Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 48-50)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ذكر سبحانه حشرهم ، وكان من المعلوم أنه للعرض ، ذكر كيفية ذلك العرض ، فقال بانياً الفعل للمفعول عل طريقة كلام القادرين ، ولأن المخوف العرض لا كونه من معين : { وعرضوا على ربك } أي المحسن إليك برفع أوليائك وخفض أعدائك { صفاً } لاتساع والمسايقة إلى داره ، لعرض أذل شيء وأصغره ، وأطوعه وأحقره ، يقال لهم تنبيهاً على مقام العظمة : { لقد جئتمونا } أحياء سويين حفاة عراة غرلاً { كما خلقناكم } بتلك العظمة { أول مرة } منعزلين من كل شيء كنتم تجمعونه وتفاخرون به منقادين مذعنين فتقولون { هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون } [ يس : 52 ] فيقال لكم : { بل زعمتم } أي ادعيتم جهلاً بعظمتنا { أن } أي أنا { لن نجعل لكم } على ما لنا من العظمة { موعداً * } أي مكاناً ووقتاً نجمعكم فيه هذا الجمع فننجز ما وعدناكم به على ألسنة الرسل { ووضع } بأيسر أمر بعد العرض المستعقب للجمع بأدنى إشارة { الكتاب } المضبوط فيه دقائق الأعمال وجلائلها على وجه بيِّن لا يخفى على قارىء ولا غيره شيء منه { فترى المجرمين } لتقر عينك منهم بشماتة لا خير بعدها { مشفقين مما فيه } من قبائح أعمالهم ، وسيىء أفعالهم وأقوالهم أي خائفين دائماً خوفاً عظيماً من عقاب الحق والفضيحة عند الخلق { ويقولون } أي يجددون ويكررون قولهم : { ياويلتنا } كناية عن أنه لا نديم لهم إذ ذاك إلا الهلاك { مال هذا الكتاب } أي أي شيء له حال كونه على غير حال الكتب في الدنيا ، ورسم لام الجر وحده إشارة إلى أنهم صاروا من قوة الرعب وشدة الكرب يقفون على بعض الكتب ، وفسروا حال الكتاب التي أفظعتهم وسألوا عنها بقولهم : { لا يغادر } أي يترك أي يقع منه غدر ، أي عدم الوفاء وهو من غادر الشيء : تركه كأن كلاًّ منهما يريد غدر الآخر ، أي عدم الوفاء به ، من الغدير - لقطعة من الماء يتركها السيل كأنه لم يوف لهما بأخذ ما معه ، وكذا الغديرة لناقة تركها الراعي { صغيرة } أي من أعمالنا . ولما هالهم إثبات جميع الصغائر ، بدؤوا بها ، وصرحوا بالكبائر - وإن كان إثبات الصغائر يفهمها - تأكيداً لأن المقام للتهويل وتعظيم التفجع ، وإشارة إلى أن الذي جرهم إليها هو الصغائر - كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه - فقالوا : { ولا كبيرة إلا أحصاها } ولما كان الإحصاء قد لا يستلزم اطلاع صاحب الكتاب وجزاءه عليه ، نفى ذلك بقوله تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } كتابة وجزاء من غير أن يظلمهم سبحانه أو يظلم من عادوهم فيه { ولا يظلم ربك } الذي رباك بخلق القرآن { أحداً * } منهم ولا من غيرهم في كتاب ولا عقاب ولا ثواب ، بل يجازى الأعداء بما يستحقون ، تعذيباً لهم وتنعيماً لأوليائه الذين عادوهم فيه للعدل بينهم ؛ روى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سافر إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه مسيرة شهر فاستأذن عليه قال : فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، قلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت قبل أن أسمعه ، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول : " يحشر الله عز وجل الناس - أو قال : العباد - حفاة عراة بهما قلت : وما بهما ؟ قال : ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند أحد من أهل النار حق حتى أقصه منه حتى اللطمة ، قال : قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة بهما ؟ قال : بالحسنات والسيئات " . ولما ذكر البعث وختمه بإحسانه بالعدل المثمر لإعطاء كل أحد ما يستحقه ، أتبعه - بما له من الفضل - بابتداء الخلق الذي هو دليله ، في سياق مذكر بولايته الموجبة للإقبال عليه ، وعداوة الشيطان الموجبة للإدبار عنه ، مبين لما قابلوا به عدله فيهم وفي عدوهم من الظلم بفعلهم كما فعل من التكبر على آدم عليه السلام بأصله ، فتكبروا على فقراء المؤمنين بأصلهم وأموالهم وعشائرهم ، فكان فعلهم فعله سواء ، فكان قدوتهم وهو عدوهم ، ولم يقتدوا بخير خلقه وهو وليهم وهو أعرف الناس به ، فقال تعالى عاطفاً على { واضرب } : { وإذ } أي واذكر لهم إذ { قلنا } بما لنا من العظمة { للملائكة } الذين هم أطوع شيء لأوامرنا وإبليس فيهم ، قال ابن كثير : وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ، ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة { اسجدوا لآدم } أبيهم نعمة منا عليه يجب عليهم شكرنا فيها { فسجدوا } كلهم { إلا إبليس } فكأنه قيل : ما له لم يسجد ؟ فقيل : { كان } أي لأنه كان { من الجن } المخلوقين من نار ، ولعل النار لما كانت نيرة وإن كانت نورانيتها مشوبة بكدورة وإحراق ، عد من الملائكة لاجتماع العنصرين في مطلق النور ، مع ما كان غلب عليه من العبادة ، فقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان - وفي رواية : إبليس - من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " وفي مكائد الشيطان لابن أبي الدنيا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الجن كانت قبيلة من الملائكة . ولما كان أكثر الجن مفسداً ، رجوعاً إلى الأصل الذي هو النار المحرقة لما لاصقها ، المفسدة له ، سبب فسقه عن كونه منهم فقال تعالى : { ففسق } أي خرج ، يقال : فسقت الفأرة من حجرها - إذا خرجت للعيث والفساد . { عن أمر ربه } أي سيده ومالكه المحسن إليه بإبداعه ، وغير ذلك من اصطناعه ، في شأن أبيكم ، إذ تكبر عليه فطرده ربه من أجلكم ، فلا تستنوا به في الافتخار والتكبر على الضعفاء ، فإن من كانت خطيئته في كبر لم يكن صلاحه مرجواً ، ومن كانت خطيئته في معصية كان صلاحه مرجواً ، ثم سبب عن هذا ما هو جدير بالإنكار فقال تعالى في أسلوب الخطاب لأنه أدل على تناهي الغضب وأوجع في التبكيت ، والتكلم لأنه أنص على المقصود من التوحيد : { أفتتخذونه } أي أيفسق باستحقاركم فيطرده لأجلكم فيكون ذلك سبباً لأن تتخذوه { وذريته } شركاء لي { أولياء } لكم { من دوني } أي اتخاذاً مبتدئاً من غيري أو من أدنى رتبة من رتبتي ، ليعم الاتخاذ استقلالاً وشركة ، ولو كان المعنى : من دون - أي غير - اتخاذي ، لأفاد الاستقلال فقط ، ولو كان الاتخاذ مبتدئاً منه بأن كان هو الآمر به لم يكن ممنوعاً ، وأنا وليكم المفضل عليكم { وهم لكم } ولما كان بناء فعول للمبالغة ولا سيما وهو شبيه بالمغالاة في نحو القول ، أغنى عن صيغة الجمع فقال : { عدو } إشارة إلى أنهم في شدة العداوة على قلب واحد . ولما كان هذا الفعل أجدر شيء بالذم ، وصل به قوله تعالى : { بئس } وكان الأصل : لكم ، ولكنه أبرز هذا الضمير لتعليق الفعل بالوصف والتعميم فقال تعالى : { للظالمين بدلاً * } إذا استبدلوا من ليس لهم شيء من الأمر وهم لهم عدو بمن له الأمر كله وهو لهم ولي .