Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 91-94)
Tafsir: al-Lubāb fī ʿulūm al-kitāb
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثمَّ ذكر أهل العذر فقال : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } قال ابنُ عبَّاسٍ : يعني : الزَّمنى ، والمشايخ والعجزة . وقيل : هم الصُّبيان . وقيل : النِّسوان . { وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } وهم أصحاب العمى ، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة ، { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } يعني : الفقراء ؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين ، " حَرَجٌ " إثم . وقيل : ضيق عن القعود في الغزو . ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً ، فقال { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } . قرأ أبو حيوةَ : " نَصَحُوا اللهَ " بغير لام . وقد تقدَّم أن " نَصَحَ " يتعدَّى بنفسه وباللامِ . والنُّصح : إخلاص العملِ من الغِشّ . ومنه : التَّوبة النصُوح . قال نفطويه : نصح الشيء : إذا خلص ، ونصح له القول : أي : أخلصه له . قال عليه الصلاة والسلام : " " الدِّينُ النَّصيحَةُ " ثلاثاً . قالوا لمنْ ؟ قال : " للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ " . قال العلماءُ : النَّصيحة للهِ : إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص ، والرَّغبة في محابه ، والبُعْد من مساخطه ، والنَّصيحة لرسوله : التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنَّته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والنفقة فيها ، والذب عنها ، ونشرها ، والدُّعاء إليها ، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة ، وكذا النصح لكتاب الله قراءته ، والتفقه فيه ، والذَّب عنه ، وتعليمه وإكرامه ، والتخلُّق به . والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحقِّ ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين ، ولزوم طاعتهم ، والقيام بواجب حقهم . وأمَّا النصحُ للعامَّةِ : فهو ترك معاداتهم وإرشادهم ، وحب الصَّالحين منهم ، والدعاء لجميعهم ، وإرادة الخير لكافتهم . والمعنى : أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف ، ولا يثيروا الفتنَ ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم ، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ، ويخلصوا الإيمان والعمل لله ، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ . ثم قال تعالى : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } فقوله " مِنْ سبيلٍ " فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، والجار قبله خبره . وعلى كلا القولين فـ " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، أي : ما على المحسنين سبيل . والمعنى : أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد . { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال قتادةُ : نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه . وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم ، وكان ضريراً . فصل قال بعضهم : في هذه الآية نوعٌ من البديع ، يُسمَّى التلميح ، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ ، أو مثل سائرٍ ، أو شعرٍ نادرٍ ، في فحوى كلامك من غير ذكره ؛ ومنه قوله : [ البسيط ] @ 2829 - اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ @@ يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه : " اليوم خَمْرٌ ، وغداً أمرٌ " . وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2830 - فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ ؟ @@ يشير إلى قصَّة يوشع عليه الصلاة والسلام ، واستيقافه الشَّمس . وقول الآخر : [ الطويل ] @ 2831 - لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ @@ أشار إلى البيت المشهور : [ البسيط ] @ 2832 - المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ @@ فكأنه قوله : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس ؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه . ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله : " من غير ذكره " . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً . فصل اختلفوا في قوله : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } هل يفيدُ العموم ؟ فقال بعضهم : لا ؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم . وقال آخرون : بلى ؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان ، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها ، كان من المسلمين ، فاقتضت نفي جميع المسلمين ؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ ، إلاَّ بدليلٍ منفصل ، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة ، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة ، إلى أن يرد نص خاص . قوله : { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ } . فيه أوجه : أحدها : أن يكون معطوفاً على " الضُّعفاء " ، أي : ليس على الضعفاءِ ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ ، فيكونون داخلين في خبر " ليس " مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها ، وهو " حَرَجٌ " . الثاني : أن يكون معطوفاً على " المُحْسنينَ " فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله : " مِنَ سبيلٍ " ، فإنَّ " مِنْ سبيلٍ " يحتمل أن يكون مبتدأ ، وأن يكون اسم " ما " الحجازية ، و " مِنْ " مزيدةٌ في الوجهين . الثالث : أن يكون " ولا علَى الَّذِينَ " خبراً لمبتدأ محذوف ، تقديره : ولا على الذين إذا ما أتوكَ … إلى آخر الصلة ، حرجٌ ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه ، قاله أبُو البقاءِ . ولا حاجةَ إليه ، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى . وهذا الموصولُ ، أعني قوله : { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ } ، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله : { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم ، وألا يكونوا مندرجين ، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً . وقرأ معقل بنُ هارون " لنَحْملَهُمْ " بنون العظمة ، وفيها إشكالٌ ، إذ كان مقتضى التركيب : قلت : لا أجدُ ما يحملكم عليه الله . قوله : " قُلْتَ " فيه أربعة أوجهٍ ، أحدها : أنَّهُ جواب " إذا " الشَّرطيَّة ، و " إذَا " وجوابها في موضع الصِّلةِ ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية ، وعلى هذا ؛ فيكونُ قوله : " تولَّوا " جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال : ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب ؟ فأجيب بقوله : " تَوَلَّوْا " . الثاني : أنَّه في موضع نصب على الحال ، من " أتوكَ " ، أي : إذَا أتوكَ ، وأنت قائلٌ : لا أجدُ ما أحملكم عليه ، و " قَدْ " مقدرة ، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً ، كقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] في أحد أوجهه كما تقدَّم ، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ . الثالث : أن يكون معطوفاً على الشَّرط ؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف ، والتقدير : وقلت ، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني ، وتبعه ابنُ عطيَّة ، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي : فقلت . الرابع : أن يكون مستأنفاً . قال الزمخشريُّ " فإن قلت : هل يجُوزُ أن يكون قوله : " قلت لا أجدُ " استئنافاً مثله ؟ - يعني مثل : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } [ التوبة : 93 ] - كأنَّه قيل : إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا ، فقيل : ما لهُم تولَّوا باكينَ ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء ، كالاعتراض ؟ قلتُ : نعم ، ويحسنُ " انتهى . قال أبُو حيَّان " ولا يجوزُ ، ولا يحسن في كلام العربِ ، فكيف في كلام الله ؟ وهو فهم أعجمي " قال شهابُ الدين : وما أدري ما سببُ منعه ، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى ؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام ليحملهم ، بل على قوله لهم : " لا أجدُ مَا أحْملكُمْ " وإذا كان كذلك فقوله - عليه الصلاة والسلام - لهم ذلك سببٌ في بكائهم ؛ فحسن أن يجعل قوله : " قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ " جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم ، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً ، وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في " قُلْتَ " يكون جواب الشَّرط قوله : " تولَّوا " ، وقوله " لِتحْمِلهُمْ " علة لـ " أتَوْكَ " . وقوله : " لا أجدُ " هي المتعديةُ لواحدٍ ؛ لأنَّها من " الوُجْد " ، و " مَا " يجوز أن تكون موصولةً ، أو موصوفةً . فصل قال أبُو العباس المقرىء : ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه : الأول : بمعنى الانصراف ، قال تعالى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } [ التوبة : 92 ] ومثله قوله تعالى { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } [ القصص : 24 ] أي : انصرف . الثاني : بمعنى : " أبَى " ، قال تعالى { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم } [ المائدة : 49 ] أي : أبَوْا أن يؤمنوا ؛ ومثله قوله تعالى { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } [ النساء : 89 ] . الثالث : بمعنى : " أعرض " قال تعالى { وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [ النساء : 80 ] . الرابع : الإعراض عن الإقبال ، قال تعالى { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } [ الأنفال : 15 ] . قوله : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل " تولَّوا " . قال الزمخشريُّ " تفيضُ من الدَّمع ، كقولك : تفيض دمعاً " . وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله { تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } [ المائدة : 83 ] وأنَّهُ جعل " من الدَّمع " تمييزاً ، و " مِنْ " مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك . قوله : " حَزَناً " في نصبه ثلاثة أوجه : أحدها : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعاملُ فيه " تَفِيضُ " قاله أبو حيان . لا يقال : إنَّ الفاعل هنا قد اختلف ، فإنَّ الفيض مسند للأعين ، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين ، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف ؛ لأنَّا نقول : إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً ، يقال : عين حزينةٌ وسخينةٌ ، وعين مسرورةٌ وقريرة ، في ضد ذلك . ويجوز أن يكون النَّاصب له " تولَّوا " ، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً . الثاني : أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، أي : تولَّوا حزينين ، أو تفيض أعينهم حزينةً ، على ما تقدَّم من المجاز . الثالث : أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه ، أي : يحزنون حزناً ، قاله أبو البقاء . وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال ، إمَّا من فاعل " تولَّوا " ، وإمَّا من فاعل " تَفِيضُ " . قوله : " أَلاَّ يَجِدُوا " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، والعامل فيه " حزناً " إن أعربناه مفعولاً له ، أو حالاً . وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا ؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله . وعلى القول بأنَّ " حَزَناً " مفعول من أجله ، يكون " ألاَّ يَجِدُوا " علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن ، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة ، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } [ المائدة : 38 ] . الثاني : أنه متعلق بـ " تَفِيضُ " . قال أبو حيان : ولا يجوز ذلك على إعرابه " حَزَناً " مفعولاً له والعاملُ فيه " تفيضُ " ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ ، أو البدلِ . فصل قال المفسِّرون : هم سبعة نفر سموا البكائين ، معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وعلية بن زيد الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غنمة ، وعبد الله بن معقل المزني ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : إنَّ الله ندبنا للخروج معك ، فاحملنا . واختلفوا في قوله " لِتحْمِلهُم " قال ابنُ عبَّاس : سألوه أن يحملهم على الدَّوابِّ ، وقيل : سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ " فتولَّوا وهم يبكُون وقال الحسنُ : " نزلت في أبي موسى الأشعري ، وأصحابه ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضباً فقال : " والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ " فتولَّوا يبكون ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذوداً . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال : " أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ بيمينٍ فأرَى غيرَها خيراً منها ، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني " . ولمَّا قال تعالى : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال في هذه الآية : { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف : " وهُمْ أغنِيَاءُ " . قوله : " … رضُوا " فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ مستأنفٌ ، كأنَّهُ قال قائلٌ : ما بالهم استأذنوا في القعودِ ، وهُم قادرُون على الجهادِ ؟ فأجيب بقوله : { رَضُوا بِأن يكونوا مع الخَوالفِ } ، وإليه مال الزمخشريُّ . والثاني : أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ ، و " قَدْ " مقدَّرةٌ في قول . وتقدَّم الكلام في : " الخَوالفِ " . " وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ " قوله : " وطبعَ " نسقٌ على " رَضُوا " تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم ، وطبعُ الله على قلوبهم ، وقوله : " إنَّما السَّبيلُ على " فأتَى بـ " عَلَى " ، وإن كان قد يصلُ بـ " إلَى " ؛ لأنَّ " عَلى " تدلُّ على الاستعلاء ، وقلة منعة من تدخل عليه ، نحو : لي سبيل عليك ، ولا سبيل لي عليك ، بخلاف " إلى " فإذا قلت : لا سبيل عليك ، فهو مُغايرٌ لقولك : لا سبيل إليك ، ومن مجيء " إلَى " معه قوله : [ الطويل ] @ 2833 - ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ سبيلٌ ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا @@ وقول الآخر : [ البسيط ] @ 2834 - هَلْ مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ @@ قوله تعالى : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } . روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً ، فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل ، فقال الله { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لم نصدقكم . قوله : { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين . أولهما : " نا " ، والثاني : " مِنْ أخْبارِكُمْ " ، وعلى هذا ففي " مِنْ " وجهان : أحدهما : أنَّها غيرُ زائدةٍ ، والتقدير ، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم ، أو جملة من أخباركم ، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف . والثاني : أنَّ " مِنْ " مزيدةٌ عند الأخفشِ ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً ، والتقدير : قد نبَّأنا الله أخباركم . الوجه الثاني - من الوجهين الأولين - : أنَّها متعديةٌ لثلاثة ، كـ " أعْلَم " ، فالأولُ ، والثاني ما تقدَّم ، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به ، والتقدير : نبَّأنا الله من أخباركم كذباً ، ونحوه . قال أبو البقاء : " قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره : أخباراً من أخباركم مثبتة . و " مِنْ أخباركُم " تنبيه على المحذُوف وليست " مِنْ " زائدة ، إذ لو كانت زائدة ، لكانت مفعولاً ثانياً ، والمفعول الثالث محذوفٌ ، وهو خطأ ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث " . وقيل : " مِنْ " بمعنى " عن " . قال شهابُ الدِّين " قوله : إنَّ حذف الثالث خطأ " إن عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم ، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة . وقوله : { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علّة لانتفاءِ تصديقهم . ثم قال : { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } فيما تستأنفون ، أتتوبُون من نفاقكم أم تقيمون عليه ؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . فإن قيل : لمَّا قال : { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } فلمَ لَمْ يقل ، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ ؟ . فالجواب : أنَّ في وصفه تعالى بكونه { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة ، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد ، وفيه تخويف شديد ، وزجر عظيم لهم .