Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 86-90)

Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } الآية . " إذَا " لا تقتضي تكراراً بوضعها ، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا ، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة ؛ وأنشد عليه : [ البسيط ] @ 2824 - إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي … @@ وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ ، لا منْ وضع " إذَا " . قوله : " أَنْ آمِنُواْ " فيه وجهان : أحدهما : أنَّها تفسيريةٌ ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه . والثاني : أنَّها مصدريةٌ ، على حذف حر الجرّ ، أي : بأنْ آمنُوا . وفي قوله : " ٱسْتَأْذَنَكَ " التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطاب ، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ " رسُوله " ، فلو جاء على الأصل لقيل : اسْتَأْذَنَهُ " . فصل اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ، والقعود عن الغَزْوِ ، وزاد ههنا ، أنَّهُ متى نزلت آية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو ، وقالوا للرَّسُول عليه الصلاة والسلام : ذَرْنَا نكُن مع القاعدين ، أي : مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد . و " السُّورة " يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل : المرادُ بـ " السُّورة " براءة ؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد . قوله { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } . الخَوالِفُ : جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ ، وهذه صفةُ ذمّ ؛ كقول زهير : [ الوافر ] @ 2825 - ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ ؟ فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ @@ وقال آخر : [ الخفيف ] @ 2826 - كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ @@ وقال النَّحَّاسُ " يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ ، بمعنى أنَّها جمعُ " خالفة " يقال : رجل خالفة ، أي : لا خير فيه " . فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور ، باعتبار لفظه . وقال بعضهم : إنَّه جمع " خالف " ، يقال : رجل خالفٌ ، أي : لا خير فيه . وهذا مردودٌ ، فإنَّ " فواعِل " لا يكونُ جمعاً لـ " فَاعلِ " ، وصفاً لعاقل ، إلاَّ ما شذَّ ، من نحو : فَوَارِس ، ونَواكِس وهَوالك . ثم قال تعالى : { وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ التوبة : 87 ] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم ، أوَّل البقرة . قوله تعالى : { لَـٰكِنِ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } الآية . ومعنى هذا الاستدراك : أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو ؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلاۤءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ الأنعام : 89 ] وقوله : { فَإِنِ ٱسْتَكْبَرُواْ فَٱلَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [ فصلت : 38 ] ، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ ، وهي أنواع ، أوَّلها : قوله { وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلْخَيْرَاتُ } والخيراتُ : جمع خَيْرة ، على " فَعْلة " بكسون العين ، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ ، وغلبَ استعماله في النِّساء ، ومنه قوله تعالى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الكامل ] @ 2827 - ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ @@ قال المُفسِّرونَ : هي الجواري الحسان والجنَّة . وقال ابنُ عبَّاس : " الخيْرَاتُ " لا يعلم معناهُ إلاَّ الله ، كما قال جلَّ ذكرهُ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ٍ . وقيل : المرادُ : بـ " الخَيْرَات " الثَّواب . وثانيها : قوله : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } ، والمرادُ منه : التخلص من العقاب . وثالثها : قوله : { أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة ، والفلاح على منافع الدُّنيا ، كالغزو ، والثروة ، والقدرةِ ، والغلبةِ ، و " الفَوزُ العظيمُ " عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه ، ودرجة عالية . قوله تعالى : { وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ } الآية . لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة ، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب . قرأ الجمهور " المُعذِّرُونَ " بفتح العين وتشديد الذَّال ، وهي تحتمل وجهين : أن يكون وزنه " فعَّل " مضعّفاً ، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف ، والمعنى : أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً ، ولا عذر لهُ . والثاني : أن يكون وزنه " افْتَعَل " ، والأصلُ : " اعتذرَ " ، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً ، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها ، وهو العين ، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير " المُعْتَذِرُونَ " على الأصل ، وإليه ذهب الأخفشُ ، والفرَّاءُ وأبو عبيد ، وأبو حاتم ، والزَّجَّاجُ ، وابن الأنباري ، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ ، كما في قوله { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 94 ] ، وكان ذلك الاعتذار فاسداً ، لقوله : " لا تَعْتذرُوا " ، وقد يكون بالصِّدقِ ، كقول لبيد : [ الطويل ] @ 2828 - … ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ @@ يريد : فقد جاء بعُذْرٍ . وقرأ زيد بن عليّ ، والضحاكُ ، والأعرجُ ، وأبو صالح ، وعيسى بن هلال ، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً ، ويعقوب ، والكسائي " المُعْذرُونَ " بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر ، يُعْذِر كـ " أكْرَم ، يُكْرِم " ، وهم المبالغون في العُذْرِ . وقرأ مسلمةُ " المُعَّذِّرُون " بتشديد العين والذال ، من " تعذَّرَ " بمعنى اعْتذرَ . قال أبُو حاتمٍ : أراد " المتعذِّرون " والتاء لا تدغم في العين ، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه ، أو عليه . قوله : " ليُؤذنَ " متعلقٌ بـ " جَاءَ " وحذفَ الفاعلُ ، وأقيمَ الجارُّ مقامه ، للعلم به ، أي : ليأذن لهم الرسول . فصل أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر ، وأمَّا قراءة التشديد ، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين ، وأن يكُونُوا كاذبينَ . قال ابنُ عبَّاسٍ " هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صلى الله عليه وسلم " وهو قول بعض المفسرين أيضاً ، قال : المعذرون ، كانوا صادقين ؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ . وقال الضَّحَّاكُ : هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عن أنفسهم ، فقالُوا : يا نبيَّ الله : إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا ، وأولادنا ، ومواشينا ، فقال لهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم قد نَبَّأني الله من أخباركم ، وسيغنيني الله عنكم . وروى الواحديُّ عن أبي عمرو : أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال : إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله : " وَجَآءَ ٱلْمُعَذِّرُونَ " ، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى ؛ فهم المرادون بقوله { وَقَعَدَ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، فأوعدهُم بقوله : { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ } في الدُّنيا بالقتلِ ، وفي الآخرة بالنَّارِ . وإنَّما قال " مِنْهُم " ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن ، فذكر بلفظة " مِنْ " الدَّالة على التَّبعيض . وقرأ الجمهور " كَذبُوا " بالتَّخفيف ، أي : كذبُوا في أيمانهم . وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ ، وإسماعيل " كذَّبُوا " بالتَّشديد ، أي : لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره .