Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 45-47)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أتم المثل لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم ، فكانت سبب إشقائهم وهم يحسبون أنها عين إسعادهم ضرب لدار الدنيا العامة لجميع الناس في قلة بقائها وسرعة فنائها ، وأن من تكبر بها كان أخس منها فقال تعالى : { واضرب لهم } أي لهؤلاء الكفار المغترين بالعرض الفاني ، المفتخرين بكثرة الأموال والأولاد وعزة النفر { مثل الحياة الدنيا } أي التي صفتها - التي هم بها ناطقون - تدل على أن ضدها الأخرى ، في ينوعها ونضرتها ، واختلابها للنفوس ببهجتها ، واستيلائها على الأهواء بزهرتها ، واختداعها لذوي الشهوات بزينتها ، ثم اضمحلالها وسرعة زوالها ، أفرح ما كانوا بها ، وأرغب ما كانوا فيها مرة بعد أخرى ، على مر الأيام وكر الشهور ، وتوالي الأعوام وتعاقب الدهور ، بحيث نادت على نفسها بالتحذير منها والتنفير عنها للعاقل اللقن ، والكيس الفطن ، رغبة إلى الباقي الذي يدوم سروره ، ويبقى نعيمه وحبوره ، وذلك المثل { كماء أنزلناه } بعظمتنا واقتدارنا بعد يبس الأرض وجفاف ما فيها وزواله ، وبقلعه كما تشاهدونه واستئصاله ، وقال : { من السماء } تنبيهاً على بليغ القدرة في إمساكه في العلو وإنزاله في وقت الحاجة على الوجه النافع { فاختلط } أي فتعقب وتسبب عن إنزاله أنه اختلط { به نبات الأرض } أي التراب الذي كان نباتاً ارفت بطول العهد في بطنها ، فاجتمع بالماء والتفّ وتكاثف ، فهيأناه بالتخمير والصنع الذي لا يقدر عليه سوانا حتى أخرجناه من الأرض أخضر يهتز على ألوان مختلفة ومقادير متفاوتة ثم أيبسناه { فأصبح هشيماً } أي يابساً مكسراً مفتتاً { تذروه } أي تثيره وتفرقه وتذهب به { الرياح } حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن { وكان الله } أي المختص بصفات الكمال { على كل شيء } من ذلك وغيره إنشاء وإفناء وإعادة { مقتدراً * } أزلاً وأبداً ، فلا تظنوا أن ما تشاهدونه من قدرته حادث . ولما تبين بهذين المثلين وغيرهما أن الدينا - التي أوردت أهلها الموارد وأحلتهم أودية المعاطب - سريعة الزوال ، وشيكة الارتحال ، مع كثرة الأنكاد ، ودوام الأكدار ، من الكد والتعب ، والخوف والنصب كالزرع سواء ، تقبل أولاً في غاية النضرة والبهجة ، تتزايد نضرتها وبهجتها شيئاً فشيئاً ، ثم تأخذ في الانتقاص والانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء ، فهي جديرة لذلك بالزهد فيها والرغبة عنها ، وأن لا يفتخر بها عاقل فضلاً عن أن يكاثر بها غيره ، قال تعالى : { المال والبنون } الفانيان الفاسدان وهما أجلّ ما في هذه الدار من متاعها { زينة الحياة الدنيا } التي لو عاش الإنسان جميع أيامها لكان حقيقاً لصيرورة ما هو في منها إلى زوال بالإعراض عنها والبغض لها ، وأنتم تعلمون ما في تحصيلهما من التعب ، وما لهما بعد الحصول من سرعة العطب ، وهما مع ذلك قد يكونان خيراً إن عمل فيهما بما يرضي الله ، وقد يكونان شراً ويخيب الأمل فيهما ، وقد يكون كل منهما سبب هلاك صاحبه وكدره ، وسوء حياته وضرره { والباقيات الصالحات } وهي أعمال الخير المجردة التي يقصد بها وجه الله تعالى التي رغبنا فيها بقولنا { لنبلوهم أيهم أحسن عملاً } [ الكهف : 7 ] وما بعده { خير } أي من الزينة الفانية . ولما كان أهم ما إلى من حصل النفائس لكفايته من يحفظها له لوقت حاجته قال : { عند ربك } أي الجليل المواهب ، العالم بالعواقب ، وخير من المال والبنين في العاجل والآجل { ثواباً وخير } من ذلك كله { أملاً * } أي من جهة ما يرجو فيها من الثواب ويرجو فيها من الأمل ، لأن ثوابها إلى بقاء ، وأملها كل ساعة في تحقيق وعلو وارتقاء ، وأمل المال والبنين يختان أحوج ما يكون إليهما . ولما ذكر المبدأ ونبه على زواله ، وختم بأن المقصود منه الاختبار للرفعة بالثواب أو الضعة بالعقاب ، وكان الخزي والصغار ، أعظم شيء ترهبه النفوس الكبار ، لا سيما إذا عظم الجمع واشتد الأمر ، فكيف إذا انضم إليه الفقر فيكف إذا صاحبهما الحبس وكان يوم الحشر يوماً يجمع فيه الخلائق ، فهو بالحقيقة المشهود ، وتظهر فيه العظمة فهو وحده المرهوب ، عقب ذكر الجزاء ذكره ، لأنه أعظم يوم يظهر فيه ، فقال تعالى عاطفاً على { واضرب } : { ويوم } أي واذكر لهم يوم { نسير الجبال } عن وجه الأرض بعواصف القدرة كما يسير نبات الأرض - بعد أن صار هشمياً - بالرياح { فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب } [ النحل : 88 ] { وترى الأرض } بكمالها { بارزة } لا غار فيها ولا صدع ولا جبل ولا نبت ولا شجر ولا ظل { و } الحال أنا قد { حشرناهم } أي الخلائق بعظمتنا قبل التسيير بتلك الصيحة ، قهراً إلى الموقف الذي ينكشف فيه المخبآت ، وتظهر الفضائح والمغيبات ، ويقع الحساب فيه على النقير والقطمير ، والنافذ فيه بصير ، فينظرون ويسمعون زلازل الجبال عند زوالها ، وقعاقع الأبنية والأشجار في هدها وتباين أوصالها ، وفنائها بعد عظيم مرآها واضمحلالها { فلم نغادر } أي نترك بما لنا من العظمة { منهم } أي الأولين والآخرين { أحداً * } لأنه لا ذهول ولا عجز .