Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 14, Ayat: 13-18)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة ، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد ، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه ، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى ، عاطفاً لها على ما مضى ، فقال : { وقال الذين كفروا لرسلهم } مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه ، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم : والذي يحلف به ! ليكونن أحد الأمرين : { لنخرجنكم من أرضنا } أي التي لنا الآن الغلبة عليها { أو لتعودن في ملتنا } بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة ، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل { جعلوا أصابعهم في آذانهم } [ نوح : 7 ] وهو مجاز مرسل ، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله { فأوحى إليهم } أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم ، مختصاً لهم بذلك { ربهم } المحسن إليهم الذي توكلوا عليه ، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم ، وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً ، قائلاً : { لنهلكن } بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر ؛ والإهلاك : إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس { الظالمين * } أي العريقين في الظلم ، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر ، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم { ولنسكننكم } أي دونهم { الأرض } أي مطلقها وخصوص أرضهم ، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال : { من بعدهم } بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا ، فكأنه قيل : هل ذلك خاص بهم ؟ فقيل : لا ، بل { ذلك } أي الأمر العالي المرام { لمن خاف مقامي } أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه : ماذا تكون عاقبته فيه ، وهو أبلغ من : خافني ، { وخاف وعيد * } لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده ، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى { واستفتحوا } على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا { وخاب كل جبار عنيد } فأهلكناهم كلهم ، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله ؛ والعناد : الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً ، من عند عن الحق عنوداً ، والجبرية : طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة ، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له ؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب ، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر ، وعبر عن غفلته عنه بقوله : { من ورائه جهنم } أي لا بد أنه يتبوأها . ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً ، بني للمفعول قوله : { ويسقى } أي فيها { من ماء صديد } وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم { يتجرعه } أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته ، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله { ولا يكاد يسيغه } ولا يقرب من إساغته ، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس { ويأتيه الموت } أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات { من كل مكان } والمكان : جوهر مهيأ للاستقرار ، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته { وما هو بميت } أي بثابت له الموت أصلاً . لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه ، والموت : عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية { ومن ورائه } أي هذا الشخص ، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه ، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله { عذاب غليظ * } يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء ، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة ، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر ، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ . فلما فرغ من محاوراتهم ، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء ، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال : { مثل } وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة { الذين كفروا } مستهينين { بربهم } مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق ، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام ، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً . ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل ، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال : ما مثلهم ؟ فقال : { أعمالهم } أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك ، في يوم الجزاء ، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية . وهو وخبره خبر المبتدأ الأول ، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة { كرماد } وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار { اشتدت به الريح } أي أسرعت بالحركة على عظم القوة ؛ والريح : جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب ، والرياح خمس : شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء { في يوم عاصف } أي شديد الريح ، فأطارته في كل صوب ، فصاروا بحيث { لا يقدرون } أي يوم الجزاء ؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال ، قدم قوله : { مما كسبوا } في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم { على شيء } بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس ، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد ، بل { ذلك } أي الأمر الشديد الشناعة { هو } أي خاصة { الضلال البعيد * } الذي لا يقدر صاحبه على تداركه .