Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 59-63)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كانت هذه سنته في القرون الماضية والأمم الخالية ، قال تعالى عاطفاً على قوله " لهم موعد " مروعاً لهم بالإشارة إلى ديارهم المصورة لدمارهم : { وتلك القرى } أي الماضية من عاد وثمود ومدين وقوم لوط وأشكالهم { أهلكناهم } أي حكمنا بإهلاكهم بما لنا من العظمة { لما ظلموا } أي أول ما ظلموا ، أو أهلكناهم بالفعل حين ظلمهم لكن لا في أوله ، بل أمهلناهم إلى حين تناهيه وبلوغه الغاية ، فليحذر هؤلاء مثل ذلك { وجعلنا } أي بما لنا من العظمة { لمهلكهم } أي إهلاكهم بالفعل { موعداً * } أي وقتاً نحله بهم فيه ومكاناً لم نخلفه ، كما أنا جعلنا لهؤلاء موعداً في الدنيا بيوم بدر والفتح وحنين ونحو ذلك ، وفي الآخرة لن نخلفه ، وكذا كل أمر يقوله نبي من الأنبياء عنا لا يقع فيه خلف وإن كان يجوز لنا ذلك ، بخلاف ما يقوله من نفسه غير مسند إلينا فإنه يمكن وقوع الخلف فيه ، كما وقع في الوعد بالإخبار عن هذه المسائل التخلف أربعين ليلة أو ما دونها على حسب فهمهم أن { غدا } على حقيقته . ولما قدم الكلام على البعث ، واستدل عليه بابتداء الخلق ، ثم ذكر بعض أحواله ، ثم عقبه بما ضرب لذلك وغيره من الأمثال ، وصرف من وجوه الاستدلال ، وختم ذلك بأنه يمهل عند المساءة ، عقب ذلك بأنه كذلك يفعل عند المسرة ، فلكل شيء عنده كتاب ، وكل قضاء بقدر وحساب ، فذكر قصة موسى مع الخضر عليهما السلام وما اتفق له في طلبه ، وجعله سبحانه له الحوت آية وموعداً للقائه ، ولو أراد سبحانه لقرب المدى ولم يحوج إلى عناء ، مع ما فيها من الخارق الدال على البعث ، ومن الدليل على أن من ثبت فضله وعلمه لا يجوز أن يعترض عليه إلا من كان على ثقة مما يقوله من ربه ولا أن يمتحن ، ومن الإرشاد إلى ذم الجدل بغير علم ، ووجوب الانقياد للحق عند بيانه ، وظهور برهانه ، ومن إرشاد من استنكف أن يجالس فقراء المؤمنين بما اتفق لموسى عليه السلام من أنه - وهو كليم الله - أتبع الخضر عليه السلام ليقتبس من علمه ، ومن تبكيت اليهود بقولهم لقريش لما أمروهم بسؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن لم يخبركم فليس بنبي " الموهم للعرب الذين لا يعلمون شيئاً أن من شرط النبي أن لا يخفى عليه شيء ، مع ما يعلمون من أن موسى عليه السلام خفي عليه جميع ما فعله الخضر عليه السلام ، وإلى نحو هذا أشار الخضر عليه السلام بقوله إذ وقع العصفور على حرف السفينة ونقر من البحر نقرة أو نقرتين " ما نقص علمي وعلمك يا موسى من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر " وبإعلامهم بما يعلمونه من أن موسى عليه السلام جعل نفسه تابعاً للخضر عليه السلام ، تكذيباً لهم في ادعائهم أنه ليس أحد أعلى من موسى عليه السلام في وصف من الأوصاف ، وأنه لا ينبغي لأحد اتباع غيره ، ومن جوابهم عما لعلهم يقولون للعرب بهتاً وحسداً " لو كان نبياً ما قال : أخبركم غداً ، وتأخر عن ذلك " بما اتفق لموسى في وعده الخضر عليهما السلام بالصبر ، وبما خفي عليه مما اطلع عليه الخضر عليهما السلام ، فقال تعالى عاطفاً على قوله سبحانه { وإذ قلنا للملائكة } : { وإذ } أي واذكر لهم حين { قال موسى } أي ابن عمران المرسل إلى بني إسرائيل ، أي قوله الذي كان في ذلك الحين { لفتاه } يوشع بن نون عليهما السلام : { لا أبرح } أي لا أزال سائراً في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله - كما دل عليه ما يأتي { حتى أبلغ مجمع البحرين } أي ملتقاهما وموضع اختلاطهما الذي سبق إليه فهمي ، فتعينت البداءة به فألقاه ثَمّ { أو أمضي حقباً * } إن لم أظفر بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعداً لي في لقائه ؛ والحقب - قال في القاموس - ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون - انتهى . وما أنسب التوقيت بمجمع بحري الماء بمجمع بحري العلم وتزودهما بالنون الذي قرنه الله بالقلم وما يسطرون ، وعين الحياة لأن العلم حياة القلوب ، فسارا وتزودا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به ، فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع { فلما بلغا مجمع بينهما } أي البحرين ، فلم يكن هناك بين أصلاً لصيرورتهما شيئاً واحداً { نسيا حوتهما } فلم يعلم موسى عليه السلام شيئاً من حاله ونسي أن يسأل عنه ، وعلم يوشع عليه السلام بعض حاله فنسي أن يذكر ذلك له { فاتخذ } أي الحوت معجزة في معجزة { سبيله } أي طريقه الواسع الواضح { في البحر سرباً * } أي خرقاً في الماء غير ملتئم ، من السرب الذي هو جحر الوحشي ، والحفير تحت الأرض ، والقناة يدخل منها الماء الحائط . وقد ورد في حديثه في الصحيح أن الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء ، فصار طاقاً لا يلتئم . ويوشع عليه السلام ينظر ذلك ، وكأن المجمع كان ممتداً ، فظن موسى عليه السلام أن المطلوب أمامه أو ظن أن المراد مجمع آخر فسار { فلما جاوزا } أي موسى وفتاه عليهما السلام ذلك الموضع من المجمع تعب ، ولم يتعب حتى جاوز المكان الذي أمر به معجزةً أخرى ، فلما جاع وتعب { قال لفتاه ءاتنا } أي أحضر لنا { غداءنا } أي لنتقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ، ولذلك وصل به قوله تعالى : { لقد لقينا من سفرنا } أي الذي سافرناه في هذا اليوم خاصة ، ولذلك أشار إليه بأداة القرب فقال تعالى : { هذا نصباً * } وكان الحوت زادهم فلم يكن معه ، فكأنه قيل : فما كان عن أمره ؟ فقيل : { قال } لموسى عليه السلام معجباً له : { أرءيت } ما دهاني ؟ { إذ أوينا إلى الصخرة } التي بمجمع البحرين { فإني } أي بسبب أني { نسيت الحوت } أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك ؛ ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى : { وما أنسانيه } مع كونه عجيباً { إلا الشيطان } بوساوسه . ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً ، ذكر نسيانه ، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى : { أن أذكره } لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر { واتخذ سبيله } أي طريقه الذي ذهب فيه { في البحر عجباً * } وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة ، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية ، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان ، وقوله تعالى { إنما سلطانه على الذين يتولونه } [ النحل : 100 ] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي ، وقد كان في هذه القصة خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه ، وإمساك الماء عن مدخله ، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك . أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي - وهو جنبه - فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء - فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته انصرف حتى إذا نزل ببطن الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها ، فأمر بأخذ تلك الشاة منها ثم قال : يا أسيم - وكان إذا دعاه رخمه ! ناولني ذراعاً ، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها ، ثم قال : يا أسيم ! ناولني ذراعاً ! فناولته ، ثم قال : يا أسيم ! ناولني ذراعاً ! فقلت : يا رسول الله ! إنما هما ذراعان وقد ناولتك ، فقال : والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك : ناولني ذراعاً " فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وقوله الحق الذي لا فرق بينه وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة . وأما حياة الحوت المشوي فقد مضى عند { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية المسمومة ، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق ، وكذا حنين الجذع ، وسلام الحجر ، وتسبيح الحصا ، وتأمين أسكفة الباب وحوائط البيت ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً ، فقد روى البيهقي في الدلائل عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى ؟ فقال : أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجذع - الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيىء له المنبر ، فلما هيىء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته - فهذا أكبر من ذاك - انتهى . على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته . وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته ، ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد روى البيهقي في ذلك ما فيه آية من الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال : كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه ، فلما أردنا أن نغسله قال : ائت أمه فأعلمها ، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ، ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك طوعاً ، وخلعت الأوثان زهداً ، وهاجرت إليك رغبة ، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه ، وألقى الثوب عن وجهه ، وعاش حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى هلكت أمه ؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يعني جيشاً ، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي ، قال : وكنت في غزاته ، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد تدروا بنا ، فعفوا آثار الماء ، قال : وكان حر شديد ، فجهدنا العطش ودوابنا ، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً ، فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب ، فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة ، فوقف على الخليج وقال : يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ! ثم قال : أجيزوا باسم الله ! فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا . وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار نا الحسن بن علي بن عفان أنبأنا ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : انتهينا إلى دجلة وهي مادة ، والأعاجم خلفها ، فقال رجل من المسلمين : بسم الله ، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء ، فقال الناس : بسم الله بسم الله ، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء ، فلما نظر إليهم الأعاجم قالوا : ديوان ديوان ، ثم ذهبوا على وجوههم ، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج ، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها . أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أنا أبو محمد عبد الله بن محمد السمذي ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا : ثنا سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى الدجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ، فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال : هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله - قال البيهقي : هذا إسناد صحيح .