار ؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ ، وتصدقت منه ، ووصلت منه القرابة ، فمات ابن عمٍّ له ، فورث منه مالاً ، فلم يف بما قال ؛ فأنزل الله هذه الآية . وقال الحسن ومجاهدٌ : نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ ، ومعتب بن قشير ، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ ، فلما رزقهما بخلا به . والمشهورُ الأول . فإن قيل : إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة ؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه ؟ . فالجواب : لا يبعد أن يقال : إنَّ الله تعالى منع الرسول - عليه الصلاة والسلام - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره ؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات ، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء ، لا على وجه الإخلاص ، وأعلم الله الرسول بذلك ؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة ، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا } [ التوبة : 103 ] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه ؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاة والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ . فإن قيل : المنافق كافرٌ ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله . فالجواب : أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله ، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عليه الصلاة والسلام ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله ، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - ، كان كافراً . وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع ؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً ، ثم لمَّا بخل بالمال ، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً ، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } [ التوبة : 78 ] . فإن قيل : هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان ، أو يكفي النِّيَّة ؟ . فالجواب : قال بعضهم : تكفي النيةُ ، وأن قوله : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ } [ التوبة : 75 ] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [ التوبة : 78 ] . وقال المحققون : هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل " وأيضاً فقول { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } يشعر ظاهره بالقول باللسانِ . فإن قيل : المراد من الصدقة إخراج المال ، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان : قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة ، والنفقات الواجبةِ . وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور . فقوله : " لنصَّدَّقنَّ " هل يتناولُ الأقسام الثلاثة ، أو لا ؟ فالجوابُ : أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة ، غير داخلة في الآية ، لقوله : " بخلوا به " والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب ؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك ، وتارك المندوب لا يذم . بقي القسمان الواجبان ؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية ، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر ، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه ؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله { لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر ، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه . فإن قيل : لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام ، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام ، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ . فالجوابُ : قوله : " لنصَّدقنَّ " لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور ؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل ، وهذا النذر لا يوجبُ الفور ؛ فكأنهم قالوا : لنصدقن في وقته كما قالوا : { وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } أي : في أوقات لزوم الصَّلاة ؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد ، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع ، ويؤكد هذا ما روي في سبب النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ . فصل المرادُ من " الفضل " ههنا : إيتاء المالِ بأي طريق كان ، إمَّا بتجارة ، أو غنيمةٍ أو غير ذلك . والمرادُ بـ " الصَّالحينَ " : الصالح ضد المفسد ، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف ، فالصَّالح : من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير ، ونحو ذلك . ثم قال تعالى : { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } . قال الليثُ : يقال : أعقب فلاناً ندامةٌ ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك ، قال الهذليُّ : [ الكامل ] @ 2817 - أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ @@ ويقال : أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً ، وأعقبه الله خيراً ، والمعنى : أخلفهم في قلوبهم أي : صير عاقبة أمورهم النفاق ، عاقبهم بنفاق في قلوبهم ، يقال : عاقبته وأعقبته بمعنى . فصل " فأعقبهم " فعل ، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى ، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض ، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح ، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير ؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب ؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب ؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ ، والجهل وجود ، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود ؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض ، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق ؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه ، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً ؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً ؛ ولأنه تعالى قال : { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } [ التوبة : 77 ] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل ، والتولي ، والإعراض لصار تقدير الآية : فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ، وذلك لا يجوز ؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي ، ومعلومٌ أنه كلام باطل ؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى ؛ فوجب إسناده إليه ؛ فصار المعنى : أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى ، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ ، إنَّ معناه : أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل ، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } فالضميرُ في قوله : " يَلقَوْنَهُ " عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله : " فأعْقَبَهُمْ " مسنداً إلى اللهِ تعالى . قال القاضي " المرادُ من قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي : حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة " . وهذا بعيدٌ ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً ، قوبلوا بدليل عقلي . والله أعلم . فصل ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد ، وخلف الوعد ، يورثُ النِّفاقَ ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك ، ويجتهد في الوفاءِ . ومذهب الحسنِ البصري : أنَّه يوجب النفاق لا محالة لهذه الآية ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ ، إذا حدَّث كذبَ ، وإذا وعدَ أخلفَ ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ " . ونقل أن واصل بن عطاء قال : أتى الحسن رجلٌ فقال له : إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم { فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ } [ يوسف : 17 ] فكذبوهُ ، ووعدوه في قولهم : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : 12 ] فأخلفوه ، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل نحكمُ بكونهم منافقين ؟ قيل : فتوقف الحسن في مذهبه . وفسَّر عمرو بن عبيد الحديث فقال " إذا حدَّث عن الله كذب عليه ، وعلى دينه ، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله ، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه " . قوله : { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } قال الجبائيُّ " تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل قوله في صفة المنافقين { إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه ؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية . ويؤيدُه قوله عليه الصلاة والسلام " من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ " وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا " . قال ابن الخطيب " وهذا دليلٌ ضعيفٌ ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية ، وفي الخبر لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور ، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل ؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك " . قوله : { بِمَآ أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } أي : أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد ، وعلى كذبهم . وقرأ الجمهور " يَكْذبُونَ " مخففاً ، وأبو رجاء مثقلاً . قوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } الآية . قرأ الجمهور " يَعْلمُوا " بالياء من تحت . وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ ، والحسنُ ، والسلمي بالخطاب ، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر : ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى : ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم ، مأخوذ من " النَّجْوِ " وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما ، ونظيره قوله تعالى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } [ مريم : 52 ] وقوله تعالى : { فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } [ يوسف : 80 ] وقوله : { فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [ المجادلة : 9 ] ، والمعنى : أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم ، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم ، كما يعلم الظَّاهر ، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر . قال : { وَأَنَّ ٱللَّهَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } والعَلاَّمُ : مبالغة في العالم ، والغيب : ما كان غَائِباً عن الخلق . قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية . في " ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ " أوجه : أحدها : أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ ، أي : هم الذين . الثاني : أّنَّه في محل رفع بالابتداء ، و " مِنَ الُمؤمنينَ " حالٌ من " المطَّوِّعين " . و " في الصَّدقاتِ " متعلق بـ " يَلْمِزُونَ " ، و " الَّذِينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ " المُطَّوِّعينَ " أي : يَعيبُونَ المياسير ، والفقراء . وقال مكيٌّ : " والَّذينَ " خفضٌ ، عطفاً على " المُؤمنينَ " ولا يَحْسُن عطفهُ على " المُطَّوِّعين " ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد ؛ لأنَّ " فَيَسْخَرُونَ " عطف على " يَلْمِزُونَ " هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له ، وهو عندي وهمٌ منه . قال شهابُ الدِّين : " والأمر فيه كما ذكر ، فإنَّ " المُطَّوِّعينَ " قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره " . وقوله : " فَيَسْخرُونَ " نسقٌ على الصِّلةِ ، وخبر المبتدأ : الجملةُ من قوله " سَخِرَ اللهُ منهُمْ " هذا أظهرُ إعراب قيل هنا . وقيل : " والَّذينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " الَّذِينَ يَلْمِزُونَ " ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله : { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } ، وهذا لا يكون ، إلاَّ بأنْ كان " الَّذِينَ لا يَجِدُون " مُنافقينَ ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين ، كيف يسخرُ الله منهم ؟ . وقيل : " والَّذِينَ لا يَجِدُونَ " نسقٌ على " المُؤمنينَ " ، قاله أبُو البقاءِ . قال أبُو حيَّان : " وهُو بعيدٌ جدّاً " . ووجهُ بعده : أنَّه يفهمُ أنَّ " الَّذِينَ لا يجدُونَ " ليسوا مؤمنين ؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ ، فكأنَّهُ قيل : يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من هذين الصنفين : المؤمنين ، والذين لا يجدُونَ ؛ فيكون " الَّذِينَ لا يجدون " مطَّوِّعين غير مؤمنين . وقال أبُو البقاءِ : " فِي الصَّدقاتِ " متعلقٌ بـ " يَلمِزُونَ " ، ولا يتعلَّق بـ " المُطَّوِّعينَ " لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي . وهذا فيه نظر ؛ إذ قوله " مِنَ المؤمنينَ " حال ، والحالُ ليست بأجنبيّ ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن " يطَّوَّع " إنَّما يتعدى بالياءِ ، لا بـ " في " وكون " في " بمعنى " الباء " خلاف الأصل . وقيل : " فَيَسْخَرُونَ " خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط ، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم : " سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا " . الثالث : أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال ، بإضمار فعل يُفسِّره " سَخِرَ اللهُ منهُم " من طريق المعنى ، نحو : عاب الذين يلمزُون ، سخر الله منهم . الرابع : أنْ ينصب على الشتم . الخامس : أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في " سِرَّهُم ونجْواهُمْ " . وقرئ " يلْمُزون " بضم الميم ، وقد تقدَّم أنَّها لغة ، وقرأ الجمهور " جُهْدَهم " بضمِّ الجيمِ . وقرأ ابنُ هرمز وجماعة " جَهْدهم " بالفتح . فقيل : لغتان بمعنى واحد . وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ : الطَّاقةُ ، قالهُ القتيبيُّ ، وقيل : المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ : العملُ . وقوله : { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } يحتملُ أن يكون خبراً محضاً ، وأن يكون دعاءً . فصل اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ . قال المفسِّرون : حثَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الصَّدقةِ ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم ، فقال : يا رسول الله ، مالي ثمانية آلاف درهم ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي . فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ ، وفيمَا أمْسَكْتَ " فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن ، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات ؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر . وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب ، بصاعٍ من تمرٍ ، وقال : يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي ، وجئتُ بالآخر ؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصَّدقاتِ ؛ فلمزهم المنافقُون ، وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً ، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات ؛ فأنزل الله تعالى : " الَّذِينَ يلْمِزُون " أي : يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات ، يعني : عبد الرحمن بن عوف وعاصماً ، { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } أي : طاقتهم . والجُهْدُ : شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ ، والجهد بالفتح ، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني : أبا عقيل : " فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ " يستهزئون منهم ، { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } أي : جازاهم على السخرية ، وقال الأصمُّ : المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها ؛ فكان ذلك كالسخرية ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . قوله تعالى : { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية . قال ابنُ عبَّاسٍ : إنَّ عند نزول الآية في المنافقين ، قالوا : يا رسول الله ، استغفر لنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأسْتغفرُ لَكُمْ " ؛ فنزل قوله تعالى : { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] لفظه أمر ، ومعناه خبر ، تقديره : استغفرت لهم ، أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم . قال الضحاك : " لما نزلت هذه الآيةُ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله قد رخَّص لي فلأزيدنَّ على السبعين لعلَّ الله أن يغفر لهُمْ " فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } [ المنافقون : 6 ] { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } . قوله : " سَبْعينَ مرَّةً " منصوبٌ على المصدر ، كقولك : ضربته عشرين ضربة ؛ فهو لعدد مرَّاته وقوله : { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } [ التوبة : 53 ] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله : [ الطويل ]