Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 44-44)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما تضمن هذا مدح التوراة ، صرح به فقال تأكيداً لذمهم في الإعراض عما دعت إليه من أصل وفرع ، وتحذيراً من مثل حالهم : { إنا أنزلنا } أي على ما لنا من العظمة { التوراة } ثم استأنف قوله معظماً لها : { فيها هدى } أي كلام يهدي بما يدعو إليه إلى طريق الجنة { ونور } أي بيان لا يدع لبساً ، ثم استأنف المدح للعاملين بها فقل : { يحكم بها النبيون } ووصفهم بأعلى الصفات وذلك الغنى المحض ، فقال مادحاً لا مقيداً : { الذين أسلموا } أي أعطوا قيادهم لربهم سبحانه حتى لم يبق لهم اختيار أصلاً ، وفيه تعريض بأن اليهود بعداء من الإسلام وإلا لاتبعوا أنبياءهم فيه ، فكانوا يؤمنون بكل من قام الدليل على نبوته . ولما كان من المعلوم أن حكمهم بأمر الله لهم باتباع التوراة ومراعاتها ، عُلِم أن التقدير : بما استحفظوا من كتاب الله ، فحذف لدلالة ما يأتي عليه وإشعار الإسلام به ، ثم بين المحكوم له تقييداً به إشارة إلى أنها ستنسخ فقال : { للذين هادوا } أي لمن التزم اليهودية { والرّبانيون } أي أهل الحقيقة ، منهم الذين انسلخوا من الدنيا وبالغوا فيما يوجب النسبة إلى الرب { والأحبار } أي العلماء الذي أسلموا { بما } أي بسبب ما . ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ ، لا كونه من الله بلا واسطة ، بني للمفعول قوله : { استُحفظوا } أي الأنبياء ومن بعدهم { من كتاب الله } أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته ، فعظمته من عظمته ، وحفظه : دراسته والعمل بما فيه { وكانوا } أي وبما كانوا { عليه شهداء } أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً ، فالآية - كما ترى - من فن الاحتباك : ترك أولاً " بما استحفظوا " لدلالة ما ذكر هنا عليه ، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه ، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به ، وهو داع إلى الحفظ قطعاً ، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به ، وهو دال على الإسلام . ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم ، ومدحاً لمن راعاه منهم ، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف ، قال مخاطباً لهذه الأمة كلها طائعها وعاصيها ، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان ، مسبباً عن ذلك : { فلا تخشوا الناس } أي في العمل بحكم من أحكام الله { واخشون } أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان ، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة ، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة ، وهذا شامل لليهود وغيرهم . ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال : { ولا تشتروا } ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن ، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه ، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء ، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها ، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقال : { بآياتي ثمناً قليلاً } أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب . ولما نهى عن الأمرين ، وكان ترك الحكم بالكتاب إما لاستهانة أو لخوف أو رجاء أو شهوة ، رتب ختام الآيات على الكفر والظلم والفسق ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : من جحد حكم الله كفر , ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق . فلما كان التقدير : فمن حكم بما أنزل الله فأولئك هم المسلمون ، عطف عليه ما أفهمه من قوله : { ومن لم يحكم } أي يوجد الحكم ويوقعه على وجه الاستمرار { بما أنزل الله } أي الذي له الكمال كله فلا أمر لأحد معه تديناً بالإعراض عنه ، أعم من أن يكون تركه له حكماً بغيره أو لا { فأولئك } أي البعداء من كل خير { هم الكافرون } أي المختصون بالعراقة في الكفر ، وهذه الآيات من قوله تعالى { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] إلى هنا نزلت في الزنا ، ولكن لما كان السياق للمحاربة ، وكان كل من القتل وقطع الطريق والسرقة محاربة ظاهرة مع كونه فساداً صرح به ، ولما كان الزنا محاربة , خفية بالنظر إلى فحشه وحرمته وجرّه في بعض الصور إلى المحاربة , وغير محاربة بالنظر إلى كونه في الغالب عن تراض ، وصاحبه غير متزيّ بزيّ المحاربين ، لم يصرح في هذه الآيات باسمه وإن كانت نزلت فيه ، روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أنه قال في خطبته : " إن الله بعث محمداً وأنزل عليه كتاباً ، وكان فيما أنزل عليه آية الرجم فتلوناها ووعيناها " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم " وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده - الحديث . وفي آخره : ولولا أني أخشى أن يقول الناس : زاد في كتاب الله ، لأثبته في حاشية المصحف " وأصله في الصحيحين وغيرهما ، وللحاكم والطبراني عن أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء رضي الله عنها بلفظ : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة " وفي صحيح ابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال لزرّ بن حبيش : " كم تعدون سورة الأحزاب من آية ؟ قال : قلت : ثلاثاً وسبعين ، قال : والذي يحلف به ! كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة ، وكان فيها آية الرجم : الشيخ والشيخة " الحديث . وللشيخين : البخاري في مواضع ، ومسلم وأحمد وأبي داود - وهذا لفظه - والدرامي والترمذي في الحدود والنسائي في الرجم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " إن اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تجدون في التوراة في شأن الزنا ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون - وفي رواية : فقال : لا تجدون في التوراة الرجم ؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً - فقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه : كذبتم ، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ، فأتوا بالتوراة ، فنشروها فجعل أحدهم - وفي رواية - مدراسها الذي يدرسها منهم - يده على آية الرجم فجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها , فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفعها فقال : ما هذه ؟ فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ! فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : فرأيت الرجل يحنأ على المرأة يقيها الحجارة " وفي لفظ للبخاري في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجدون في التوراة الرجم ؟ فقالوا : لا نجد فيها شيئاً ، فقال لهم عبد الله بن سلام : كذبتم ! فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " وفي لفظ له في التوحيد - وهو رواية أحمد - أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال : " فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " ولأبي داود عن ابن عمر أيضاً رضي الله عنهما قال : " أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف ، فأتاهم في بيت المدراس فقالوا : يا أبا القاسم ! إن رجلاً منا زنى بامرأة فاحكم ، فوضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها ثم قال : ائتوني بالتوراة , فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها ثم قال : آمنت بك وبمن أنزلك ، ثم قال : ائتوني بأعلمكم ، فأتي بفتى شاب " فذكر قصة الرجم نحو الذي قبله ، وسكت عليه أبو داود والحافظ المنذري في مختصره وسنده حسن ، ولمسلم وأبي داود - وهذا لفظه - والنسائي وابن ماجه عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال : " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم . فدعاهم فقال : هكذا تجدون حد الزاني ؟ فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم فقال : نشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ فقالك اللهم ! لا ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الرجل الشريف تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا فنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد وتركنا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيى أمرك إذ أماتوه ، فأمر به فرجم ، فأنزل الله عزّ وجلّ { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] إلى قوله : { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا } [ المائدة : 41 ] إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] في اليهود - إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] في اليهود - إلى قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : هي في الكفار كلها " يعني هذه الآية . وروى الدارقطني في آخر النذور من السنن عن جابر رضي الله عنه قال : " أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد زنيا ، فقال لليهود : ما يمنعكم أن تقيموا عليهما الحد ؟ فقالوا : كنا نفعل إذا كان الملك لنا ، فلما أن ذهب ملكنا فلا نجتري على الفعل ، فقال لهم : ائتوني بأعلم رجلين فيكم ، فأتوه بابني صوريا ، فقال لهما : أنتم أعلم من ورائكما ؟ قالا : يقولون ، قال : فأنشدكما بالله الذي أنزل التوراة على موسى كيف تجدون حدهما في التوراة ؟ فقالا : الرجل مع المرأة زنية وفيه عقوبة ، والرجل على بطن المرأة زنية وفيه عقوبة ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رُجِم ، قال : ائتوني بالشهود فشهد أربعة ، فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم " - انتهى . وهذه الآية ملتفتة إلى آية { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } - الآية والتي بعدها أي التفات , وذلك أن هؤلاء لما تركوا هذا الحكم ، جرَّهم إلى الكفر , وليس في هذه الروايات - كما ترى - تقييد الرجم بالإحصان ، وكذا هو فما هو موجود عندهم في التوراة ، قال في السفر الثالث وغيره : ثم كلم الله موسى وقال له : قل لبني إسرائيل : أيُّ رجل من بني إسرائيل ومن الذين يقبلون إلى أيّ ويسكنون بين بني إسرائيل ألقى زرعه في امرآة غريبة يقتل ذلك الرجل فليرجمه جميع الشعب بالحجارة ، وأنا أيضاً أنزل غضبي بذلك الرجل وأهلكه من شعبه ، لأنه ألقى زرعه في غريبة وأراد أن ينجس مقدسي وأن ينجس اسم قدسي ، فإن غفل شعب الأرض عن الرجل الذي ألقى زرعه في غريبة ولم يوجبوا عليه القتل أنزل غضبي بذلك الرجل وبقبيلته وأهلكه وأهلك من يضل به ، لأنهم ضلوا بنساء غريبات لسن لهم بحلال ، ثم قال : الرجل الذي يأتي امرأة صاحبه وامرأة رجل غريب يقتلان جميعاً ، والرجل الذي يرتكب ذكراً مثله فيرتكب منه ما يرتكب من النساء فقد ارتكبا نجاسة ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج امرأة وأمها فقد ارتكب خطيئة ، يحرق بالنار هو وهما ، والرجل الذي يرتكب من البهيمة ما يرتكب من النساء يقتل قتلاً ، والبهيمة ترجم أيضاً ، والمرأة التي ترقد بين يدي البهيمة لترتكب منها البلاء تقتل المرأة والبهيمة جميعاً ، يقتلان ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي امرأة طامثاً ويكشف عورتها ، قد كشف عن ينبوعها وهي أيضاً كشفت عن ينبوع دمها ، يهلكان جميعاً من شعبهما ، وقال : والرجل الذي يأتي امرأة أبيه قد كشف هذا عورة أبيه ، يقتلان جميعاً ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يأتي كنّته يقتلاه كلاهما ، لأنهما ارتكبا خطيئة ، ودمهما في أعناقهما ، والرجل الذي يتزوج أخته من أمه أو من أبيه ويرى عورتها وترى عورته ، هذا عار شديد ، يقتلان قدام شعبهم ، وذلك لأنه كشف عورة أخته ، يكون إثمهما في رؤوسهما ، لا تكشفن عورة عمتك ولا خالتك ! لأنهما قرابتك ، ومن فعل ذلك يعاقب بإثم فضيحته ، والرجل الذي يأتي امرأة عمه قد كشف عورة عمه يعاقبان بخطيئتهما ويموتان ، والرجل الذي يتزوج امرأة أخيه قد ارتكب إثماً ، لأنه كشف عورة أخيه يموتان ، بل وصرح برجم البكر فقال في السفر الخامس فيمن تزوج بكراً فادعى أنه وجدها ثيباً : فإن كان قذفه إياها حقاً ولم يجدها عذراء تخرج الجارية إلى بيت أبيها ، ويرجمهاه أهل القرية بالحجارة وتموت ، لأنها ارتكبت حوباً بين يدي بني إسرائيل وزنت في بيت أبيها ، نحوّا الشر عنكم ، وإن وجد رجل يسفح بامرأة رجل يقتلان كلاهما : الرجل والمرأة ، بل صرح برجم البكر المكرهة فقال عقب ما تقدم : وإن كان لرجل خطيبة بكر لم يبتن بها بعد ، فخرجت خارجاً فظفر بها رجل وقهرها وضاجعها ، يخرجان جميعاً ويرجمان حتى يموتا ، وإنما تقتل الجارية مع الرجل لأنها لم تصرخ ولم تستغث - انتهى . فالأحاديث المفيدة بالإحصان في هذه القصة ينبغي أن تكون مرجوحة ، لأن رواتها ظنوا أن الجادة الإسلامية شرع لهم .