Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 5-6)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان قد تقدم النهي عن نكاح المشركات ، والمنافرة لجميع أصناف الكفار ، وبيان بغضهم وعداوتهم ، والحث على طردهم ومنابذتهم { هآ أنتم أولاء تحبونهم } [ آل عمران : 119 ] ونحوها لضعف الأمر إذ ذاك وشدة الحاجة إلى إظهار الفظاظة والغلظة لهم لتعظيم دين الله ، حتى كانت خلطتهم من أمارات النفاق . كما سيأتي في كثير من آيات هذه السورة ، وكان الدين وصل عند نزولها من العظمة إلى حد لا يحتاج في إلى تعظيم معظم ، وكانت مخالطة أهل الكتاب لا بد منها عند فتوح البلاد التي وعد الصادق بهان وسبق في الأزل علمها ، فكانت الفتنة في مخالطتهم قد صارت في حد الأمن وسّع الأمر بحل طعامهم ونسائهم ، فقال تعالى مكرراً ذكر الوقت الذي أنزل فيه هذه الآيات ، تنبيهاً على عظم النعمة فيه بتذكر ما هم فيه من الكثرة والأمن والجمع والألفة ، وتذكر ما كانوا فيه قبل ذلك من القلة والخوف والفرقة ، فقال معيداً لصدر الآية التي قبلها إعلاماً بعظم النعمة فيه ، ومفيداً بذكر وقت الإحلال أنه إحلال مقصود به الثبات ، لكونه يوم إتمام النعمة فهو غير الأول : { اليوم } . ولما كان القصد إنما هو الحل ، لا كونه من محل معين ، مع أن المخاطبين بهذه الآيات يعلمون أنه لا محل إلا الله ، بني الفعل للمجهول فقال : { أحل } أي ثبت الإحلال فلا ينسخ أبداً { لكم } أي أيها المؤمنون { الطيبات } أي التي تقدم في البقرة وصفها بالحل لزوال الإثم وملاءمة الطبع ، فهي الكاملة في الطيب . ولما كانت الطيبات أعم من المآكل قال : { وطعام الذين } ولما كان سبب الحل الكتاب ، ولم يتعلق بذكر مؤتيه غرض ، بني الفعل للمجهول فقال : { أوتوا الكتاب } أي مما يصنعونه أو يذبحونه ، وعبر بالطعام الشامل لما ذبح وغيره وإن كان المقصود المذبوح ، لا غيره ، ولا يتخلف حاله من كتابي ولا غيره تصريحاً بالمقصود { حل لكم } أي تناوله لحاجتكم ، أي مخالطتهم للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية ، ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله : { وطعامكم حل لهم } أي فلا عليكم في بذله لهم ولا عليهم في تناوله . ولما كانت الطيبات أعم من المطاعم وغيرها ، وكانت الحاجة إلى المناكح بعد الحاجة إلى المطاعم ، وكانت المطاعم حلالاً من الجانبين والمناكح من جانب واحد قال : { والمحصنات } أي الحرائر { من المؤمنات } ثم أكد الإشارة إلى إقرار أهل الكتاب فقال : { والمحصنات } أي الحرائر { من الذين أوتوا الكتاب } وبني الفعل للمفعول للعلم بمؤتيه مع أنه لم يتعلق بالتصريح به غرض . ولما كان إيتاؤهم الكتاب لم يستغرق الزمن الماضي ، أثبت الجار فقال : { من قبلكم } أي وهم اليهود والنصارى ، وعبر عن العقد بالصداق للملابسة فقال مخرجاً للأمة لأنها لا تعطى الأجر وهو الصداق ، لأنها لا تملكه بل يعطاه سيدها : { إذا آتيتموهن أجورهن } أي عقدتم لهن ، ودل مساق الشرط على تأكد وجوب الصداق ، وأن من تزوج وعزم على عدم الإعطاء ، كان في صورة الزاني ، وورد فيه حديث ، وتسميته بالأجر تدل على أنه لا حد لأقله . ولما كان المراد بالأجر المهر ، وكان في اللغة يطلق على ما يعطاه الزانية أيضاً ، بينه بقوله : { محصنين } أي قاصدين الإعفاف والعفاف { غير مسافحين } أي قاصدين صب الماء لمجرد الشهوة جهاراً { ولا متخذي أخذان } أي صدائق لذلك في السر ، جمع خدن ، وهو يقع على الذكر والأنثى ، فكانت هذه الآية مخصصة لقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] فبقي على التحريم مما تضمنته تلك ما عدا الكتابيات من الوثنيات وغيرهن من جميع المشركات حتى المنتقلة من الكتابيات من دينها إلى غير دين الإسلام ، وصرح هنا بالمؤمنات المقتضي لهن قوله تعالى في النساء { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وقوله { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } [ النساء : 25 ] , ولعل ذكر وصف الإحصان الواقع على العفة للتنبيه على أنه لا يقصد المتصفة بغيره لمجرد الشهوة إلا من سلب الصفات البشرية ، وأخلد إلى مجرد الحيوانية ، فصار في عداد البهائم ، بل أدنى ، مع أن التعليق بذلك الوصف لا يفهم الحرمة عند فقده ، بل الحل من باب الأولى ، لأن من حكم مشروعية النكاح الإعفاف ، فإذا شرع إعفاف العفائف كان شرع إعفاف غيرهن أولى ، لأن زناها إما لشهوة أو حاجة ، وكلاهما للنكاح مدخل عظيم في نفيه . والله أعلم . ولما كان السر في النهي عن نكاح المشركات في الأصل ما يخشى من الفتنة ، وكانت الفتنة - وإن علا الدين روسخ الإيمان واليقين . لم تنزل عن درجة الإمكان ، وكانت الصلاة تسمى إيماناً لأنها من أعظم شرائعه { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم ، وروى الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن قرط رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة ، فإن صلحت صلح سائر عمله ، وإن فسدت فسد سائر عمله " وله في الأوسط أيضاً بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة ينظر في صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح ، وإن فسدت فقد خاب وخسر " وكانت مخالطة الأزواج مظنة للتكاسل عنها ، ولهذا أنزلت آية { حافظوا على الصلوات } [ البقرة : 238 ] كما مضى بالمحل الذي هي به ، لما كان ذلك كذلك ختمت هذه الآية بقوله تعالى منفرداً من نكاحهن بعد إحلاله ، إشارة إلى أن الورع ابتعد عنه ، امتثالاً للآيات الناهية عن موادة المحاد لئلا يحصل ميل فيدعو إلى المتابعة ، أو يحصل ولد ، فتستميله لدينها : { ومن } أي أحل لكم ذلك والحال أنه من { يكفر } أي يوجد ويجدد الكفر على وجه طمأنينة القلب به والاستمرار عليه إلى الموت { بالإيمان } أي بسبب التصديق القلبي بكل ما جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب ، الذي منه حل الكتابيات ، فيدعوه ذلك إلى نكاحهن ، فتحمله الخلطة على اتباع دينهن ، فيكفر بسبب ذلك التصديق فيكفر بالصلاة التي يلزم من الكفر بها الكفر به ، فإطلاقه عليها تعظيم لها { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم { فقد حبط } أي فسد { عمله } أي إذا اتصل ذلك بالموت بدليل قوله : { وهو في الآخرة من الخاسرين * } والآية من أدلة إمانا الشافعي على استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ، فحيث قصد التحذير من الكفر حقيقة فالإيمان حقيقة وحيث أريد الترهيب من إضاعة الصلاة فهو مجاز ، ومما يؤيد ذلك أن في السفر الثاني من التوراة : لا تعاهدن سكان الأرض لكيلا تضلوا بأوثانهم ، وتذبحوا لآلهتهم ، أو يدعوك فتأكل من ذبائحهم ، وتزوج بنيك من بناتهم وبناتك من بنيهم ، فتضل بناتك خلف آلهتهم ويضل بنوك بآلهتهم ، وقال في الخامس منها : وإذا أدخلكم الله ربنا الأرض التي تدخلونها لترثوها ، وأهلك شعوباً كثيرة من بين أيديكم : حتانيين وجرجسانيين وأمورانيين وكنعانيين وفرزانيين وحاوانيين ويابسانيين . سبعة شعوب أكثر وأقوى منكم ، ويدفعهم الله ربكم في أيديكم فاضربوهم واقتلوهم وانفوهم وحرموهم ولا تعاهدوهم عهداً ولا ترحموهم ، وتحاشوهم ولا تزوجوا بناتكم من بنيهم ، ولا تزوجوا بنيكم من بناتهم لئلا يغوين بنيكم عن عبادتي ، ويخدعنهم فيعبدوا آلهة أخرى ، ويشتد غضب الرب عليكم ويهلككم سريعاً ، ولكن اصنعوا بهم هذا الصنيع : استأصلوا مذابحهم ، وكسروا أنصابهم ، وحطموا أصنامهم المصبوغة ، وأحرقوا أوثانهم المنحوتة ، لأنكم شعب طاهر لله ربكم - انتهى . وإذا تأملت جميع ذلك ، وأمعنت فيه النظر لاح لك سرُّ تعقيبها بقوله تعالى في سياق مشير إلى البشارة بأن هذه الأمة تطيع ولا تعصى فتؤمن ولا تكفر ، لما خص به كتابها من البيان الأتم في النظم المعجز مع شرف التذكير بما أفاضه من شرف جليل الأيادي ، فافتتح هذه السورة بالأمر بالوفاء بحق الربوبية ، وأتبعه التذكير بما وفى به سبحانه من حق الربوبية من نوع المنافع في لذة المطعم وتوابعه ولذة المنكح وتوابعه ، وقدم المطعم لأن الحاجة إليه فوق الحاجة إلى المنكح ، فلما أتم ما ألزمه نفسه الأقدس من عهد الربوبية فضلاً منه ، أتبعه الأمر بالوفاء بعهد العبودية ، وقدم منه الصلاة لأنها أشرفه بعد الإيمان ، وقدم الوضوء لأنه شرطها فقال : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا به ! صدقوه بأنكم { إذا } عبر بأداة التحقيق بشارة بأن الأمة مطيعة { قمتم } أي بالقوة ، وهي العزم الثابت على القيام الذي هو سبب القيام { إلى الصلاة } أي جنسها محدثين ، لما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بجمعه بعده صلوات بوضوء واحد وإن كان التجديد أكمل ، وخصت الصلاة ومس المصحف من بين الأعمال بالأمر بالوضوء تشريفاً لهما ويزيد حمل الإيمان على الصلاة حسناً تقدم قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الثابت أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد عصر يوم عرفة والنبي صلى الله عليه وسلم على ناقته يخطب ، وكان من خطبته في ذلك الوقت أو في يوم النحر أو في كليهما : " ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم " رواه أحمد ومسلم في صفة القيامة والترمذي عن جابر رضي الله عنه ، فقوله " المصلون " إشارة إلى أن الماحي للشرك هو الصلاة ، فما دامت قائمة فهو زائل ، ومتى زالت والعياذ بالله - رجع ، وإلى ذلك يشير ما رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن جابر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين العبد والكفر ترك الصلاة " وللأربعة وابن حبان في صحيحه والحاكم عن بريدة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " ولأبي يعلى بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما افترض الله على الناس من دينهم الصلاة ، وآخر ما يبقى الصلاة " . ولما كان الوضوء في سورة النساء إنما هو على سبيل الإشارة إجمالاً ، صرح به هنا على سبيل الأمر وفصله ، فقال مجيباً للشرط إعلاماً بأن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة ، لأن المعلق على الشيء بحرف الشرط يعدم عند عدم الشرط : { فاغسلوا } أي لأجل إرادة الصلاة ، ومن هنا يعلم وجوب النية ، لأن فعل العاقل لا يكون إلا مقصوداً ، وفعل المأمور به لأجل الأمر هو النية { وجوهكم } وحدّ الوجه منابت شعر الرأس ومنتهى الذقن طولاً وما بين الأذنين عرضاً ، وليس منه داخل العين وإن كان مأخوذاً من المواجهة ، لأنه من الحرج ، وكذا إيصال الماء إلى البشرة إذا كثفت اللحية خفف للحرج واكتفى عنه بظاهر اللحية ، وأما العنفقة ونحوها من الشعر الخفيف فيجب { وأيديكم } . ولما كانت اليد تطلق على ما بين المنكب ورؤوس الأصابع ، قال مبيناً إن ابتداء الغسل يكون من الكفين ، لأنهما لعظم النفع أولى بالاسم : { إلى المرافق } أي آخرها ، أخذاً من بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ، فإنه كان يدير الماء على مرفقيه ، وإنما كان الاعتماد على البيان لأن الغاية تارة تدل كقوله تعالى { من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وتارة لا تدخل كقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى اللّيل } [ البقرة : 187 ] والمرفق ملتقى العظمين ، وعفي عما فوق ذلك تخفيفاً { وامسحوا } ولما عدل عن تعدية الفعل إلى الرأس ، فلم يفعل كما فعل في الغسل مع الوجه ، بل أتى بالباء فقال : { برءوسكم } علم أن المراد إيجاد ما يسمى مسحاً في أي موضع كان من الرأس ، دون خصوص التعميم وهو معنى قول الكشاف : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وماسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح . ولما كان غسل الرجل مظنة الإسراف فكان مأموراً بالاقتصاد فيه ، وكان المسح على الخف سائغاً كافياً ، قرىء : { وأرجلكم } بالجر على المجاورة إشارة إلى ذلك أو لأن الغاسل يدلك في الأغلب ، قال في القاموس : المسح كالمنع : إمرار اليد على الشيء السائل . فيكون في ذلك إشارة أيضاً إلى استحباب الدلك ، والقرينة الدالة على استعمال هذا المشترك في أحد المعنيين قراءة النصب وبيان النبي صلى الله عليه وسلم ، ومر استعماله فيه وفيه الإشارة إلى الرفق بالنصب على الأصل . ولما كانت الرجل من موضع الانشعاب من الأسفل إلى آخرها ، خص بقوله دالاً بالغاية على أن المراد الغسل - كما مضى في المرافق ، لأن المسح لم يرد فيه غاية في الشريعة وعلى أن ابتداء الغسل يكون من رؤوس الأصابع ، لأن القدم بعظم نفعه أولى باسم الرجل : { إلى الكعبين } وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم ، وثنى إشارة إلى أن لكل رجل كعبين ، ولو قيل : إلى الكعاب ، لفهم أن الواجب كعب واحد من كل رجل - كما ذكره الزركشي في مقابلة الجمع بالجمع من حرف الميم من قواعده ، والفصل بالمسح بين المغسولات معلم بوجوب الترتيب ، لأن عادة العرب - كما نقله الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب عن الأصحاب - أنها لا تفعل ذلك إلاّ للإعلام بالترتيب ، وقال غيره معللاً لما ألزمته العرب : ترك التمييز بين النوعين بذكر كل منهما على حدته مستهجن في الكلام البليغ لغير فائدة ، فوجب تنزيه كلام الله عنه أيضاً ، فدلالة الآية على وجوب البداءة بالوجه مما لا مدفع له لترتيبها له بالحراسة على الشرط بالفاء ، وذلك مقتضٍ لوجوب الترتيب في الباقي إذ لا قائل بالوجوب بالبعض دون البعض ، ولعل تكرير الأمر بالغسل والتيمم للاهتمام بهما ، وللتذكير بالنعمة في التوسعة بالتيمم ، وأن حكمه باقٍ عند أمنهم وسعتهم كراهة أن يظن أنه إنما كان عند خوفهم وقلتهم وضيق التبسط في الأرض ، لظهور الكفار وغلبتهم ، كما كان المتعة تباح تارة وتمنع أخرى نظراً إلى الحاجة وفقدها ، وللإشارة إلى أنه من خصائص هذه الأمة ، والإعلام بأنه لم يُرد به ولا بشيء من المأمورات والمنهيات قبله الحرج ، وإنما أراد طهارة الباطن والظاهر من أدناس الذنوب وأوضار الخلائق السالفة ، فقال تعالى معبراً بأداة الشك إشارة إلى أنه قد يقع وقد لا يقع وهو نادر على تقدير وقوعه ، عاطفاً على ما تقديره : هذا إن كنتم محدثين حدثاً أصغر : { وإن كنتم } أي حال القصد للصلاة { جنباً } أي ممنين باحتلام أو غيره { فاطهروا } أي بالغسل إن كنتم خالين عن عذر لجميع البدن ، لأنه أطلق ولم يخص ببعض الأعضاء كما في الوضوء . ولما أتم أمر الطهارة عزيمة بالماء من الغسل والوضوء ، وبدأ بالوضوء لعمومه ، ذكر الطهارة رخصة بالتراب ، فقال معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن الرخاء أكثر من الشدة : { وإن كنتم مرضى } أي بجراح أو غيره ، فلم تجدوا ماء حساً أو معنى بعدم القدرة على استعماله وأنتم جنب { أو على سفر } طويل أو قصير كذلك ، ولما ذكر الأكبر أتبعه الأصغر فقال { أو جاء أحد منكم } وهو غير جنب { من الغائط } أي الموضع المطمئن من الأرض وهو أي مكان التخلي ، أي قضيتم حاجة الإنسان التي لا بد له منها ، وينزه الكتاب عن التصريح بها لأنها من النقائص المذكِّرة له بشديد عجزه وعظيم ضرورته وفقره ليكف من إعجابه وكبره وترفعه وفجره . كما ورد أن بعض الأمراء لقي بعض البله في طريق فلم يفسح له ، فغضب وقال : كأنك ما تعرفني ؟ فقال بلى والله ! إني لأعرفك ، أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . ولما ذكر ما يخص الأصغر ذكر ما يعم الأكبر فقال : { أو لامستم النساء } أي بالذكر أو غيره أمنيتم أولا { فلم تجدوا ماء } أي حساً أو معنى بالعجز عن استعماله للمرض بجرح أو غيره { فتيمموا } أي اقصدوا قصداً متعمداً { صعيداً } أي تراباً { طيباً } أي طهوراً خالصاً { فامسحوا } . ولما كان التراب لكثافته لا يصل إلى ما يصل إليه الماء بلطافته ، قصَّر الفعل وعدَّاه بالحرف إشارة إلى الاكتفاء بمرة والعفو عن المبالغة ، وبينت السنة أن المراد جميع العضو ، فقال : { بوجوهكم وأيديكم منه } أي حال النية التي هي القصد الذي هو التيمم ، ثم أشار لهم إلى حكمته سبحانه في هذه الرخصة فقال مستأنفاً : { ما يريد الله } أي الغنى الغنى المطلق { ليجعل عليكم } وأغرق في النفي بقوله : { من حرج } أي ضيق علماً منه بضعفكم ، فسهل عليكم ما كان عسره على من كان قبلكم ، وإكراماً لكم لأجل نبيكم صلى الله عليه وسلم ، فلم يأمركم إلا بما يسهل عليكم ليقل عاصيكم { ولكن يريد ليطهركم } أي ظاهراً وباطناً بالماء والتراب وامتثال الأمر على ما شرعه سبحانه ، عقلتم معناه أو لا ، مع تسهيل الأوامر والنواهي لكيلا يوقعكم التشديد في المعصية التي هي رجس الباطن { وليتم نعمته } أي في التخفيف في العزائم ثم في الرخص ، وفي وعدكم بالأجور على ما شرع لكم من الأفعال { عليكم } لأجل تسهيلها ، ليكون فعلكم لها واستحقاقكم لما رتب عليها من الأجر مقطوعاً به ، إلا لمن لج طبعه في العوج ، وتمادى في الغواية والجهل والبطر { لعلكم تشكرون * } أي وفعل ذلك كله . هذا التسهيل وغيره ليكون حالكم لما سهل عليكم حال من يرجى صرفه لنعم ربه عليه في طاعته المسهلة له المحببة إليه ، روى البخاري في التفسير وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء . وفي رواية : سقط قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة ، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثنى رأسه في حجري راقداً . فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ فجاء أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال : حبست النبي صلى الله عليه وسلم في قلادة ، فبي الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ، وفي رواية : فأنزل الله آية التيمم { فتيمموا } فقال أسيد بن حضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ! ما أنتم إلا بركة لهم ، وفي رواية : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته " وفي رواية له عنها في النكاح أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها ، فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء ، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم ، فقال أسيد بن حضير : جزاك الله خيراً ! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً ، وجعل للمسلمين فيه بركة " وهذا الحديث يدل على أن هذه الآية نزلت قبل آية النساء ، فكانت تلك نزلت بعد ذلك لتأكيد هذا الحكيم ومزيد الامتنان به ، لما فيه من عظيم اليسر وليحصل في التيمم من الجناية نص خاص ، فيكون ذلك أفخم لشأنها وأدل على الاهتمام به .