Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 53-56)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم ، ذكر حالهم في استمرار جهلهم ، فقال تعالى : { ورءا المجرمون } أي العريقون في الإجرام { النار } أي ورأوا ، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف { فظنوا } ظناً { أنهم مواقعوها ولم } أي والحال أنهم لم { يجدوا عنها مصرفاً * } أي مكاناً ينصرفون إليه ، فالموضع موضع التحقق ، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا { اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] بغير علم { وما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف : 35 ] ، { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] ، { إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين } [ الجاثية : 32 ] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها . ولما كان الكلام في قوة أن يقال : صرفنا هذه الأخبار بما أشارت إليه من الأسرار الكبار ، فقامت دلائل الشريعة الجلائل ، وأضاءت بها جواهر المعاني الزواهر ، عطف على ذلك : { ولقد صرفنا } أي بما لنا من العظمة . ولما كانت هذه السورة في وصف الكتاب ، اقتضى الاهتمام به تقديمه في قوله تعالى : { في هذا القرءان } أي القيم الذي لا عوج فيه ، مع جمعه للمعاني ونشره الفارق بين الملبسات { للناس } أي المزلزلين فضلاً عن الثابتين { من كل مثل } أي حوّلنا الكلام وطرقناه في كل وجه من وجوه المعاني وألبسناه من العبارات الرائقة ، والأساليب المتناسقة ، ما سار بها في غرابته كالمثل ، يقبله كل من يسمعه ، وتضرب به آباط الإبل في سائر البلاد ، بين العباد ، فتبشر به قلوبهم ، وتلهج به ألسنتهم ، فلم يتقبلوه وجادلوا فيه ؛ ثم نبه على الوصف المقتضي لذلك بقوله تعالى : { وكان الإنسان } الذي جعل خصيماً وهو آنس بنفسه جبلة وطبعاً { أكثر شيء } وميز الأكثرية بقوله تعالى : { جدلاً * } لأنه لم ينته عن الجدل بعد هذا البيان ، الذي أضاء جميع الأكوان . ولما بين إعراضهم ، بين موجبه عندهم فقال : { وما منع } ولما كان الناس تبعاً لقريش قال : { الناس } أي الذين جادلوا بالباطل ، الإيمان - هكذا كان الأصل ، ولكنه عبرعن هذا المفعول الثاني بقوله تعالى : { أن يؤمنوا } ليفيد التجديد وذمهم على الترك { إذ } أي حين { جاءهم الهدى } بالكتاب على لسان الرسول ، وعطف على المفعول الثاني - معبراً بمثل ما مضى لما مضى - قولَه تعالى : { ويستغفروا ربهم } أي المحسن إليهم . ولما كان الاستثناء مفرغاً ، أتى بالفاعل فقال تعالى : { إلا أن } أي طلب أن { تأتيهم سنة الأولين } في إجابتهم إلى ما اقترحوه على رسلهم ، المقتضي للاستئصال لمن استمر على الضلال ، ومن ذلك طلبهم أن يكون النبي ملكاً ، وذلك نقمة في صورة نعمة وإتيان بالعذاب دبراً ، أي مستوراً { أو } طلب أن { يأتيهم العذاب قبلاً * } أي مواجهة ومعاينة ومشاهدة من غير ستر له ، هو في قراءة من كسر القاف وفتح الباء واضح ، من قولهم : لقيت فلاناً قبلاً ، أي معاينة ، وكذا في قراءة من ضمهما ، من قولهم : أنا آتيك قبلاً لا دبراً ، أي مواجهة من جهة وجهك لا من جهة قفاك ، قال تعالى : { إن كان قميصه قدَّ من قبل } [ يوسف : 26 ] ، ويصح أن يراد بهذه القراءة الجماعة ، لأن المراد بالعذاب الجنس أي يأتيهم أصنافاً مصنفة صنفاً ونوعاً نوعاً ، وقد مضى في الأنعام بيانه ، وهذا الشق قسيم الإتيان بسنة الأولين ، فمعناه : من غير أن يجابوا إلى ما اقترحوا كما تقدم في التي قبلها { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وقالوا لن نؤمن لك } [ الإسراء : 89 - 90 ] - إلى قوله تعالى : { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً } [ الإسراء : 92 ] الآية وهذه الآية من الاحتباك : ذكر { سنة الأولين } أولاً يدل على ضدها ثانياً ، وذكر المكاشفة ثانياً يدل على المساترة أولاً . ولما كان ذلك ليس إلى الرسول ، إنما هو إلى الإله ، بينه بقوله تعالى : { وما نرسل } على ما لنا من العظمة التي لا أمر لأحد معنا فيها { المرسلين إلا مبشرين } بالخير على أفعال الطاعة { ومنذرين } بالشر على أفعال المعصية ، فيطلب منهم الظالمون من أممهم ما ليس إليهم من فصل الأمر { ويجادل الذين كفروا } أي يجددون الجدال كلما أتاهم أمر من قبلنا { بالباطل } من قولهم : لو كنتم صادقين لأتيتم بما نطلب منكم ، مع أن ذلك ليس كذلك لأنه ليس لأحد غير الله من الأمر شيء { ليدحضوا } أي ليزلقوا فيزيلوا ويبطلوا { به الحق } الثابت من المعجزات المثبتة لصدقهم . ولما كان لكل مقام مقال ، ولكل مقال حد وحال ، فأتى في الجدال بصيغة الاستقبال ، وكان اتخاذ الاستهزاء أمراً واحداً ، أتى به ماضياً فقال تعالى : { واتخذوا } أي كلفوا أنفسهم أن أخذوا { ءاياتي } بالبشارات التي هي المقصودة بالذات لكل ذي روح { وما أنذروا } من آياتي ، بني للمفعول لأن الفاعل معروف والمخيف الإنذار { هزواً * } مع بعدهما جداً عن ذلك ، فلا بالرغبة أطاعوا ، ولا للرهبة ارتاعوا ، فكانوا شراً من البهائم .