Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 81-85)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ } الآية . " بِمَقْعدِهِم " متعلقٌ بـ " فرح " ، وهو يصلحُ لمصدر " قَعَدَ " ، وزمانه ومكانه . قال الجوهريُّ " قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً " ، جَلس ، وأقعَده غيره " والمخلف : المتروكُ ، أي : خلفهم الله وثبطهم ، أو خلفهم رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنون ، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ بـ " المقعد " ههنا المصدر ، أي ؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة . وقال ابنُ عبَّاسٍ : يريدُ : المدينة ؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ . فإن قيل : إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله ؛ فكان الأولى أن يقال : فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون ، وكان هذا في غزوة تبوك ؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين . وثانيها : أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } [ التوبة : 83 ] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين . وثالثها : أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض ، وبقي وأقام . قوله : { خِلاَفَ رَسُولِ ٱللَّهِ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدها : أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله " مَقْعدِهِمْ " ؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا ، أي : تخلَّفوا خلاف رسول الله . الثاني : أنَّ " خلاف " مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه إمَّا " فَرِحَ " ، وإمَّا " مَقْعَد " أي : فَرِحُوا ؛ لأجل مخالفتهم رسول الله ، حيثُ مضى هو للجهاد ، وتخلَّفوا هم عنه ، أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبريُّ ، والزجاج ، ومؤرِّج ، وقطرُب ، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ " خُلْف " بضم الخاء وسكون اللاَّم . والثالث : أن ينتصب على الظرف ، أي : بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أي : تخلَّف بعد ذهابهم . قال الأخفش وأبو عبيدة : إنَّ " خلافَ " بمعنى : " خَلْف " ، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه : بعد رسول الله . ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ ، وأبو حيوة ، وعمرو بن ميمون " خَلْفَ " بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ . وعلى هذا القول ، الخلاف : اسم للجهةِ المعينة كالخلف ، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها ، و " خِلافَ " بمعنى " خَلْف " مستعمل ، وأنشد أبو عبيدة للأحوص : [ الكامل ] @ 2819 - عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا @@ وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2820 - فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ @@ قوله تعالى : { وَكَرِهُوۤاْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : إنَّهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو . واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب ، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد ، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة ؛ لأجل إلفه البلدة ، واستئنائه بأهله وولده ، وكره الخروج إلى الغزو ؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهو المرادُ من قوله : { لاَ تَنفِرُواْ فِي ٱلْحَرِّ } ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : يعلمون ، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود ، أي : بعد هذه الدَّار ، دار أخرى ، وبعد هذه الحياة حياة أخرى ، وأيضاً هذه مشقة منقضية ، وتلك مشقة باقية . وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم : [ الطويل ] @ 2821 - مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ @@ قوله تعالى : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا } الآية . " قَلِيلاً " ، و " كَثِيراً " فيهما وجهان : أظهرهما : أنَّهما منصوبان على المصدر ، أي : ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً ؛ فحذف الموصوفَ ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه . والثاني : أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان ، أي : زماناً قليلاً ، وزماناً كثيراً والأول أولى ؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين : بلفظه ومعناه ، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه ، بل بهيئته الخاصَّةِ . وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة ، لقوله تعالى بعده { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } . قوله : " جَزَاءً " فيه وجهان : الأول : قال الزَّجَّاج : إنَّه مفعولٌ لأجله ، أي : سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم . و " بِمَا " متعلق بـ " جزاء " ، لتعديته به ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّه صفته . والثاني : أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : يُجْزونَ جزاءً . { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } في الدنيا من النِّفاق . قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ } الآية . " رَجَعَ " يتعدَّى كهذه الآية الكريمة ، ومصدرُهُ : " الرَّجْع " ، كقوله { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } [ الطارق : 11 ] . ولا يتعدَّى ، نحو : { وَإِلَيْنَا تَرْجَعُونَ } [ الأنبياء : 35 ] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل . والمصدر : الرُّجوعُ ، كالدُّخُولِ . والمعنى : فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة ، ومعنى " الرجع " مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه ، يقال : رجعته رجعاً ، كقولك : رددته رداً . وقوله : { إِلَىٰ طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } إنَّما خصَّصَ ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان بعضهم مخلصين معذورين ، { فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } معك في غزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً } في سفر ، { وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم ، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم ؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عليه الصلاة والسلام ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروجِ إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان ، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام ، ونظيره قوله تعالى { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ } [ الفتح : 15 ] إلى قوله { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } [ الفتح : 15 ] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ } أي : لأنكم رضيتم { بِٱلْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } في غزوة تبوك . قال أبُو البقاءِ : " أوَّل مرَّةٍ " ظرف . قال أبُو حيَّان " يعني ظرف زمان وهو بعيد " . قال شهابُ الدِّين " لأنَّ الظَّاهر أنَّها منصوبةٌ على المصدر . وفي التفسير : أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أول مرَّة من الخروج " . قال الزمخشريُّ " فإن قلت : " مَرَّةٍ " نكرة ، وضعت موضع المرات ، للتفضيل ، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها ، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ ؟ قلت : أكثرُ اللُّغتين : أن يقال هند أكبرُ النساء ، وهي أكبرهنَّ ، ثم إنَّ قولك : هي كبرى امرأة ، لا يكادُ يُعثر عليه ، ولكن هي أكبر امرأة ، وأول مرة وآخر مرة " . والمعنى : أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم ؛ فبعد ذلك لا نقبلكم ، ولا نلتفتُ إليكم . قوله : " مَعَ ٱلْخَالِفِينَ " هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً بـ " اقْعُدُوا " ، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حال من فاعل " اقْعُدُوا " . والخَالِفُ : المتخلِّفُ بعد القوم . قال الأخفشُ ، وأبو عبيده : " الخَالِفُونَ " جمع ، واحدهم " خالف " ، وهو من يخلف الرجل في قومه . والمعنى : مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت ، فلا يبرحون . وقال الفرَّاءُ : المراد : بـ " الخَالِفينَ " ، يقالُ : عبد خالف ، إذا كان مخالفاً . وقال الأخفشُ : فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم ، وقال الليثُ : يقال هذا رجل خالفةٌ ، أي : مخالف كثير الخلاف ، فإذا جمع قلت : الخالفُونَ . وقال الأصمعيُّ : الخالفُ : هو الفاسد ، يقال : خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً ، إذا فسد ومنه " خُلُوف فَمِ الصَّائمِ " ، والمراد بهم : النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون ؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب . وقال قتادةُ : الخَالِفُونَ : النِّسَاء " وهو مردودٌ ، لأجْلِ الجمع . وقرأ عكرمة ، ومالكُ بن دينارٍ " مَعَ الخَلِفينَ " مَقصُوراً من " الخَالِفِينَ " ؛ كقوله : [ الرجز ] @ 2822 - مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ @@ وقوله : [ الرجز ] @ 2823 - … عَرِدَا … بَرِدَا @@ يريد : " الظِّلال " و " عَرِدًا " : بَارِدًا . قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم } الآية . " مِنْهُم " صفةٌ لـ " أحَدٍ " ، وكذلك الجملة من قوله : " مَاتَ " ، في موضع جر أيضاً كأنه قيل : على أحدٍ منهم ميت ، ويجوزُ أن يكون " مِنْهُم " حالاً من الضَّمير في " مَاتَ " أي : مات حال كونه منهم ، أي : مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ ، كقولهم : أنت مني ، يعني : على طريقتي و " أبَداً " ظرف منصوب بالنهي ، وهذا الظَّرفُ متعلق بـ " أحَد " ، والتقدير : ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم . فصل اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم ، ويذلهم ، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم . روى ابنُ عبَّاسٍ : أنَّه لمَّا أشْتَكَى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ، ويقوم على قبره ، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه قميصه ، ليكفن فيه ؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني ، فردَّه ، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه ، فقال عمرُ : لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً ، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام " وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص ، ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألفٌ . فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه ، فقال عليه الصلاة والسلام لابنه : " صَلِّ عليْهِ وادْفِنْهُ " ، فقال : إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ ، فقام صلى الله عليه وسلم ، ليصلِّي عليه ؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ؛ لئلاَّ يصلي عليه ، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } ، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر ؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها : آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق ، ومنها : " آية تحريم الخمر " [ المائدة : 90 ] ، ومنها : " آية تحويل القبلة " [ البقرة : 142 ] ، ومنها : آية أمر النِّساء بالحجاب ، وهذه الآية ؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً ، ودرجة رفيعة في الدِّين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً " . قال القرطبيُّ : إن قال قَائِلٌ ، كيف قال له عمر : أتصلي عليه ، وقد نهاكَ اللهُ أنْ تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم ؟ قيل له : يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره ، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده ، كما قال : وافقت ربي في ثلاث ، وجاء : في أربع ؛ فيكون هذا من ذاك . ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله : { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] الآية ، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 113 ] فإن قيل : كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره ، وأنَّ صلاة الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له ، وذلك محظورٌ ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة ، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه ؟ . فالجواب : لعلَّ السَّبب فيه ، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عليه الصلاة والسلام - القميص الذي يمسّ جلده ، ليدفن فيه ، غلب على ظنّ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنه آمن ؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر ، وإيمان الكافر ، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام ، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه ، غلب على ظنِّه إسلامه ؛ فبنى على هذا الظَّن ، ورغب في الصلاة عليه ، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه ؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه ، فقيل : إن العباس عم الرسول - عليه الصلاة والسلام - لمَّا أسر ببدر لم يَجِدُوا له قميصاً ، وكان رجلاً طويلاً ؛ فكساهُ عبد الله قميصه . وقيل : إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ : إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ ، ولكنَّا ننقاد لك ، فقال : لا ، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً ؛ فشكر رسولُ الله له ذلك . قال ابنُ عينية : كانت له عند النبي صلى الله عليه وسلم يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ . وقيل : إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً ، لقوله تعالى : { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [ الضحى : 10 ] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه ، لهذا المعنى . وقيل : إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين ؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل : لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه ، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ ، فقيل لهذا الغرض ، كما روي فيما تقدَّم ، وقيل : إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فامتنع من الصَّلاة عليه ، لأمر الله تعالى ، ودفع القميص رأفة ورحمة . واعلم أنَّ قوله { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } يحتملُ تأبيد النَّفي ، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيًّا دائماً . ثم قال : { وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ } وفيه وجهان : الأول : قال الزَّجَّاجُ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له " فمنع منه ههنا . الثاني : قال الكلبي : " لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره ، ولا تتولّ دفنه " ، من قولهم : قام فلانٌ بأمر فلان ، إذا كفاه أمره ، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه ، والقيام على قبره بقوله : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ } . فإن قيل : الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر ، فلما علل بكونه كافراً ؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق ؟ . فالجوابُ : أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه ، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه ، بالكذب ، والخداع ، والمكر ، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان ، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات ، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر ، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم . فإن قيل : قوله { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ } صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة ، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى ، وهو محال ، فإنَّ حكم الله قديمٌ ، وهذه العلة محدثة ، وتعليل المحدث بالقديم محال . فالجوابُ : أنَّ البحث في هذه المسألة طويل ، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه . فصل قال القرطبي : قوله تعالى : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار ، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين ، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين ؟ فقيل : يُؤخذ ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ ، لقوله تعالى { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] يعني : الكفَّار ؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون . وقيل : إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج ، وهو الأحاديث ، والإجماع . ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه . فصل جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات . وقال ابنُ سيرين : كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً ، وعن ابن مسعود ، وزيد بن أرقم ، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ : ست تكبيرات . فصل قال القرطبيُّ : ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ . وكذا أبو حنيفة والثوري ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ " وذهب الشافعيُّ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ ، ومحمدُ بنُ سلمة ، وأشهب ، وداوود : إلى أنه يقرأ بالفاتحة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ " . والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل ، وعند عجيزةِ المرْأةِ . قوله تعالى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ } الآية . قيل : هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة . وقال الفارسيُّ : " ليست للتأكيد ؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين ، وقد تغاير لفظا الآيتين ؛ فهنا " ولاَ " بالواو ، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله : " ولا تُصَلِّ … ولا تَقُمْ " ، " ولاَ تُعْجِبكَ " ، فناسبَ ذلك " الواو " ، وهناك بـ " الفاء " ، لمناسبة تعقيب قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } [ التوبة : 54 ] أي : للإنفاق ، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ ، فنهاهُ عن الإعجاب بـ " فاء " التعقيب . وهنا " وأولاَدهُمْ " دون " لا " نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة " لا " لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد ، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين " . قال ابنُ الخطيبِ " السَّبَبُ فيه : أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف ، فيقال : لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير ، ولا أمر الوزير ، وهذا يدلُّ على أنَّهُ كان إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم ، وفي هذه الآية يدلُّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم " . وهنا قال " أن يُعذِّبَهُم " ، وهناك قال " ليُعَذِّبَهُم " ، فأتى بـ " اللاَّم " المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ ، أي : إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى بـ " أنْ " ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ ، أي : إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم ، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين . هذا هو الظَّاهر . وقال ابنُ الخطيب " فائدته : التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه " أنْ " لقوله تعالى { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ } [ البينة : 5 ] ، أي : " وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله " . وهناك " فِي الحياةِ الدُّنْيَا " ، وهنا سقطت " الحَيَاة " ، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة ، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين ؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة " .