Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 16-17)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما استدلوا على معتقدهم ، وعلموا سفه من خالفهم ، وهم قوم لا يدان لهم بمقاومتهم ، لكثرتهم وقلتهم ، تسبب عن ذلك هجرتهم ليسلم لهم دينهم ، فقال تعالى شارحاً لما بقي من أمرهم ، عاطفاً على ما تقديره : وقالوا أو من شاء الله منهم حين خلصوا من قومهم نجياً : لا ترجعوا إلى قومكم أبداً ما داموا على ما هم عليه ، هذا إن كان المراد قيامهم بين يدي دقيانوس ، وإن كان المراد من القيام الانبعاث بالعزم الصادق لم يحتج إلى هذا التقدير : { وإذ } أي حين { اعتزلتموهم } أي قومكم { وما } أي واعتزلتم ما { يعبدون إلا الله } أي الذي له صفات الكمال ، وهذا دليل على أنهم كانوا يشركون ، ويجوز أن يكونوا سموا الانقياد كرهاً لمشيئته والخضوع بزعمهم لاقضيته عبادة { فأوا } أي بسبب هذا الاعتزال ، وهذا دليل العامل في { إذ } { إلى الكهف } أي الغار الذي في الجبل { ينشر } أي يحيي ويبعث { لكم ربكم } الذي لم يزل يحسن إليكم { من رحمته } ما يكفيكم به من المهم من أمركم { ويهيىء لكم من أمركم } الذي من شأنه أن يهمكم { مرفقاً * } ترتفقون به ، وهو بكسر الميم وفتح الفاء في قراءة الجماعة ، وبفتحها وكسر الفاء للنافع وابن عامر ، وهذا الجزم من آثار الربط على قلوبهم بما علموا من قدرته على كل شيء ، وحمايته من لاذ به ولجأ إليه وعبده وتوكل عليه ، ففعلوا ذلك ففعل الله ما رجوه فيه ، فجعل لهم أحسن مرفق بأن أنامهم ثم أقامهم بعد مضي قرون ومرور دهور ، وهدى بهم ذلك الجيل الذي أقامهم فيه { وترى } لو رأيت كهفهم { الشمس إذا طلعت } . ولما كان حالهم خفياً ، وكذا حال انتقال الشمس عند من لم يراقبه ، أدغم تاء التفاعل نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وأسقطها عاصم وحمزة والكسائي ، فقال تعالى : { تزاور } أي تتمايل وتتحرف ، ولعل قراءة ابن عامر ويعقوب تزور بوزن تحمر ناظرة إلى الحال عند نهاية الميل { عن كهفهم } بتقلص شعاعها بارتفاعها إلى أن تزول { ذات اليمين } إذا كنت مستقبلاً القبلة وأنت متوجه إليه أو مستقبلاً الشمس فيصيبهم من حرها ما يمنع عنهم التعفن ويمنع سقف الكهف شدة الحرارة المفسدة في بقية النهار { وإذا غربت } أي أخذت في الميل إلى الغروب { تقرضهم } أي تعدل في مسيرها عنهم { ذات الشمال } كذلك ، لئلا يضرهم شدة الحرارة ، ويصيبهم من منافعها مثل ما كان عند الطلوع ، فلا يزال كهفهم رطباً ، ويأتيه من الهواء الطيب والنسيم الملائم ما يصونهم عن التعفن والفساد ، فتحرر بذلك أن باب الغار مقابل لبنات نعش ، وأن الجبل الذي هم فيه شمالي مكة المشرفة ، ويجوز أن يكون المراد يمين من يخرج من الكهف وشماله ، فلا يلزم ذلك ، وقال الأصبهاني : قيل : إن باب ذلك كان مفتوحاً إلى جانب الشمال إذا طلعت الشمس عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله . ومادة ( قرض ) وليس لها إلا هذا التركيب - تدور على القطع ، ويلزمه الميل عن الشيء والعدول والازورار عنه ، قرضت الشيء ، - بالفتح - أقرضه - بالكسر : قطعته بالمقراض أو بغيره - لأنك إذا وصلت إليه فقد حاذيته فإذا قطعته تجاوزته فانحرفت عنه ، والقرض : قول الشعر خاصة - لأنه لا شيء من الكلام يشبهه فهو مقطوع منه مائل عنه بما خص به من الميزان ، وهل مررت بمكان كذا ؟ فتقول : قرضته ذات اليمين ليلاً ، أي كان عن يميني ، والقرض : ما تعطيه من المال لتقضاه - لأنك قطعته من مالك ، والقرض - بالكسر : لغة فيه عن الكسائي ، والقرض : ما سلفت من إحسان أو إساءة - على التشبيه ، والتقريض : المدح والذم - لأنه يميز الكلام فيه تمييزاً ظاهراً ، وهما يتقارضان كذا - كأن كلاًّ منهما مقرض لصاحبه وموف له على ما أقرضه ، والمقارضة : المضاربة - لأن صاحب المال قطع من ماله ، والعامل قطع من عمله حصة لهذا المال ، قرض فلان الرباط - إذا مات ، لأنه إذا انقطعت حياته انقطع كل رباط له في الدنيا ، وجاء فلان وقد قرض رباطه - إذا جاء مجهوداً قد أشرف على الموت - كأنه أطلق عليه ذلك للمقاربة ، والمقارضة : المشاتمة - لقطعها العرض وما بين المتشاتمين ، والاقتراض : الاغتياب - من ذلك ومن القرض أيضاً ، لأن من اغتاب اغتيب ، وقرض - بالكسر - إذا زال من شيء إلى شيء - لأنه بوصل الثاني قطع الأول ، وقرض - إذا مات ، والمقارض : الزرع القليل - إما للإزالة على الضد من الكثير ، أو تشبيه بمواضع الاستقاء في البئر القليلة الماء ، فإن المقارض أيضاً المواضع التي يحتاج المستقي إلى أن يقرض منها الماء ، أي يميح ، أي يدخل الدلو في البئر فيملأها لقلة الماء - لأنها مواضع قطع الماء برفعه عن البئر والمقارض أيضاً : الجرار الكبار - كأنها لكبرها وقطعها كثيراً من الماء هي التي قطعت دون الصغار ، وما عليه قراض ، أي ما يقرض عنه العيون فيستره لتعدل عنه العيون - لعدم نفوذها إلى جلده ، والقرض في السير هو أن تعدل عن الشيء في مسيرك ، فإذا عدلت عنه فقد قرضته ، والمصدر القرض وأصله من القطع ، وابن مقرض - كمنبر : ويبة تقتل الحمام - كأنها سميت لقطعها حياة الحمام ، وقرض البعير جرته : مضغها فهي قريض - لتقطيعها بالمضغ ولقطعها من بطنه بردها إلى حنكه للمضغ . ولما بين تعالى أنه حفظهم من حر الشمس ، بين أنه أنعشهم بروح الهواء ، وألطفهم بسعة الموضع في فضاء الغار فقال : { وهم في فجوة منه } أي في وسط الكهف ومتسعه . ولما شرح هذا الأمر الغريب ، والنبأ العجيب ، وصل به نتيجته فقال تعالى : { ذلك } أي المذكور العظيم من هدايتهم ، وما دبروا لأنفسهم ، وما دبر لهم من هذا الغار المستقبل للنسيم الطيب المصون عن كل مؤذ ، وما حقق به رجاءهم مما لا يقدر عليه سواه { من ءايات الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء علماً وقدرة ، وإن كان إذا قيس إلى هذا القرآن القيم وغيره مما خصت به هذه الأمة كان يسيراً . ولما كان انفرادهم بالهدى عن أهل ذلك القرن كلهم عجباً ، وصل به ما إذا تؤمل زال عجبه فقال تعالى : { من يهد } ولو أيسر هداية - بما دل عليه حذف الياء في الرسم { الله } أي الذي له الأمر كله بخلق الهداية في قلبه للنظر في آياته التي لا تعد والانتفاع بها { فهو } خاصة { المهتد } في أي زمان كان ، فلن تجد له مضلاً مغوياً { ومن يضلل } إضلالاً ظاهرياً بما دل عليه الإظهار بإعمائه عن طريق الهدى ، فهو لا غيره الضال { فلن تجد له } أصلاً من دونه ، لأجل أن الله الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه أضله { ولياً مرشداً * } فتجده يرى الآيات بعينه ، ويسمعها بأذنه ، ويحسها بجميع حواسه ، ولا يعلم أنها آيات فضلاً عن أن يتدبرها وينتفع بها ، فالآية من الاحتباك : ذكر الاهتداء أولاً دليلاً على حذف الضلال ثايناً ، والمرشد ثانياً دليلاً على حذف المضل أولاً .