Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 51-56)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان تعنتهم بأن ينزل عليه ملك فيكون معه نذيراً ، ربما أثار في النفس طلب إجابتهم إلى مقترحهم حرصاً على هدايتهم ، فأومأ أولاً إلى أنه لا فائدة في ذلك بأن مؤازرة هارون لموسى عليهما السلام لم تغن عن القبط شيئاً ، وثانياً بأن المدار في وجوب التصديق للنذير الإتيان بما يعجز ، وكان ذلك موجوداً في آيات القرآن ، المصرفة في كل زمان ومكان بكل بيان ، فكانت كل آية منه قائمة مقام نذير ، قال مشيراً إلى أنه إنما ترك ذلك لحكم يعلمها : { ولو شئنا لبعثنا } أي بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة { في كل قرية نذيراً * } أي من البشر أو الملائكة أو غيرهم من عبادنا ، كما قسمنا المطر لأن الملك - كما قدمنا أول السورة - كله لنا ، ليس لنا شريك يمنع من ذلك بما له من الحق ، ولا ولد يمنع بما له من الدلة ، ولكنا لم نفعل لما في آيات القرآن من الكفاية في ذلك ، ولما في انفرادك بالدعوة من الشرف لك - وغير ذلك من الحكمة { فلا تطع الكافرين } فيما قصدوا من التفتير عن الدعاء به ، بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة ، أو من القلق من صادع الإنذار ، ويخيلون أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك { وجاهدهم } أي بالدعاء { به } أي القرآن الذي تقدم التحديث عنه في { ولقد صرفناه } [ الفرقان : 5 ] بإبلاغ آياته مبشرة كانت أو منذرة ، والاحتجاج ببراهينه { جهاداً كبيراً * } جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة ، لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك ، فيتقوى أمرك ، ويعظم خطبك ، وتضعف شوكتهم ، وتنكسر سورتهم . ولما ذكر تصريف الفرقان ، ونشره في جميع البلدان ، بعد إثارة الرياح ونشر السحاب ، وخلط الماء بالتراب ، لجمع النبات وتفريقه ، أتبعه - تذكيراً بالنعمة ، وتحذيراً من إحلال النقمة - الحجز بين أنواع الماء الذي لا أعظم امتزاجاً منه ، وجمع كل نوع منها على حدته ، ومنعه من أن يختلط بالآخر مع اختلاط الكل بالتراب المتصل بعضه ببعض ، فقال عائداً إلى أسلوب الغيبة تذكيراً بالإحسان بالعطف على ضمير " الرب " في آية الظل : { وهو } أي وحده { الذي مرج البحرين } أي الماءين الكثيرين الواسعين بأن جعلهما مضطربين كما تشاهدونه من شأن الماء ؛ وقال الرازي : خلى بينهما كأنه أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج ، وأصل المرج يدل على ذهاب ومجيء واضطراب والتباس . ولما كان الاضطراب موجباً للاختلاط ، وكانت " ال " دائرة بين العهد والجنس ، تشوف السامع إلى السؤال عن ذلك ، فأجيب بأن المراد جنس الماء الحلو والملح ، لأن البحر في الأصل الماء الكثير ، وبأنه سبحانه منعهما من الاختلاط ، مع الموجب له في العادة ، بقدرته الباهرة ، وعظمته القاهرة ، فقال : { هذا عذب } أي حلو سائغ { فرات } أي شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة ، لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض وما كان في بطنها { وهذا ملح } شديد الملوحة { أجاج } أي مر محرق بملوحته ومرارته ، لا يصلح لسقي ولا شرب ، ولعله أشار بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الموضعين ، مع شدة المقاربة ، لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب منه جداً خرج الماء عذباً جداً { وجعل } أي الله سبحانه { بينهما برزخاً } أي حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما . ولما كانا يلتقيان ولا يختلطان ، كان كل منهما بالاختلاط في صورة الباغي على الآخر ، فأتم سبحانه تقرير النعمة في منعهما الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ ، تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ ، ليكون الكلام - مع أنه خبر - محتملاً للتعوذ ، فيكون من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة فقال : { وحجراً } أي منعاً { محجوراً * } أي ممنوعاً من أن يقبل رفعاً ، كل هذا التأكيد إشارة إلى جلالة هذه الآية وإن كانت قد صارت لشدة الإلف بها معرضاً عنها إلى الغاية ، لتعرف بها قدرته ، وتشكر نعمته . ولما ذكر تعالى قدرته في منع الماء من الاختلاط ، أتبعه القدرة على خلطه ، لئلا يظن أنه ممتنع ، تقريراً للفعل بالاختيار ، وإبطالاً للقول بالطبائع ، فقال معبراً بالضمير كما تقدمه حثاً على استحضار الأفعال والصفات التي تقدمت ، لتعرف الحيثية التي كرر الضمير لأجلها : { وهو } أي وحده { الذي خلق من الماء } بخلطه مع الطين { بشراً } كما تشاهدونه يخلق منه نباتاً وشجراً وورقاً وثمراً { فجعله } أي بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة ، والتدوير في أدوار التربية { نسباً } أي ذكراً ينسب إليه { وصهراً } أي أنثى يصاهر - أي يخالط بها إلى الذكر ، فقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين : عذبا وملحاً ، وخلط ماء الذكر بماء الأنثى متى أراد فصور منه آدمياً ، ومنعه من ذلك إذا أراد ، كما أنه ميز بين العذب والملح ويخلط بينهما إذا أراد بعلمه الشامل وقدرته التامة { وكان ربك } أي المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك { قديراً * } على كل شيء قدرته على ما ذكر من إبداع هذه الأمور المتباعدة من مادة واحدة فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق ، سهل الأخلاق ، ويخذل من يشاء فيجعله مرير الأخلاق كثير الشقاق ، أو ملتبس الأخلاق ، عريقاً في النفاق ، فارغب إلى هذا الرب الشامل القدرة ، التام العلم . ولما أثبت له بهذه الأدلة القدرة على كل شيء ، قال معجباً منهم في موضع الحال من " ربك " عوداً إلى تهجين سيرتهم في عبادة غيره ، معبراً بالمضارع ، إشارة إلى أنهم لو فعلوا ذلك مرة لكان في غاية العجب ، فكيف وهو على سبيل التجديد والاستمرار ؟ ومصوراً لحالهم زيادة في تبشيعها : { ويعبدون } أي الكفرة { من دون } أي ممن يعلمون أنه في الرتبة دون { الله } المستجمع لصفات العظمة ، بحيث إنه لا ضر ولا نفع إلا وهو بيده . ولما كان هذا السياق لتعداد نعمه سبحانه ، وكان الحامل للإنسان على الإذعان رجاء الإحسان ، أو خوف الهوان ، وكان رجاء الإحسان مقبلاً به إلى المحسن في السر والإعلان ، قدم النفع فقال : { ما لا ينفعهم } أي بوجه . ولما كان الخوف إنما يوجب الإقبال ظاهراً فقط ، أتبعه قوله : { ولا يضرهم } أي أصلاً في إزالة نعمة من نعم الله عنهم ، فلا أسخف عقلاً ممن يترك من بيده كل نفع وضر وهو يتقلب في نعمه ، في يقظته ونومه ، وأمسه ويومه ، ويقبل على من لا نفع بيده ولا ضر أصلاً ؛ وأظهر في موضع الضمير بياناً للوصف الحامل على ما لا يفعله عاقل ، وأفرد تحقيراً لهم فقال : { وكان الكافر } مع علمه بضعفه وعجزه . ولما كان الكافر لا يمكن أن يصافي مسلماً ما دام كافراً ، وكانت مصافاته لغيره حاصلة إما بالفعل أو بالقوة ، عدت مصارمته لغيره عدماً ، فكانت مصارمته خاصة بأولياء الله ، وكان ذلك أشد لذمه ، دل عليه بتقديم الجار فقال : { على ربه } أي المحسن إليه لا غيره { ظهيراً * } معيناً لشياطين الإنس والجن على أولياء الله ، والتعبير بـ " على " دال على أنه وإن كان مهيناً في نفسه حقيراً فاعل فعل العالي على الشيء القوي الغليظ الغالب له ، المعين عليه ، من قولهم : ظهر الأرض لما علا منها وغلظ ، وأمر ظاهر لك ، أي غالب ، والظاهر : القوي والمعين ، وذلك لأنه يجعل لما يعبده من الأوثان نصيباً مما تفرد الله بخلقه ، ثم يجعل لها أيضاً بعض ما كان سماه لله ، ويعاند أولياء الله من الأنبياء وغيرهم ، وينصب لهم المكايد والحروب ، ويؤذيهم بالقول والفعل ، مع علمه بأن الله معهم لما يشاهدونه من خرقه لهم العوائد ، فكان هذا فعل من لا يعبأ بالشيء { لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيراً } [ الفرقان : 21 ] { أن لا تعلوا على الله } [ الدخان : 19 ] وهو في الحقيقة تهكم بالكفار ، لأنهم يفعلون ما يلزم عليه هذا اللازم الذي لا يدور في خلد عاقل . ولما كان التقدير تسلية له صلى الله عليه وسلم : فالزم ما نأمرك به ولا يزد همُّك بردهم عما هم فيه ، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلاً ، عطف عليه قوله : { وما أرسلناك } أي بما لنا من العظمة . ولما كان سياق السورة للإنذار ، لما ذكر فيها من سوء مقالهم ، وقبح أفعالهم ، حسن التعبير في البشارة بما يدل على كثرة الفعل ، ويفهم كثرة المفعول ، بشارة بكثرة المطيع ، وفي النذارة بما يقتضي أن يكون صفة لازمة فقال : { إلا مبشراً } أي لكل من يؤمن { ونذيراً * } لكل من يعصي .