Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 1, Ayat: 5-5)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { إياك } مفعول { نعبد } ، وقُدِّم للتعظيم والاهتمام به ، والدلالِ على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس : نعبُدك ولا نعبد معك غيرَك ، ولتقديم ما هو مقدَّمٌ في الوجود وهو الملك المعبود ، وللتنبيه على أن العابدَ ينبغي أن يكون نظرُه إلى المعبود أولاً وبالذات ، ومنه إلى العبادة ، لا من حيث إنها عبادةٌ صدَرتْ عنه ، بل من حيث إنها نِسْبَةٌ شريفة إليه ، وَوُصْلَةٌ بينه وبين الحق ، فإن العارف إنما يَحِقُّ وصوله إذا استغفر في ملاحظة جناب القدس ، وغاب عما عداه ، حتى إنه لا يلاحظ نفسَه ولا حالاً من أحوالها إلا من حيث إنها تَجَلٍّ من تجلياته ومظهرٌ لربوبيته ، ولذلك فُضِّلَ ما حكى اللَّهُ عن حبيبه حين قال : { لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [ التّوبَة : 40 ] ، على ما حكاه عن كليمه حيث قال : { إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [ الشُّعَرَاء : 62 ] ، أي : حيث صرّح بمطلوبه ، و { إياك } مفعول { نستعين } وقدّم أيضاً للاختصاص والاهتمام ، كما تقدم في { إياك نعبد } . وكرّر الضمير ولم يقل : إياك نعبد ونستعين لأن إظهارَه أبلغ في إظهار الاعتماد على الله ، وأقطعُ في إحضار التعلق بالله والإقبال على الله وأمدحُ ، ألا ترى أن قولك : بك أنتصر وبك أحتمي وبك أنال مطالبي - أبلغ وأمدح من قولك : بك أنتصر وأحتمي … الخ ؟ وَقَدَّمَ العبادة على الاستعانة ليتوافقَ رؤوسُ الآي ، وليُعلمَ منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أَدْعَى إلى الإجابة ، فإن مَنْ تَلبَّس بخدمة الملك وشرع فيها بحسب وُسْعَه ، ثم طلب منه الإعانة عليها أجيب إلى مطلبه ، بخلاف من كلّفه الملكُ بخدمته ، فقال : أعطني ما يعينُني عليها ، فهو سوء أدب ، وأيضاً : من استحضر الأوصافَ العِظام ما أمكنه إلا المسارعةُ إلى الخضوع والعبادة ، وأيضاً : لمّا نسبَ المتكلمُ العبادةَ إلى نفسه أوْهَمَ ذلك تبجحاً واعتداداً منه بما يصدُر عنه فعقَّبه بقوله : { وإياك نستعين } ، دفعاً لذلك التوهم . والعبادة : أقصى غاية الخضوع والتذلل ، ومنه طريق مُعَبَّدٌ ، أي : مُذَلل ، والاستعانة ، طلب المعونة ، والمراد طلب المعونة في المُهمات كُلِّها ، أو في أداء العبادات . والضمير المستتر في الفعلين للقارئ ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة ، أو له ولسائر الموجودين . أدْرَجَ عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعلها تُقبل ببركتها ويُجاب إليها ، ولهذا شرعت الجماعة . قاله البيضاوي . يقول الحقّ جلّ جلاله ، تتميماً لتعليم عباده : فإذا أثنيتمُ عليَّ ومجدتموني وعظمتموني فأقِرُّوا لي بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا مني العون في كل وقت وقولوا : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وكأنه - جلّ جلاله - لَمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها لأنه رب العوالِم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولاً بالإيجاد ، وثانياً بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يُعبد سواه إذ لا مُنعمَ على الحقيقة إلا الله ، فهو أحقُّ أن يُعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مُسْتَبِدٌ وغير مُسْتَمدّ ، والمادة من عَيْنِ الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود . قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميَّز بها عن سائر الذوات ، تعلَّق العلمُ بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، لكون أدلّ على الاختصاص ، وللترقي من الغَيْبة إلى الشهود ، وكأن المعلومَ صار عياناً ، والمعقولَ مُشاهَداً ، والغيبة حضوراً ، بَنَى أول الكلام على ما هو مبادئ حالِ العارفِ من الذكر والفكر والتأمل في أسمائه ، والنظر في آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفَّى بما هو منتهى أمرِه ، وهو أن يخوض لُجَّةَ الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عياناً ويناجيه شِفاها ، اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر . ومن عادة العرب التفنن في الكلام والعدول عن أسلوبٍ إلى آخر ، تَطْريَةً وتنشيطاً للسامع ، فَتَعْدِل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ … } [ يُونس : 22 ] ، ولم يقل بكم وقوله : { أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ … } [ فَاطِر : 9 ] ، أي : ولم يقل : فساقه … انظر تمام كلامه . والالتفات هذا في قوله : { إياك نعبد } ولم يقل : إياه نعبد لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيَّن وصار حاضراً . قال الأقليشي : فهذه الآية هي التي قال فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم : " فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى : هذه بيني وبين عَبْدِي ولعَبْدِيَ مَا سَأَلَ " معناه : أيُّ عبد توجَّه إليَّ بالعبادة وسألني العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون مني له عليها حاصل حتى يُوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من الله تعالى للعبد ، فلهذا قال : " فهذه بيني وبين عبدي " . قال ابن جُزَي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفي هذا دليل على بطلان قول القدَرية والجبرية ، وأنَّ الحق بين ذلك . { الإشارة } : لمّا تجلّى الحقّ جلّ جلاله من عالم الجبروت إلى عالم الملكوت ، وحَمِدَ نفسه بنفسه ، تجلّى أيضاً وتنزَّل من عالم الملكوت إلى عالم المُلك بقدرته وحكمته لإظهار آثار أسمائه وصفاته ، فأظهر العبودية وأخفى الربوبية ، أظهر الحكمة وأبطن القدرة ، فجعلَ عالَم الحكمة يخاطبُ عالمَ القدرة ، ويخضع له ، ويتعبّد ويستمد ، منه الإعانة والهداية ، ويتحرز من طريق الضلالة والغواية . فعالَمً الحكمة محلُّ التكليف ، وعالم القدرة محل التصريف ، عالم الحكمة عالم الأشباح ، وعالم القدرة عالم الأرواح ، فإياك نعبد لأهل عالم الحكمة ، وإياك نستعين لأهل عالم القدرة ، ولذلك قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : { إياك نعبد } شريعة ، و { إياك نستعين } حقيقة ، و { إياك نعبد } إسلاماً ، و { إياك نستعين } إحساناً ، { إياك نعبد } عبادة ، و { إياك نستعين } عبودية ، { إياك نعبد } فَرْقٌ ، { إياك نسعتين } جَمْعٌ . هـ . وإن شئت قلت : { إياك نعبد } لأهل العمل لله وهم المخلصون ، و { إياك نستعين } لأهل العمل بالله وهم الموحِّدون ، العمل لله يوجب المثوبة ، والعمل بالله يوجب القُرْبَة ، العمل لله يوجب تحقيق العبادة ، والعمل بالله يوجب تصحيح الإرادة ، العمل لله نعتُ كُلِّ عابد ، والعمل بالله نعت كل قاصد ، العمل لله قيامٌ بأحكام الظواهر ، والعمل بالله قيام بإصلاح الصمائر ، قاله القشيري . ثم إنَّ الناسَ في شهود القدرة والحكمة على ثلاثة أقسام : قسم حُجبوا بالحكمة عن شهود القدرة ، وهم أهل الحجاب من أهل الغفلة ، وقفوا مع قوله : { إياك نعبد } ، وقسم حُجبوا بشهود القدرة عن الحكمة ، وهم أهل الفناء ، وقفوا مع قوله : { إياك نستعين } ، وقسم لم يحجبوا بالحكمة عن القدرة ولا بالقدرة عن الحكمة ، أَعْطَوا كُلَّ ذي حق حقَّه وَوَفَّوْا كل ذي قسط قسطه ، وهم أهل الكمال من أهل البقاء ، جمعوا بين قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وبالله التوفيق .