Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 111-113)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما تقدم كثير من التحذير والتبشير ، وتقدم أنه لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ، وختم ذلك بانحصار الخسار في الكفار ، بيَّن اليوم الذي تظهر فيه تلك الآثار ، ووصفه بغير الوصف المقدم باعتبار المواقف ، فقال تعالى مبدلاً من { يوم نبعث من كل أمة شهيداً } { يوم تأتي } أي فيه { كل نفس } أي إنسان وإن عظم جرمها { تجادل } أي تعتذر ، وعبر بالمجادلة إفهاماً للذفع بأقصى ما تقدر عليه ، وأظهر في قوله : { عن نفسها } أي ذاتها بمفردها لا يهمها غير ذلك لما يوهم الإضمار من أن كل أحد يجادل عن جميع الأنفس . ولما كان مطلق الجزاء مخوفاً مقلقاً ، بني للمفعول قوله : { وتوفَّى كل نفس } صالحة وغير صالحة { ما عملت } أي جزاء من جنسه { وهم } ولما كان المرهوب مطلق الظلم ، وكان البناء للمفعول أبلغ جزاء في نفيه قال تعالى : { لا يظلمون * } أي لا يتجدد عليهم ظلم لا ظاهراً ولا باطناً ، ليعلم بإبدال " يوم " من ذلك المتقدم أن الخسارة بإقامة الحق عليهم لا بمجرد إسكاتهم . ولما عقب سبحانه ما ضرب سابقاً من الأمثال بقوله تعالى { ورزقكم من الطيبات } وتلاه بذكر الساعة بقوله تعالى : { وما أمر الساعة } إلى آخره ، واستمر فيما مضت مناسباته آخذاً بعضه بحجز بعض حتى ختم بالساعة وآمن من الظلم فيها ، وبين أن الأعمال هناك هي مناط الجزاء ، عطف على ما مضى - من الأمثال المفروضة المقدرة المرغبة - مثلاً محسوساً موجوداً ، مبيناً أن الأعمال في هذه الدار أيضاً مناط الجزاء ، مرهباً من المعاجلة فيها بسوط من العذاب فقال تعالى : { وضرب الله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لكم أيها المعاندون ! { مثلاً قرية } من قرى الماضين التي تعرفونها كقرية هود أو صالح أو لوط أو شعيب عليهم السلام كان حالها كحالهم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكة { كانت ءامنة } أي ذات أمن يأمن به أهلها في زمن الخوف { مطمئنة } أي تارة بأهلها ، لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوة المدد ، وكف الله الناس عنها ، ووجود ما يحتاج إليه أهلها { يأتيها } أي على سبيل التجدد والاستمرار { رزقها رغداً } أي واسعاً طيباً { من كل مكان } براً وبحراً بتيسير الله تعالى لهم ذلك . ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً ، نبه تعالى لهم ذلك بالفاء فقال تعالى : { فكفرت } ونبه سبحانه على سعة فضله بجمع القلة الدال على أن كثرة فضلة عليهم تافهة بالنسبة إلى ما عنده سبحانه وتعالى فقال : { بأنعم الله } أي الذي له الكمال كله كما كفرتم { فأذاقها الله } أي المحيط بكل شيئ قدرة وعلماً { لباس الجوع } بعد رغد العيش { والخوف } بعد الأمن والطمأنينة حتى صار لهم ذلك بشموله لهم لباساً ، وبشدة عركهم ذواقاً ، فكأن النظر إلى المستعار له ، وهو هنا أبلغ لدلالته على الإحاطة والذوق ، ولو نظر إلى المستعار لقال : فكساها ، فكان يفوت الذوق ، وذلك كما نظر إليه كثيّر في قوله : @ غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال @@ استعار الرداء للمعروف لأنه يصون صون الرداء لما يلقى عليه ، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال ، لا وصف الرداء الذي هو المستعار ، ولو نظر إليه لوصفه بالسعة أو الطول مثلاً كما نظر إليه من قال ذاكراً السيف الذي يصون به الإنسان نفسه : @ ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا بكر بن عمرو لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر @@ فنظر إلى المستعار وهو الرداء في لفظ الاعتجار ، فبانت فضيحة ابن الراوندي في زندقته إذ قال لابن الأعرابي : هل يذاق اللباس ؟ فقال له : لا بأس يا أيها النسناس ! هب أن محمداً ما كان نبياً ، أما كان عربياً ؟ { بما كانوا } أي بجبلاتهم { يصنعون * } من الكفر والكبر ، قد مرنوا عليه بكثرة المداومة مرون الإنسان على صنعته . ولما كان تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولاً ، حقق ذلك بقوله تعالى : { ولقد جاءهم } أي أهل هذه القرية { رسول منهم } كما وقع لكم { فكذبوه } كما فعلتم { فأخذهم العذاب } كما سمعتم ، وإن كان المراد بها مكة فالمراد به الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال " اللهم أعني بسبع كسبع يوسف " وأما الخوف فما كان من جهاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم { وهم ظالمون * } أي عريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها ، لأنهم استمروا على كفرهم مع الجوع ، وسألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإغاثة فدعا لهم .